مواد أخرى » كيفية احتواء إيران النووية

إيران، السيطرة على التسلح، الشرق الأوسط، عدم الانتشار النووي، الأسلحة النووية
سوزان مالوني ( زميلة قديمة،Foreign Policy،  Saban Center for Middle East Policy)
The American Prospect
5 آذار، 2012

قبل أربع سنوات، عندما كان باراك أوباما، السيناتور آنذاك، يخوض غمار معركة قاسية لترشيحه من قبل الديمقراطيين للرئاسة، قام  بشيء لم يقم به أحد تقريباً لأجل الوصول للمنصب الوطني في الولايات المتحدة: عرض منطقاً بدل الإثارة حول موضوع إيران. معلناً في مناظرة أولية عن استعداده للاجتماع  برئيس إيران المهان، محمود أحمدي نجاد، وأن نجاد ليس متطرفاً كما يبدو. بالواقع، لقد سعى كل رئيس من الرؤساء الأميركيين منذ الثورة الإيرانية عام 1979 إلى إجراء مفاوضات مع إيران. لكن في سياق بلد لا يزال مستقطباً بسبب حرب العراق، بدا عرض أوباما وكأنه خطأ شخص مبتدئ. فقد وصفت هيلاري كلينتون، منافسته الديمقراطية في ذلك الحين، موقف أوباما بأنه ' غير مسؤول، وساذج بصراحة'، أما معارضوه الجمهوريون  فكانوا أقل كرماً. واختار أوباما، تحت الضغط، مضاعفة جهوده بدلاً من التراجع، ملقياً الضوء على التزامه بالديبلوماسية كرمز لنيته إعادة التمهيد لدور أميركا في العالم.

أما اليوم، فقد أصبح تبني أوباما للحوار مع إيران مجرد ذكرى بعيدة، ذكرى قد تفضل الإدارة نفسها عدم إحيائها ربما. فالاقتراحات والمبادرات الديبلوماسية الأولى من قبل واشنطن تجاه إيران قد فشلت بجرها إلى مفاوضات. وحتى عندما كان المسؤولون الأميركيون يواصلون المفاوضات، فقد كان الجدل البيزنطي الدائر دائماً في الجمهورية الإسلامية يجعل الحياة السياسية المنقسمة والمعاندة تصبح أكثر شللاً وقمعاً. فمع وجود إيران غير المستعدة أو غير القادرة على إقامة حوار، تحولت الإدارة الأميركية عن استراتيجيتها، لصياغة برنامج طموح من الضغط بأمل إجبار طهران على المجيء إلى طاولة المفاوضات وذلك حيث فشلت الإغراءات. وعلى مدى العامين التاليين، تمكنت الإدارة من جمع أكبر ائتلاف دولي ونشرت أقسى مروحة من العقوبات الاقتصادية سبق لها أن حركتها ضد إيران.

كانت هذه العقوبات لتعتبر إنجازات كبرى لولا التناقض الواضح الموجود: لم تستطع واشنطن وقف مسيرة طهران العنيدة نحو القدرة على امتلاك سلاح نووي. فالعقوبات فرضت أثماناً هائلة على إيران، لكن قيادتها، وبدعم من مشاعر الانتهازية وجنون العظمة الخطيرة، لا تزال تتحدى. فبدلاً من الالتواء تحت الضغط، وعد القادة الإيرانيون بالانتقام من المصالح الأميركية. ولا يزال المسؤولون الأميركيون يقولون بأن المفاوضات تبقى الطريق المفضل للسير قدماً،  لكن من الصعب تصور وجود حوار بناء بين الثيوقراطيين الإيرانيين الثوريين وبين الأمة التي خططت لجعل اقتصاد بلدهم ينهار.

هناك أمران متقلبان وغامضان ومترابطان هما بمثابة صب الزيت على نار هذه الأزمة: الأجندة السياسية الأميركية والحسابات الإسرائيلية. لقد تذرع المنافسون لترشيح الجمهوريين وتحدي أوباما في انتخابات تشرين الثاني بإيران بصفتها رمزاً لما يعتبرونه فشل وضعف الإدارة في القضايا والشؤون العالمية. ففي إثارتهم لتشبيهات بألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي، سعى المرشحون الجمهوريون للتغلب على خطاب منافسيهم حول إيران. إن أحكامهم المطلقة حول إيران تردد صدى اللازمة الصادرة عن إسرائيل مؤخراً، حيث إعلان حالة الطوارئ بشأن إيران دائم وقديم، إلا أن  نذر الشؤم بحصول ضربة عسكرية ضد المواقع النووية الإيرانية تلوح في الأفق اليوم كما لم يكن عليه من قبل أبداً.

تفرض واشنطن الآن إجراءات وحشية المقصود منها صراحة تركيع طهران وتهدف ضمنياً إلى تفنيد نقد الجمهوريين ومنع قيام إسرائيل بضربة استباقية. إنه عمل توازن وقتي وعابر. لقد أصبحت السياسة الأميركية حول إيران منفصلة، أكثر فأكثر، عن هدفها الظاهري الواضح ـ المفاوضات ـ وهذا الانجراف السياسي يحمل في طياته خطر سوء الحسابات إضافة إلى وجود دوامة تصاعدية قد يكون لها نتائج وعواقب كارثية على الأمن الأميركي والاقتصاد العالمي. وتبقى الحقيقة البسيطة والواضحة التي من غير المستحب الاعتراف بها سياسياً في سنة انتخابيةـ أن إيران تهديد عميق تتحيّر حتى قوة عظمى وحيدة في العالم بإيجاد العلاج اليسير لها.

سجل أوباما

مثّل تأييد أوباما للحوار خلال حملته الرئاسية الأولى استثماراً هاماً وبارزاً لرأسمال سياسي ومرشح ذي أوراق اعتماد أمنيةـ وطنية محدودة. وبذلك يبدو الأمر أنه قد عكس القناعة الشخصية لدى الرئيس وهي أن بإمكان الديبلوماسية النشيطة إنتاج تقدم ما حول مشكلة قديمة. وقد طرح انتصاره في الانتخابات الرئاسية توقعات حول فرص إعادة تنشيط المفاوضات المتعددة الأطراف حول أنشطة إيران النووية التي كانت قد توقفت لأكثر من عامين، بفضل رفض طهران تعليق برنامج تخصيب اليورانيوم. وفي أشهره الأولى، نقل البيت الأبيض التزامه بالمفاوضات مع طهران عبر وسائل الإعلام وفي الجلسات الديبلوماسية إضافة إلى اتصالين مباشرين غير مسبوقين، على ما قيل، من الرئيس أوباما مع القائد الأعلى الإيراني آية الله علي الخامنئي. لقد خففت الإدارة من الموقف الأميركي حول المشاركة في محادثات متعددة الأطراف مع إيران، متخلية عن إصرارها السابق على تعليق تخصيب اليورانيوم كشرط مسبق للديبلوماسية الأميركية. في النهاية، تراجع أوباما عن التهديدات الضمنية باستخدام القوة ضد إيران، مفضلاً العبارات المحللَّة بعناية وحذر  (المستعارة من سلفه الرئيس بوش الأكثر تشدداً) وهي أن القدرة على امتلاك سلاح نووي إيراني أمر ' غير مقبول' وبأن ' كل الخيارات مطروحة على الطاولة' للتعامل مع إيران.

