مواد أخرى » الحياة تبدأ بعد سن الـ 25: الديمغرافية والتوقيت المجتمعي للربيع العربي

الدكتور ريتشارد سينكوتا(*)
كُتب الكثير عن الظروف التي أدت بخبراء الشرق الأوسط لأن يُصدموا بسلسلة التظاهرات الشعبية الناجحة التي أطلقت الربيع العربي في كانون أول 2011. وفي كتابة له في مجلة فورين آفيرز، يروي العالم السياسي غريغوري غواس كيف بالغ المتخصصون الإقليميون، أمثاله، في قوة وتماسك  أتوقراطيي شمال أفريقيا، إضافة إلى المبالغة بعمق الولاءات الشخصية المتوفرة لدى هؤلاء الأتوقراطيين في أوساط كبار العسكريين في جيوشهم. هناك مقالة أخرى في نفس المجلة، بقلم نسيم طالب ومارك بلايث، ترسم استنتاجاً مخالفاً  بشكل لافت ومذهل عن أحدث إخفاقات العلوم السياسية. إذ يصفان أحداث شمال أفريقيا السياسية الدراماتيكية بـ ' البجعة السوداء'، النهاية غير المتوقعة لتوترات متراكمة جلبتها إلى الواجهة قوى متفاعلة بشكل معقد.
في كل الأحوال، ليس هناك من ذكر كثير، هذا إذا كان هناك من ذكر، لمقالة تصف العلاقة بين الديمغرافية والديمقراطية ( ' كيف تنمو الديمقراطيات')  والتي طبعت على صفحات مجلة فورين آفيرز في آذار 2008 ، قبل أكثر من عامين ونصف على حدوث التظاهرات المؤيدة للديمقراطية في شوارع تونس. في تلك المقالة، أصف نموذجاً بسيطاً مدفوعاً بتركيبة عمرية للسكان ( التوزيع السكاني حسب العمر) والذي بالإمكان استخدامه للتكهن، إحصائياً، بالدمقرطة، بنجاح منطقي. بناء على ذلك البحث، توصلت إلى الاستنتاج التالي:

'  إن أول منطقة ( وربما الأكثر إدهاشاً) تعِد بحصول تحول نحو الديمقراطية الليبرالية هي كتلة البلدان الممتدة على طول الساحل المتوسطي لأفريقيا: المغرب، تونس، ليبيا، ومصر، والتي لم تجرب أي منها الديمقراطية الليبرالية في الماضي القريب. أما المنطقة الأخرى ففي أميركا الجنوبية: الإكوادور، كولومبيا، وفنزويلا، وقد حصلت منها على ديمقراطية ليبرالية ' باكراً' ديمغرافياً لكنها كانت عاجزة عن مواصلتها والحفاظ عليها. وبتفسير هذه التوقعات بتحفظ، يمكننا أن نتوقع أن يصبح بلد، وربما اثنان، في كل مجموعة بلداً ديمقراطياً ليبرالياً مستقراً بحلول عام 2020.' ( فورين آفيرز، آذار، 2008، ص: 81-83).
 ظهر هذا التوقع مجدداً في مطبوعة في العام 2009 ( ' نصف تغيير: التضخم الشبابي والتحولات إلى الديمقراطيات الليبرالية')، في ' تقرير الأمن والتغيير البيئي ' الصادر عن مركز ' Woodrow Wilson' في السنة التالية، وهذا مفصل في الديمغرافية السياسية: كيف تعيد التبدلات السكانية تشكيل السياسات الأمنية والوطنية، تحرير جاك غولدستون، مونيكا دافي توفت و إيريك كوفمان ( FPRI ، 13 كانون أول 2011).
بالطبع، لا يزال علينا انتظار تحقق التوقعات بحصول' ديمقراطية ليبرالية، وربما اثنين' في شمال أفريقيا. مع ذلك، فإن الخطوة الأولى نحو الدمقرطة، طرد رئيس الدولة الأتوقراطي، أمر واقع في ثلاث من دول المنطقة – في تونس، مصر، وليبيا. وبرغم التوترات التي يرجح أن تبرز بين حزب النهضة، الحزب الإسلامي التونسي، والأحزاب الوسطية العلمانية واليسارية، تظل ثورة الياسمين التونسية على المسار الصحيح، في الوقت الحالي.
فهل كان التنبؤ بخصوص شمال أفريقيا مجرد تخمين محظوظ؟ أم أن الموضوع متعلق باستخدام معلومات كانت متوفرة لمتخصصين إقليميين؟ الجواب عن السؤالين هو ' كلا – كلا على الإطلاق'. فالتوقعات هي إحدى النتائج العديدة الأخيرة لبحث غير مصنف سرياً في مجال الديمغرافية السياسية والذي كان ممولاً من قبل ' مجلس الاستخبارات الوطنية ( الأميركية)' على مدى السنوات الست الماضية. أما المنهجيات التي تم تطويرها خلال هذا المجهود فقابلة للتكرار وتعتمد على قاعدة بيانات ومعطيات ديمغرافية كل عامين صادرة عن ' قسم السكان التابع للأمم المتحدة' والتي تمت مراجعتها، وبالامكان تحميلها عن الإنترنت بكل حرية أو شراؤها بكاملها.
إحدى النقاط الهامة الأخرى هي أنني قدمت، خلال عام 2008، هذه التوقعات، في مناسبتين منفصلتين، أمام مجموعة الباحثين الكبار بشؤون الشرق الأوسط. وفي المناسبتين، رفض أولئك الحاضرين، وبقوة، إمكانية حصول تغيير سياسي بين أنظمة شمال أفريقيا ( في إحدى المرات، انفجر أحد كبار الخبراء بالضحك عند ذكر احتمال تغيير النظام في تونس).