في كل الأحوال،  وكما أصبح واضحاً بسرعة، لم يقصد أوباما أبداً أن تعتمد السياسة الأميركية فقط، أو حتى بشكل رئيس حتى، على الحوافز الإيجابية تجاه إيران. إذ قالت الإدارة الأميركية بأن الإجراءات العقابية أساسية وجوهرية لمنع إيران من استغلال المفاوضات لشراء الوقت بينما تتسابق للحصول على سلاح نووي، وهي حيلة تكهن بها منتقدو أوباما. فمنذ البداية، شدد البيت الأبيض على نواياه الحسنة والتي طالت مدتها إلى عام واحد كحد أخير. ففي نيسان 2009، حذرت وزيرة الخارجية كلينتون من أن طهران قد تواجه ' عقوبات معوقة'، وفي أيار 2009، أشار الرئيس إلى أن واشنطن خططت لإجراء تقييم  مع نهاية العام على أساس أن ذلك ' هام بالنسبة لنا، باعتقادي، من دون وضع حد نهائي مصطنع، لنكون مدركين لواقع أنه لن يكون لدينا هناك محادثات في أي وقت.'

أملَ المسؤولون الأميركيون بأن تقود الانتخابات الرئاسية الإيرانية في حزيران 2009 إلى تقبل جديد للمقترحات الأميركية، لكن بدلاً من ذلك ولد الإعلان عن انتصار أحمدي نجاد الملتبس اضطرابات غير مسبوقة داخل إيران. ففي غضون بضعة أسابيع، سحقت القوى الأمينة الإيرانية التظاهرات في الشوارع، لكن قيادة البلد كانت منقسمة، وتم تلفيق الاتهامات لأول حركة معارضة جدية منذ ثورة 1979. أما واشنطن، التي أُخذت على حين غرة، فقد تحركت بحذر. ' لم نكن نريد التدخل بين التظاهرات والاحتجاجات المشروعة للشعب الإيراني وبين القيادة. ونعلم بأنه لو تدخلنا باكراً جداً، وبشدة، فإن الاهتمام كان سيتحول بشكل كبير، وكانت القيادة ستحاول استخدامنا لتوحيد البلد ضد المتظاهرين'، قالت كلينتون بعد بضعة أشهر.
 في كل الأحوال، وفي أعقاب الثورة، استمرت واشنطن بجس النبض والاستطلاع خلف الكواليس لترى كيف يمكنها جر طهران إلى مفاوضات ذات هدف ومعنى. وفي واحدة من الأمور المثيرة للسخرية في التاريخ المتلوي لإيران ما بعد الثورة، جاءت فرصة أوباما الوحيدة لمفاوضات تكون بمثابة انطلاقة  في نفس اللحظة تماماً التي كان ما تبقى من مصداقية طهران قد تحطم. فطلب إيران شراء الوقود لمفاعل أبحاث نووي لأغراض طبية حفز المسؤولين الأميركيين، مع المسؤولين الروس والأوروبيين، على استنباط اقتراح خلاق يعمل كمعيار لبناء الثقة. وتلخّصَ المخطط بمبادلة  الوقود المزود من قبل الغرب للمفاعل الطبي في مقابل تنازل طهران عن مخزونها من اليورانيوم المتدني التخصيب ( LEascii85). ووقع المفاوضون الإيرانيون، مبدئياً، على الاتفاق لكنهم تخلوا عنه بعد عودتهم إلى طهران.. والنتيجة كانت فقداناً أعمق للثقة.

 تحول برنامج اوباما للحوار، وبسلاسة، إلى جهود للضغط على إيران. هنا، اعتمدت الإدارة على النموذج ـ والموظفين ـ الذي وضعته الإدارة السابقة، النموذج الذي طور آليات جديدة لتوسيع نطاق العقوبات الأميركية من دون تعريض المعارضة من حلفاء أميركا للخطر. فقد وسعت الإدارة الأميركية من القيود المالية التي بدأت تجعل إيران عاجزة عن القيام بمشاريع مع قسم كبير من العالم المتطور. إذ أضيفت الإجراءات التي تستهدف منتهكي حقوق الإنسان. وزادت وزارة الخزانة الأميركية من حجم حملتها للتأكيد على المخاطر المتعلقة بسمعة البلدان المستمرة بمشاريعها مع طهران.

ظلت الأمم المتحدة النقطة المركزية، بالضرورة، للسياسة الأميركية حول إيران. فبعد ستة أشهر  من الذهاب والإياب بين الأوروبيين، الروس، والصينيين، تمكن المسؤولون الأميركيون من صياغة إجماع عام حول قرار يتضمن حظراً على الأسلحة التقليدية إضافة إلى لغة مكنت بلداناً أخرى من سن وإحداث عقوبات أشد حتى. أما بالنسبة لإدارة أوباما، فقد مثل مجلس الأمن أساساً للضغط على إيران بدلاً من أن يكون تتويجاً لهذا الضغط. ففي الأسابيع التي تلت المصادقة على القرار، أعلن الإتحاد الأوروبي عن حظر غير مسبوق على قطاع الطاقة الإيراني، وأشارت موسكو إلى أنها ستمسك عن  بيع منظومات مضادة للصواريخ كان مخططاً لها لطهران، ووقع أوباما على قوانين  'العقوبات الشاملة على إيران'، ' المحاسبة'، و' سحب الاستثمارات'،  التي تحظر، من بين إجراءات أخرى، مبيعات المنتجات البترولية المكررة إلى طهران.

أما بما يتجاوز العقوبات، فقد عملت الإدارة على نشر أشكال أخرى من الضغط. فقد نسبت لها مجموعة من الأعمال الخفية الهادفة إلى إحباط التطور النووي الإيراني إلى واشنطن و / أو حلفائها، بما في ذلك فيروس الحاسوب ' ستاكسنت' الذي يبدو أنه أعاق مؤقتاً البرنامج النووي إضافة إلى سلسلة من عمليات الاغتيال لعلماء نوويين إيرانيين. وحتى عندما كان الضغط على النظام يشتد، كانت الإدارة تسعى للوصول إلى الإيرانيين العاديين، وذلك بتثبيت أول ناطق باسم وزارة الخارجية باللغة الفارسية وتنفيذ برامج لتوسيع نطاق إمكانية وصول الإيرانيين إلى المعلومات والتكنولوجيا، والبدء بإصدار تأشيرات دخول متعددة للشباب الإيرانيين الذين يدرسون في الولايات المتحدة.

مع ذلك، ظلت إيران غير مستعدة للمساومة. ففي بداية إتفاق تبادل الوقود المنهار، لم يكن هناك سوى تفاعلات عرضية فحسب بين المفاوضين الأميركيين ونظرائهم الإيرانيين. لم تقم طهران بأي شيء للإشارة إلى تراجع طفيف، حتى عن إصرارها على الحفاظ على برنامج تخصيب واسع النطاق لليورانيوم. بدلاً من ذلك، لم تؤد الاضطرابات في العالم العربي على مدار العام 2011 إلا إلى تفاقم الهواجس الأميركية القديمة بشأن الطموحات الإيرانية. بالواقع، لقد أثبتت السياسة الخارجية الإيرانية عدائية جديدة، كما ظهر جلياً في المزاعم بشأن تواطؤ البلد في مؤامرة لقتل السفير السعودي في واشنطن وهجوم تشرين الثاني، 2011 على السفارة البريطانية في طهران. وفي أواخر العام 2011، كان هناك دليل على أن إيران تنقل مخزونها من اليورانيوم المتدني التخصيب إلى مراكز محصنة وسرية تحت الأرض كي لا تكون عرضة لضربات جوية.

بفضل هذه التطورات ـ التي سهلتها إلى حد كبير  الحماسة الإسرائيلية ـ اتخذت السياسة الأميركية تجاه طهران منحى شعور الحاجة الملحة والطارئة التي تصل إلى حدود الذعر. فبعد التأييد الشامل تقريباً من قبل مجلس النواب الأميركي، قام أوباما بخطوة دراماتيكية تتعلق بفرض عقوبات على البنك المركزي الإيراني مع نهاية العام. إن هذا الإجراءـ إذا ما فُرض وتم الامتثال له بالكامل ـ سيخفض العائدات الإيرانية، عملياً، ويستأصل واحدة من الدول الكبيرة العالمية المصدرة للنفط من السوق. وأتبع ذلك إعلان الإتحاد الأوروبي مقاطعته لصادرات النفط الخام الإيراني. هناك فترة سماح تمتد 6 أشهر لكلا الإجراءين، لذا فإن تأثيرهما الدقيق لا يزال غامضاً، إلا أن الأخبار هزت الشعب الإيراني إضافة إلى القيادة الإيرانية. وساعد الاندفاع الجماهيري الضخم للحصول على العملات الأجنبية على هبوط سعر الريال الإيراني ، ليخسر أكثر من نصف قيمته في أقل من شهر، وتعرض التقارير الواردة أن الإيرانيين ربما يستعدون لظروف أسوأ حتى. أما من جانبه، فقد رد النظام بالتهديد بإغلاق مضيق هرمز، الذي يمر من خلاله 20 بالمئة من صادرات العالم من النفط كل يوم. نتيجة لذلك، وفي حين أن الحرب بين الولايات المتحدة وإيران لا تعتبر وشيكة، فليس من المستحيل تصور حصول صراع مسلح مباشر.

ما الذي جرى بشكل خاطئ ؟

 هناك أمر معين مثير للسخرية في مأزق الإدارة الحالي ـ  احتمال أن يثبت الصراع العسكري أنه ذروة جهود رئيس خاطر بحملته الانتخابية للترويج للحوار مع الخصوم. هذا الأمر لم يكن في نية كبار المسؤولين الأميركيين منذ البداية، بحسب زعم بعض منظري المؤامرة. الحوار لم يكن حيلة. لقد أشارت جهود الإدارة الأولى لتشجيع المحادثات إلى التزام أوباما بالديبلوماسية.
مع ذلك، وبالنسبة لعدد من المعلقين الذين يدعمون الحوار مع إيران، فإن الفشل بحل الخلافات يكمن عند أعتاب واشنطن تماماً. فلو أن المقترحات الأميركية كانت جوهرية ومستدامة أكثر أو كانت أكثر براعة في التنقل بين حقول الألغام الفئوية الإيرانية التي لا تنتهي؛ لو أن المسؤولين  الأميركيين  قدروا فقط الإشارة البارعة الصادرة عن طهران؛ لو أن بإمكان واشنطن فحسب تجاوز وسواس العداوة المستحوذ عليها تجاه الجمهورية الإسلامية: في تلك المسألة يكمن الجواب لوقف التقدم النووي الإيراني وحل الجفاء الواسع الموجود بين البلدين. هذه رواية مشوهة لا تنم إلا عن القليل من الوعي لجهود واشنطن التي بدأت بها والتي تنسب لنفسها قابلية أكبر للحوار عما كانت طهران قد أظهرته في معظم السنوات الـ 33 الماضية.

بالواقع لقد رفضت طهران علناً فكرة المفاوضات مع الولايات المتحدة حتى، مع وجود استثناءات قليلة بارزة ـ على سبيل المثال، الحوار الإيراني ـ الأميركي ما بعد هجمات 11 أيلول. وقد استخدم الرؤساء الأميركيون، من الحزبين، مختلف الآليات لحث طهران وإقناعها بدخول المحادثات، وقد اصطدمت كل هذه المقترحات، تقريباً، بعقبات، ذلك لأن القيادة الإيرانية كانت منقسمة جداً عادة. لم يكن الوضع الأوسع نطاقاً للنظام الإيراني على امتداد عام 2009 ينم عن أية إشارة اهتمام بتحسين العلاقة مع واشنطن ـ الانتخابات التي شابتها عيوب عميقة، تحطيم المعارضة الشعبية، النزاع المرير بين النخب، الكشف عن محطة تخصيب مشبوهة جديدة، ورفض تبادل الوقود. بالإجمال،  يشير الدليل إلى أن الجمهورية الإسلامية كانت في السنوات الثلاث الماضية غارقة، وعلى نحو متزايد، في القمع والانقسام. انهار فيها التفويض الشعبي لها، ولم يكن بإمكان قيادتها، ولا كانت تريد، التفاوض حول قضايا ثانوية حتى مع الغرب. هذا التفسير لا يعتبر تفسير المسؤولين الأميركيين فحسب وإنما يشاركهم فيه، وفي بعض الحالات بقوة أكبر، الروس والأوروبيون.

في كل الأحوال، من الواضح أيضاً، أن الاستراتيجية المتبناة على مدار السنوات الثلاث الماضية كانت محل اشكال. فالمسؤولون الأميركيون كانوا، في البداية، واثقين جداً، مفتونين جداً بإحياء القوة الناعمة الأميركية، ومقتنعين للغاية بأن انتخاب قائد أميركي ذي ميول ديبلوماسية ـ وقائد صدف أن اسمه يقارب عبارة ' هو معنا' بحسب ورودها بالفارسية ـ سيشجع طهران على القيام بأول تجربة جدية في مجال الديبلوماسية مع ' الشيطان الأكبر'.