تضخم شبابي ومساومات
يستخدم  بحثي حول التوقيت الديموغرافي واستقرار الديمقراطية الليبرالية ' نموذجاً صريحاً ودقيقاً للبنية العمرية' لإصدار توقعات إحصائية ( ساعدني فيه المؤلف جون دوكس). بدوره، يعتمد ذلك النموذج على نظريتين أساسيتين تتنبأان بالسلوك العام للدول. النظرية الأولى، ' نظرية التضخم الشبابي' – المطورة على مدى العقود الأربع الماضية من خلال جهود  متتالية لهربرت مولر، جاك غولدستون، كريستيان مسكيدا، هنريك أوردال، وآخرين – تؤكد على أن الدول ذات البنيات العمرية الشبابية تواجه مخاطر متصاعدة باختبار صراع مسلح داخلي متبادل وأنواع أخرى من العنف السياسي.
النظرية الأساسية الثانية، ' نظرية المساومة السلطوية، والتي تلتفت إلى ملاحظة للفيلسوف السياسي الإنكليزي توماس هوبس تعود إلى 350 عاماً خلت. إذا قال هوبس، في إحدى كتاباته في القرن السابع عشر، إن الحياة السياسية تولد من المقايضة: عندما يشعر المواطنون والنخب بالتهديد، فإنهم يقايضون، طوعاً، حرياتهم السياسية والمدنية في مقابل ضمانات أمنية. إن جمع النظريتين معاً يولد توقعاً من السهل اختباره: على المرء أن يتوقع من البلدان ذات البنيات العمرية الشابة مواجهة أدنى مخاطر الديمقراطية الليبرالية ( ' الحرية' في نفس المسح). بالواقع إنها تفعل ذلك، إحصائياً.
هل هذه ' المساومة السلطوية' قابلة للانقلاب؟ بمعنى آخر، عندما يضمحل مصدر عدم الأمان الديمغرافي– في هذه الحالة، عندما تحوِّل النسبة المتراجعة للسكان الشباب المتقلبين سياسياً إلى جماهير عمرية أكثر نضجاً – هل سيحتشد المواطنون العاديون والنخب للتعويض عن حرياتهم السياسية والمدنية؟ إحصائياً، يبدو أنهم سيفعلون؛ إذ ما إن تنحدر نسبة المواليد ويتقدم العمر الوسطي، يزيد احتمال تقييم  Freedom Hoascii117seللدولة بأنها ' حرة'.
بالواقع، إن هذا النموذج من ' توقيت النظام' ظل مستقراً بشكل لافت منذ أوائل السبعينات، عندما بدأFreedom Hoascii117seبعمليات مسحه عالمياً ( انظر الرسم رقم 1). ومنذ ذلك الحين، ومع كل عقد من الزمن يمر، هناك حوالي 10 بالمئة فقط من مجموع البلدان ذات العمر الوسطي الأقل من 25 عاماً قد تم تصنيفها ' حرة'. علاوة عن ذلك، إن نسبة الـ 10 بالمئة الشابة هذه ، لكن الليبرالية مع ذلك، هي، على العموم، مجموعة من الديمقراطيات غير المستقرة وبشدة. ومنذ أن بدأ  Freedom Hoascii117seبالاحتفاظ بسجل النقاط، حافظت قلة من هذه الديمقراطيات على تصنيفها العالي لأكثر من عقد من الزمن بكثير. أما معظم هذه الديمقراطيات فقد اصطدمت إما بانتخابات عنيفة وإما بتمرد ما، ومن ثم انزلقت لتصبح ' حرة جزئياً' ( ديمقراطية جزئية) في غضون خمس سنوات. وهناك ديمقراطيات أخرى هبطت بتسارع ثابت لتصبح  ' غير حرة'  ( أتوقراطية) في أعقاب انقلاب عسكري.