 أثبت انقلاب الإدارة الأميركية اتجاه العقوبات أنه مجزِ بشكل استثنائي، بما يتعلق بالدعم الدولي على الأقل، لكن هذا الأمر قوضته حسابات خاطئة في نهاية المطاف. فلأول مرة منذ ثلاثة عقود، وافقت عشرات الدول ـ عدد منها من أهم الشركاء التجاريين لإيران ـ على تعريض مصالحهم الاقتصادية للخطر بأمل تعديل وتخفيف السياسات الإيرانية. لقد تخطت روسيا التفويض القانوني لإجراءات الأمم المتحدة في توسيع غير عادي لدعم الضغط الأميركي، وبرغم الإجراءات الأخيرة والقاسية ضد البنك المركزي الإيراني التي فرضتها كل من بكين وواشنطن علناً، لكن بتعارض مهذب، يستمر التعاون خلف الكواليس.  

برغم هذه الانجازات، تقصر واشنطن حيث يكون الأمر هاماً ـ ما ينتج تغييراً ذا معنى في السلوك الإيراني. فالعقوبات لم تقنع القادة الإيرانيين بأن مصالحهم سوف تُخدم بشكل أفضل عن طريق التخلي عن طموحاتهم النووية أو حتى عند فتح حوار جاد مع واشنطن. بدلاً من ذلك، أصبحت واشنطن عالقة في فخ منطقها المتمسك بعبارة ' الضغط ينجح'، بحسب تعبير كبير مستشاري البيت الأبيض السابق دينيس روس. لقد إنتهى التزام الإدارة بهذه الصيغة بنوع من المنطق الدائري: عندما يفشل الضغط بتحقيق النتيجة المرجوة، فإن الحل الوحيد يكون بالضغط الإضافي.

الصيغة نفسها ليست هي المشكلة. إذ يمكن للضغط أن ينجح في إعادة تشكيل أولويات إيران لكن نادراً ما يكون ذلك بترتيب مختصر وإنما فقط عندما تستنتج طهران أن انقلاباً في السياسة هو ما سيولد نتيجة أفضل. فتاريخياً، أثبتت إيران قدرة على الصمود في وجه المحن للحصول على مكاسب موجودة في تصورها. فالبلد لديه خبرة كبيرة ووافية بالضائقة والمصاعب الاقتصادية الشديدة، وذلك بفضل التأثير المؤلم للثورة والحرب مع العراق. فالنظام متمكن وعلى دراية جيدة بمسألة عزل دوائره الناخبة المفضلة وتحديد المزودين البديلين بالسلاح والتكنولوجيا. فضلاً عن ذلك، إن النظام مقتنع بأن إيران أقل عرضة للأثمان المباشرة  للعقوبات المعوقة من الغرب المعرض ربما للأثمان غير المباشرة لهذه العقوبات المفروضة؛ فالنظام يعلن بالصوت الملآن ويبشر بالخراب وبأن أسعار النفط المرتفعة ستحطم اقتصادات منطقة اليورو والولايات المتحدة الحساسة.

في النهاية، قد تؤدي نوايا أوباما الفضلى إلى النتيجة التي سعت الإدارة إلى تجنبها. لقد غيرت واشنطن التقييم المتعلق بالثمن والمكاسب المتعلق بإيران، لكن بأسلوب متناقض: كلما حشرت واشنطن طهران في الزاوية أكثر، كلما أصبحت القيمة المتصورة للردع النووي جذابة أكثر في أذهان القيادة الإيرانية. وكما أعلن الخامنئي مؤخراً، ' نحن لسنا أمة من النوع التي تجلس خاملة بطالة وتترك نمور الورق الماديين، المتعفنين من الداخل الذين يتآكلهم النمل، تهدد أمة إيرانية قوية وصلبة كالحديد. نحن نرد على التهديدات بتهديدات مماثلة.'

إيران والحملة

بالنسبة للسياسيين الأميركيين، فإن الكلام بشكل قاس عن إيران يعتبر سياسة خارجية مساوية لتقبيل الأطفال ـ قد تكون بمثابة كليشيه ، لكنها ناجحة وتعمل. هذا يعتبر صحيحاً بما يتعلق بالجمهوريين تحديداً. لقد عملت إيران كإسفين فعال منذ دورها في انهيار فرص إعادة انتخاب الرئيس جيمي كارتر في العام 1980. فبينما تجاوز الرأي العام الأميركي السائد الجدل المسبب للانقسام الذي ساد العقد السابق، وبينما يستعصي الصراع المستمر في أفغانستان على الحصول على الاهتمام المحلي المكثف، تظل إيران القضية البارزة والشهية ـ بلد  له تأثير غريب  في الروح السياسية الأميركية.  فحتى في الانتخابات التي يرجح أن تتوقف على الحالة الاقتصادية، كان يتم التلويح بإيران من قبل المرشحين المتنافسين على الترشيح الجمهوري للرئاسة. وباستثناء رون بول، الذي جعل منه موقفه المناهض للتدخل نموذج فشل مفيداً للباقين في مجال الترشح، سعى خطاب الحملة للحزب الجمهوري إلى الإضاءة على الأنشطة النووية الإيرانية المستمرة كإحدى الاخفاقات الرئيسة في إدارة أوباما.

تقدم رواية الجمهوريين إيران على أنها بؤرة التهديد الدولي الواسع النطاق الذي يوازي بخطره تهديد الشيوعية العالمية بعد الحرب العالمية الثانية. وقام ميت رومني بمقارنة صريحة، مستشهداً بالرئيسين هاري س. ترومان ورونالد ريغان واصفاً إيران بأنها ' عازمة، مرة أخرى، على إنشاء إمبراطورية شريرة مبنية على موارد الشرق الأوسط'. وفي خطاب سياسي رئيس له حول إيران في العام 2007، وصف رومني إيران  بأنها ' قلب التهديد الجهادي' و' أكبر تهديد للعالم منذ سقوط الإتحاد السوفياتي  وقبله ألمانيا النازية.' وفي مقابلة مع الهيئة التحريرية لصحيفة وول ستريت جورنال، قال رومني : ' إني أرى القيادة الإيرانية كشيطان. عندما يقف الرئيس ويقول بأن لدينا مصالح مشتركة مع كل الشعوب في العالم فإني لا أوافقه الرأي بذلك. هناك أناس أشرار. هناك أناس لديهم النية لإخضاع وقمع شعوب أخرى؛ إنهم أشرار. أميركا بلد جيد.'

وقد طور رومني ومنافسوه مفهوم الالتزام الصارم بعمل عسكري ضد برنامج إيران النووي وبأن ذلك ينبغي أن يعمل كنوع من الاختبار الحاسم للسياسة الخارجية الأميركية، حيث أشار المحافظ السابق بأسلوب شديد الوطأة في تشرين الثاني 2011  وفي عنوان عريض لصحيفة وول ستريت جورنال فقال: ' لن أدع إيران تحصل على رؤوس نووية'. وقد شجب المرشحون الجمهوريون خطاب أوباما المقيد والمحصور، رغم أنه يستعير مفرداته، وبشدة، من خطاب الرئيس جورج دبليو بوش. إن اللغة التي يوظفونها أكثر صراحة وطموحاً. فقد أعلن رومني في مناظرة في تشرين الثاني 2011، ' إذا ما أعدنا انتخاب باراك أوباما، فسيكون لدى إيران سلاح نووي. وإذا ما انتخبنا ميت رومني، لو أنتم أحببتم أن أكون الرئيس المقبل، فلن يكون لدى الإيرانيين سلاح نووي.'

في كانون أول، أيد ريك سانتورام صراحة الاستخدام القصير الأمد للقوة لمعالجة طموحات إيران النووية. فمن جانبه، لم ينأَ نيوت غينغرتش، الناطق السابق باسم البيت الأبيض، بنفسه عن تأييد ضربة لكنه شدد على العوائق اللوجستية إزاء وضع نهاية لأنشطة طهران النووية.  واصفاً تأييد منافسيه للعمل العسكري ضد برنامج إيران النووي بأنه ' خيال'. ويشدد غينغرتش بدلاً من ذلك على الإجراءات المقصود بها ' كسر النظام الإيراني'. بالواقع  لقد شدد عدد من المرشحين الجمهوريين على الاستفادة من القوة والديبلوماسية الأميركية لتحويل مسار السياسات الداخلية الإيرانية. وفي العام 2005، شارك سانتورام في رعاية إجراء في مجلس الشيوخ خصص 10 ملايين دولار لتغيير النظام في إيران.

إن تركيز الجمهوريين على إيران ، من حيث الجوهر، يعكس قلقاً في أوساط عدد من المحافظين الأميركيين. فالولايات المتحدة، وقد شنت الآن حملتين عسكريتين طويلتين ومكلفتين في الشرق الأوسط وفي الوقت الذي انسحب فيه الجنود الأميركيون من العراق ويستعدون فيه للانسحاب من أفغانستان، تشعر بشعور مزعج وهو أن مصداقية القوة الإكراهية للبلد لم ترجع بعد وبأن الأعداء كإيران يستغلون الضعف الأميركي.

من المبكر جداً في الحملة قياس فعالية انتقاد الجمهوريين، إلا أن الاستطلاع الذي قامت به صحيفة واشنطن بوست في كانون الثاني 2012 يلقي الضوء على ضعف الرئيس بخصوص قضية إيران.  إذ رفض نصف المستطلعة آراؤهم تقريباً إستراتيجية الإدارة، نسبة أقل، بشكل لا بأس به، من نسبة الدعم الشعبي العميق للرئيس حول الإرهاب وقضايا أخرى تتعلق بالسياسة الخارجية. وعلى خلاف التحديات الدولية الشائكة ككوريا الشمالية أو باكستان، يوفر الطرق على رأس الرئيس بمسألة إيران للجمهوريين مكسباً إضافياً يتمثل في الصدى الذي يجدونه لدى الناخبين المؤيدين لإسرائيل بقوة في المجتمعين اليهودي والمسيحي البروتستانتي معاً.

 في كل الأحوال،ما هو جيد في الحياة السياسية لا يجعل منه سياسة جيدة بالضرورة. فجدل الجمهوريين حول إيران يقدَّم ، والى حد كبير، بطريقة الاستخفاف والانتقاص الحزبي، ولا يقدم كثيراً بطريقة المقترحات المحددة القابلة للتطبيق والتي تدفع قدماً بالمصالح الأميركية في المنطقة أو تعزز الأمن الأميركي حول العالم. فبرغم الكلام القاسي في الجولات الانتخابية، فإن من الصعب التقييم، بشكل دقيق، الكيفية التي ستتصرف بها إدارة جمهورية وبشكل أكثر حزماً ما إن تتسلم منصبها. بالواقع، لقد كررت إدارة أوباما الاستراتيجية الإيرانية التي وضعها الرئيس جورج دبليو بوش خلال الفترة الثانية لتوليه منصبه، محتفظة بنفس الأولويات، اللعبة السياسية، وحتى الاحتفاظ بعدد من نفس كبار الموظفين في الإدارة.

إن تصميم الجمهوريين على التخفيف من حدة الطموحات الإيرانية من خلال ضربات عسكرية أو تغيير النظام لا ينبغي إهماله واعتباره، برغم ذلك، مجرد خطاب حملة انتخابية. فعلى مدى السنوات الأربع الماضية، تحول سياق العمل العسكري ضد إيران، وذلك بفضل تقدم إيران نحو القدرات النووية وإحياء نزعة المغامرة لديها عبر شرق أوسط  متقلب. وقد توصل معظم المستشارين الجمهوريين إلى أن الهجوم أساسي وحيوي الآن، بمن فيهم البعض ممن كانوا قد ترددوا بتأييد القيام بضربات مباشرة على إيران إبان وجودهم في إدارة بوش. ولهذا السبب، يستحق الدعم الجمهوري  للضربات العسكرية وتغيير النظام أن يؤخذ بعين الاعتبار بشكل أكبر. لقد كان معظم المرشحين غامضين بشأن آليات تنفيذ ما يؤيدونه. فعندما سُئل عن أمور محددة في المقابلة التي أجراها مع هيئة تحرير صحيفة وول ستريت جورنال، استثنى رومني استخدام الجيش البري لكنه أضاف قائلاً بأن ' نطاق العمل يشمل شيئاً يتعلق بطبيعة الحصار، شيئاً يتعلق بطبيعة ضربة جراحية، شيئاً يتعلق بضرب عنق طبيعة النظام، للتخلص من التهديد العسكري الإيراني كله معاً'.

وكما انتقد أوباما، نفسه، وبحدة نوعاً ما، فإن أي شخص يزعم بأن بالإمكان التخلص من التهديد الإيراني بسهولة ' هو إما يناور سياسياً وإما لا يعلم عما يتحدث'. الحقيقة هي أن أي عمل عسكري ضد برنامج إيران النووي سيكون له مكاسب على الأمد القصير نسبياً وبكلفة عالية مؤكدة تقريباً. واعتماداً على نطاق وفترة الضربات الجوية،  فمن غير المرجح أن تتمكن الحملة الجوية وحدها من إنهاء البرنامج النووي الإيراني. فقد تعلمت إيران من  الضربة الإسرائيلية على مفاعل ' أوسيراك' العراقي وحصنت مواقعها النووية ووزعتها على امتداد البلاد. ولهذا السبب، إعترف الخبراء من الجناحين الحزبيين بأنه إذا ما مضت إسرائيل وحدها وقامت بالضربة، فإن برنامج إيران النووي سيعود إلى الوراء، ربما، عاماً أو عامين على الأكثر، وهو تقدير ينسجم مع تقديرات تصريحات كبار المسؤولين العسكريين الإسرائيليين. إذ لن تؤدي حتى الحملة الجوية المستدامة أكثر للقوات الأميركية الأكبر حجماً بشكل هام إلا إلى شراء ضمانات للعالم لفترة تقل عن الخمس سنوات ربما.

بالمقابل، فإن الارتدادات السلبية لضربة عسكرية ستكون دراماتيكية ومستدامة. إذ يُتوقع من إيران القيام برد فعل انتقامي ضد المصالح الأميركية والإسرائيلية وضد مصالح حلفائهما عبر المنطقة، وذلك بشكل مباشر وأيضاً من خلال شبكة وكلائها الإرهابيين التي تشمل حزب الله، حماس، والجهاد الإسلامي. ويرجح أن يتحمل الإسرائيليون هجمات صاروخية وتجدد التفجيرات الانتحارية. وقد تشهد دول الخليج استهدافاً لبنيتها التحتية النفطية وهياج السكان الشيعة لديها بسبب الفتنة الإيرانية. وستتعرض كل الأهداف الأميركية الأخرى في المنطقة للخطر ـ بدءاً من تعزيز السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين وصولاً إلى  ضمان حرية تدفق النفط. ورغم أن عدداً من الحكومات الإقليمية ستدعم ضربة ضد طهران، إما ضمنياً أو لوجستياً، فقد تنفجر الشعوب الإقليمية فعلاً عند بداية عمل عسكري بقيادة الولايات المتحدة في المنطقة، تحديداً إذا ما انتهت حملة قصف مستمرة بسقوط ضحايا مدنيين.

من المرجح أن يتم تعطيل عملية التحول الديمقراطي التي تجري بدرجة أكبر أو أصغر في مختلف البلدان العربية. فالمعارضة الإيرانية قد تكون مجبرة على رص الصفوف مع النظام وإلا فقدت شرعيتها. وحتى لو لم يختر الإيرانيون الاحتشاد حول نظامهم، فإن نقمتهم على واشنطن وفقدان الثقة بالمجتمع الدولي سيترسخان. سترتفع أسعار النفط بسرعة، لفترة قصيرة على الأقل. وإذا ما نجحت طهران في تعريض صادرات النفط القادمة من دول الخليج المجاورة للخطر، فإن الهجوم  يمكن أن يشعل أزمة طاقة عالمية ويتسبب بحصول ركود عالمي واسع. إن أية إلتزامات عسكرية تولدها الضربة ـ سواء رفع مستوى الدفاعات للمراكز الأميركية عبر البحار فحسب أو شن  حملة واسعة النطاق ضد التهديدات الإيرانية للخليج ـ ستحتم تخصيص إنفاق هائل من قبل البنتاغون لفترة زمنية غير محددة. وإذا ما نجا النظام، فإن تصميمه على الحصول على أسلحة نووية سيصبح أكثر شدة بالتأكيد، وأي أمل بتجنب سباق تسلح نووي شرق أوسطي سيتحطم.

إذا كان العمل العسكري لا يقدم أجوبة سهلة على التهديد الإيراني، فماذا عن توصية الجمهوريين المصاحبة ـ أي تغيير النظام؟ هنا أيضاً، لا يقدم المرشحون سوى الطموح بدلاً من تقديم أمور محددة. من الصعب أن يكون هناك تأثير للتدخل الخارجي في الحياة السياسية المحلية الإيرانية وذلك لسببين: الأول، لا تملك واشنطن إلا تواصلاً محدوداً للغاية مع الإيرانيين وتواصلاً أقل حتى مع الجسم الصغير من الفاعلين السياسيين الذين قد يكونوا قادرين على توفير تحد هام وبارز للنظام. ثانياً، وربما الأهم، كان الإيرانيون، تاريخياً، ينقمون على القوى الخارجية ويرفضون أي دور مباشر لهذه القوى في تشكيل مستقبلهم السياسي. هناك إرث من المواجهة دام قرناً من الزمن مع انكلترا، روسيا، والولايات المتحدة.  إن معارضة مستقلة تستطيع قيادة شرعية واسعة هي فقط من  سينجح في تحدي نظام راسخ كالجمهورية الإسلامية. وكما في الجهود الكارثية السابقة للعب بالحياة السياسية المحلية الإيرانية، سوف تنتهي الجهود الأميركية للترويج لتغيير النظام، على الأرجح، بتبادل الاتهامات وربما بما هو أسوأ.

إضافة لذلك، إن تأييد الجمهوريين لتغيير النظام له زاوية مقلقة تحديداً. فقد أيد أحد كبار مستشاري السياسة الخارجية لرومني، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ميتشيل ريس، العمل لصالح مجاهدي خلق، التي لا تزال على لائحة المنظمات الإرهابية لدى الحكومة الأميركية والتي أدى تأييدها لصدام حسين إلى تآكل دعمها الشعبي منذ أمد طويل في أوساط الإيرانيين. وقد تحدث ريس تكراراً في أمسيات برعاية منظمات تنتمي إلى مجاهدي خلق، التي تعتبر ذات صيت سيئ بسبب تقديمهاً أتعاباً سخية لشخصيات سياسية أميركية مستعدة لتقديم التأييد لها. وفي الآونة الأخيرة في أيلول 2011، أعلن ريس في مؤتمر تابع لمجاهدي خلق : ' لقد وقفنا معكم بالأمس، ونحن نقف معكم اليوم، وسنقف معكم غداً'. فبالنسبة لرومني، الذي يدين، وبشكل روتيني، التنازل المخزي للإدارة الحالية عن السلطة الأخلاقية الأميركية ' بما يخص إيران، تطرح الرابطة بين أحد  كبار الإستراتيجيين في السياسة الخارجية ومجموعة ذات سمعة مشوهة مصنفة رسمياً منظمة إرهابية تساؤلات مقلقة.

الاستنتاج: ما العمل؟

تمثل الخمس سنوات المقبلة لحظة حاسمة للسياسة الدولية تجاه إيران. فالضغط موجود بسبب التقدم الحاصل في البرنامج النووي الإيراني، الأمر الذي أدى إلى شعور بالحاجة الماسة الذي يستنفد أقرب حلفاء أميركا الآن في الشرق الأوسط، تحديداً إسرائيل. فقد أصبح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أكثر صخباً، وبنحو متزايد، في قناعته بأن أية تأثيرات تالية لأعمال عسكرية هي أفضل من خطر إيران نووية. إن حماسة وقلق إسرائيل لهما أسس فعلية. فقد بدأت إيران بنقل أنشطة التخصيب لديها إلى مواقع ومنشآت مدفونة عميقاً في أماكن سرية تحت الأرض، واضعة إياها بعيداً عن مرمى القنابل الأشد ' خرقاً للتحصينات'. وقد بدأت القيادة الإسرائيلية  بتأطير وضعها تجاه إيران وفق مقترح إما الآن أو أبداً، مع  إقتراح وزير الدفاع إيهود باراك مؤخراً الذي يقول بأنه إذا لم تؤد العقوبات إلى إنهاء أنشطة إيران النووية في غضون بضعة أشهر، فإن البلد ( إسرائيل) سيشن ضربة عسكرية. وتتقاسم الولايات المتحدة وإسرائيل الهدف نفسه، وتلقى المخاوف الإسرائيلية دعماً واسعاً في مجلس النواب. فإذا ما قررت إسرائيل القيام بالضربة، تحديداً خلال السباق والتنافس للفوز بالانتخابات الرئاسية، فإن إدارة أوباما ستجد نفسها تحت ضغط هائل لدعم ذلك المجهود.

ما هو واضح هو أن العالم بحاجة إلى توجه جديد بشأن إيران. فلا المقاربة الحالية لإدارة أوباما ولا جواب الجمهوريين يقدمان طريقاً مقنعاً للسير قدماً فيه: فالمقاربة الأولى أصبحت غارقة بالتصعيد المستديم؛ والأخيرة تقايض الغموض والشكوك المستقبلية بكوارث حالية. فإذا ما فشلت ديبلوماسية أوباما، فإن تغيير النظام حلم منشود، والعمل العسكري في أفضل الأحوال إجراء مؤقت يعرِّض الأمن الإقليمي والاقتصاد العالمي للخطر. إن تقبل الطموحات النووية للجمهورية الإسلامية أو التكيف معها بالكاد يكون احتمالاً واقعياً، وفي حين أن التغيير السياسي المستوحى من داخل إيران أمر لا مفر منه، فإن أي تغيير سيأتي سيكون متأخراً جداً تقريباً.

وكما وجدت كل إدارة من الإدارات الأميركية، ويا للمفاجأة التي لا تبرير لها، ليس هناك من رصاصات فضية عندما يتعلق الموضوع بإيران، فأية سياسة تعد بمكافآت عالية بثمن زهيد هي مجرد وهم. إن أي تقدم ذي معنى وهادف نحو كبح طموحات إيران النووية سيحتم مخاطر مقلقة ومساومات صعبة لكل الأفرقاء. لكن كالصراعات الأخرى في الشرق الأوسط المستعصية على الحل بحسب الظاهر، أنتج تحمل إيران للأزمة تقديراً أفضل لحدود المساومة، حتى عندما تستعصي الظروف السياسية على فهم العالم.

على مدى السنوات الخمس الماضية تزايد الإجماع العام  حول الخطوط العريضة لتسوية حول برنامج إيران النووي قد تكون مقبولة من جميع الأفرقاء: نسخة محدودة عن نموذج ' اليابان' لبرنامج نووي جاهز عرضة لقيود وعمليات تفتيش تدخلية دولية. فالمجتمع الدولي سيضمن هدفهـ منجزاً ضمانات يمكن التحقق منها لجهة كون نشاطات إيران النووية مقيدة ولن تصبح عسكرية. أما طهران فستنقذ ماء وجهها بالاحتفاظ بقدرات تخصيب منخفضة وتحقيق عودة المشاركة الكاملة في الاقتصاد العالمي. لا ينبغي أن يكون هناك أوهام حول هذا النوع من الصفقات؛ فهي بالكاد تكون مثالية، وستتطلب مفاوضات شاقة، تنازلات صعبة من إيران، واستعداداً متبادلاً من جانب واشنطن لتقديم حوافز بشكل التزامات واضحة للتخفيف من عقوبات محددة. هناك دليل ما على أن كل من واشنطن وطهران يستطيعان التعايش مع حل يقيد طموحات إيران النووية لكنه لا يحطمها ويلغيها. وقد أيدت إدارتان أميركيتان متتاليتان الآن حق إيران بأنشطة تخصيب سلمية، في حين أثبت القائد الأعلى الإيراني، ولمدة عامين، عن الاستعداد حتى بتعليق التخصيب مؤقتاً والالتزام بمراقبة أكثر دقة يفرضها ' البروتوكول الإضافي لمعاهدة منع الانتشار النووي'، التي تمنح ' الوكالة الدولية لطاقة الذرية' سلطة واسعة لتفتيش المواقع المشتبه بها.

بالواقع، كانت مبادرة الحوار الأولى لأوباما تهدف إلى إنتاج مساومة نووية متساهلة بشكل متبادل من الجانبين، إلا أن إخفاقاتها المبكرة حفزت الإدارة على تحديد ضغط متزايد كغاية بدلاً من أن تكون وسيلة. ووفق فرضية خاطئة تقول بأن كل إجراء جديد سيجبر طهران على المجيء إلى طاولة المفاوضات، لم تقم واشنطن بمجهود جدي للاستفادة من الضغط بأسلوب استراتيجي ربما كان أعطى نتائج أفضل. على سبيل المثال، ربما كانت الإدارة أجلت تنفيذ العقوبات لاستغلال القلق الإيراني أو كانت تطلعت لاستثمار الرهان على المجهود التركيـ البرازيلي الفاشل عام 2010 للتوسط في تنازل أكثر جدية من جانب إيران. إن جهود النظرة المثالية للإدارة بخصوص الحوار قد تكون فشلت، لكن كان ينبغي للديبلوماسية تجاه إيران بالمعنى الأوسع للكلمة أن تستمر ـ ما يعني فن إيجاد سبل جديدة للدفع بالمصالح الأميركية قدماً.

وكما وجد أوباما، الضغط يخلق قوة وتأثيراً، لكن لا يمكنه أن يخلق محاوراً حيث لا يوجد محاور، كما هو الحال اليوم مع طهران. فالعناد الإيراني يرتكز ويستند إلى خليط من الثقة الزائدة بالنفس التي في غير محلها وفقدان الثقة الراسخة والمزمنة. بإمكان العقوبات أن تجعل العناد يتآكل، وهي ستجعله كذلك، لكن العقوبات ستفاقم، فحسب، من جنون العظمة الإيراني وستفاقم استطراداً من تصميم القيادة على مقاومة الضغط الدولي. لقد فشلت جهود أوباما بالحوار، لأنه فشل، بالتحديدـ كعدد من الخبراء بالشأن الإيراني الذين نصحوا إدارته، بمن فيهم أنا ـ بتبيان قوة قناعة طهران بأن أية مساومة على قضاياها الأمنية الجوهرية سيشجع المجتمع الدولي، فحسب، على إثارة مطالب إضافية.

تمثل المفاوضات بغياب الثقة المتبادلة مأزقاً محيراً صعباً إنما ليس ميؤوساً منه. فعمق الجفاء الموجود اليوم بالكاد يكون أقل احتداماً عما كان عليه الحال إبان أزمة الرهائن، ومع ذلك هو في نهاية المطاف آلية للحوار وحل للمواجهة التي تواجدت لأن كلا الجانبين  قد تحقق من أن لا بديل آخر لتحقيق مصالحهما.  وقد استلزم الأمر، حتى في ذلك الحين، توغلات وإخفاقات متكررة في التواصل الديبلوماسي من قبل الجانبين، وجهوداً مثابرة لوساطة موضوعية قائمة على أساس جيد، وتنفيذاً لأبعاد مساومة مالية، قانونية وأمنية إضافة إلى أبعاد أخرى.

لا  توجد اليوم أي من تلك الظروف. فبعد انهيار محادثات 2009 التي تتناول تبادل الوقود المقترح، استثمرت واشنطن القسم الأكبر من جهودها في المساومة لدى حلفائها لتعزيز العقوبات.

ولم يُفعل الشيء الكثير لإحياء المفاوضات. وفي حين بدأ الوقت يتضاءل ويقصر أمام الإدارة للقيام بعمل ما خلال ولايتها الأولى وربما الوحيدة، فإنه ينبغي لها استثمار مجهود أكبر في إعادة تشكيل مقاربتها الديبلوماسية تجاه إيران. أولاً، سيشمل هذا الأمر الانكباب على معالجة إحدى أوجه القصور الرئيسة في المقاربة الحالية، أي غياب رؤية استراتيجية مرنة بشكل كاف للتكيف مع الإجراءات الإيرانية المضادة إضافة إلى وجود مسؤول رفيع وحيد يكون مسؤولاً عن الإشراف على السياسة الإيرانية. ينبغي للرئيس إحياء مفهوم وجود منسق خاص للشأن الإيراني، ذي سلطة مكتسبة راسخة لتطوير إستراتيجية متجانسة.

لا ينبغي إهمال إطار العمل المتعدد الأطراف الراسخ، قوى الـ 5 +1 الكبرى؛ ففوائد التنسيق بين القوى الكبرى حول قضية معقدة كهذه تستحق ذلك بعد الإحباط الذي صاحب الرقصة الديبلوماسية المؤلفة من 5 أجزاء. أما واشنطن، تحديداً فينبغي لها رفع مستوى تعاونها مع الصين لتشجيع بكين على لعب دور جوهري وأساسي أكبر في الديبلوماسية  مع طهران. ويواجه الصينيون تحدياتهم الخاصة ـ تحول في نموذج تطورهم، تزايد الهياج الداخلي، وانتقال القيادة ـ وقد تجنبوا، تقليدياً، دور الجلوس في المقعد الأمامي حول قضايا مثيرة للجدل. رغم ذلك، لدى الصين تأثير ورافعة اقتصادية فريدة ومصداقية سياسية لدى طهران. كما أن أيا من البديليْن المتوخييْن اليوم حول إيران، سواء ضربة عسكرية أو مجهود طويل الأمد لإضعاف إيران من خلال عقوبات دولية شاملة، سيضر بأمن الطاقة الصيني وبنموها الاقتصادي. لهذا السبب، قد تكون بكين ناضجة للانخراط في عملية تنسيق أكثر فعالية بين الولايات المتحدة والصين لإحياء عملية تفاوض مثمرة.

مع ذلك، وحتى مع وجود الشعور المعزز والقوي بالهدف، ستبقى القوى الخمس الكبرى +1 مؤسسة غير عملية، وقد تتعمق حدود قدراتها بسبب الاختلاف المتزايد بين الغرب وروسيا حول ليبيا والآن سوريا. ينبغي لإدارة أوباما أن تسعى جاهدة للتحرك وتجاوز القوى الخمس +1، عن طريق تحديد قنوات ممكنة لإطلاق حوار مباشر بين واشنطن  والجمهورية الإسلامية. هذا الأمر سيشمل تحديد بلدان ثالثة ـ بما فيها عُمان وقطر، لكن غير محدود بهماـ  مع القدرة على ضمان الثقة في واشنطن وكذلك في طهران. إن جنوب أفريقيا، الدولة التي اختبرت بنفسها التحويل النووي، قد تكون محاوراً مفيداً بهذا المجال هنا.

أما بما يتخطى الديبلوماسية، فينبغي لإدارة أوباما إعادة تقييم مقاربتها لأحد أصحاب الشأن الأساسيين  بخصوص إيران: إسرائيل. إن واشنطن بحاجة للتنقل بين مخاوف إسرائيل ووضعها العام، الذي يعرض فرص الحل التفاوضي للأزمة للخطر. هذا الأمر سيحتم وجود إجراءات جديدة لطمأنة القادة الإسرائيليين بطريقة يكون لها أهمية سياسية بارزة وواضحة بالنسبة للسكان عموماً،  كالالتزام الأميركي الصريح بضمانات أمنية واسعة لدولة إسرائيل. في نفس الوقت، سيكون على واشنطن أيضاً صد الجهود الإسرائيلية لتأطير النقاش بمصطلحات فظة متنافرة. إن خطاباً كهذا لن يؤدي إلا إلى تأجيج عناصر القيادة الإيرانية الأكثر تعصباً ـ وتوهماًـ الذين قد يرحبون بالعودة إلى الصعوبات البطولية التي سادت السنوات الأولى لتشكلهم إبان الحرب الطويلة مع العراق.

إن إعادة الاستثمار في الديبلوماسية ليس ضمانة للنجاح. في النهاية، إن آلية الفشل الآمن الوحيدة  لإنهاء سياسات إيران المزعزعة للاستقرار بشكل دائم هي تحول قيادتها، وهي محصلة لا تزال تعتبر، على قاعدة المشروعية والقدرةـ الامتياز الوحيد للشعب الإيراني. إذ يمكن لواشنطن وحلفائها المساعدة عند الأطراف فقط ـ أو الإضرار على الأرجح.

لطالما أثبتت إيران نفسها كتهديد يستعصي على الحل وكخطر يمكن التحكم فيه أيضاً بالنسبة لواشنطن.

ستفاقم إيران النووية من تلك التحديات بعمق وبأسلوب مؤسف، لكن يظل تبديل مسار برنامج إيران موجوداً في متناول اليد، حتى  بعد إطلاق طهران لعمليات التخصيب في مواقعها السرية تحت الأرض ـ حركة أشار القادة الإسرائيليون مؤخراً إلى أنهم لن يسمحوا بها. ينبغي أن تستمر السياسة الأميركية تجاه طهران بالتركيز على تأجيل تقدم إيران نحو الحصول على قدرات السلاح النووي وردع نفوذ النظام الحالي. ويتجه الجدل المتسم بالغلو حول إيران إلى حجب الواقع وهو أن واشنطن وحلفاءها عملوا بنجاح كبير للغاية على مدة الـ 33 عاماً الماضية. الأمر بكامله موجود في قدرة أقوى قوة عسكرية في تاريخ العالم على حماية  أصدقائها ومصالحها من تهديد حكومة ثيوقراطية بدأت شرعيتها، سلطتها، حيويتها الاقتصادية وقوتها العسكرية التقليدية بالتفكك.

موقع الخدمات البحثية