بلوغ سن الرشد
بالنسبة لدولة حديثة وعصرية، يبدو سن الـ 25 عاماً المتوسطي علامة فارقة. فحوالي ذلك المؤشر ( أقل أو أكثر)، يتراجع حدوث صراع أهلي بشكل ملحوظ، وتزداد الفرصة بديمقراطية ليبرالية بشكل لافت. وبالنسبة للعقود الأربعة الماضية، قيَّم Freedom Hoascii117se حوالي النصف من مجموع البلدان ذات السلسلة العمرية الممتدة من 25- 35 عاماً على أنها بلدان ' حرة'. ويبدو قسم كبير من هذه اللبرلة السياسية  ذا صلة بالاستقرار الوليد حديثاً لديمقراطيات ليبرالية ' متوسطة العمر'. وعلى خلاف دول ذات فئات سكانية أكثر شباباً، تتجه تلك التي تم تقييمها كدول 'حرة' في هذه السلسلة الديمغرافية – تحديداً في السلسلة الممتدة من سن 30 – 35 عاماً – الى التمسك بتصنيفاتها العالية.
أما ربع السنوات العشر التالية فتبدو أفضل حتى. فمنذ أوائل السبعينات، منح Freedom Hoascii117se تصنيفه  ' الحر' لحوالي 90 بالمئة من مجموع البلدان ذات السلسلة العمرية المتوسطة من 35- 45 عاماً ( البنيات العمرية الناضجة). إن تقدم  النضج البنيوي العمري -  والتحولات المجتمعية التي تسير يداً بيد مع هذا التحول- يعتبر أمراً قاسياً وشديداً على الأنظمة غير الليبرالية. وهذا الأمر ينبغي أن يجعل المحللين حذرين بشأن هوية الـ 10 بالمئة المتبقية ( المرنة جداً).
هذه النسبة القوية من الناجين غير الليبراليين في تصنيف النضج تتناسب في ثلاثة تصنيفات متداخلة. التصنيف الأول  يتضمن أنظمة بقيادة  شخصية مؤسسِّة كاريزمية – مثل فيدل كاسترو ولي كوان يو؛ وربما شخصية شبه مؤسسَّة كفلاديمير بوتين ( الذي يبدو كأنه يفقد سحره وجاذبيته). التصنيف الثاني يتألف من أنظمة دول الحزب الحاكم الواحد، حيث الحزب والدولة صنوان وحيث أعاد النظام بناء نخبه العسكرية والتجارية الخاصة به. أما أوضح مثال على ذلك فكان الإتحاد السوفياتي ( لفترة). لا شك بأن الصين، التي تجتاز سن الـ 35 عاماً الوسطي في السنوات الخمس التالية، ستستمر بأدائها كدولة أتوقراطية. أما التصنيف الأخير فيتألف من أنظمة مدينة بالفضل لجار أتوقراطي متفوق عسكرياً، غير متساهل مع صعود نظام ليبرالي في نطاق نفوذه – وضع أوروبا الشرقية خلال الحرب الباردة.

التكهن بالأوضاع عندما لا يتمكن أحد
كيف قادت هذه الاستنتاجات إلى توقعاتي في العام 2008 بحصول تغيير سياسي في شمال أفريقيا؟ بحسب توقعات الأمم المتحدة ما بين عامي 2010 و 2019، كان من المقررأن تصل كل دولة من الدول الساحلية الخمس للمنطقة إلى سلسلة عمرية متوسطة ما بين 25- 35 عاماً – نطاق يمتد ليصل إلى حوالي 50 بالمئة من مجموع البلدان التي تعتبر ديمقراطيات ليبرالية ثابتة تماماً. ومع فرضية أن يكون نموذج البنية العمرية قابلاً للتطبيق في أماكن أخرى كما في شمال أفريقيا، فإن الأرجحية المحسوبة هي أنه بحلول عام 2020 لن يتم تقييم أي بلد في المنطقة كبلد ديمقراطي حر تحول ليصبح عند نسبة 3 بالمئة المتدنية للغاية– ما يشبه ' رهاناً آمناً ' أكثر  بكثير مما يشبه بجعات طالب وبلايث السوداء.
من الصعب قليلاً أن تصرف النظر عن تقييم غواس بخصوص الهفوات التحليلية لخبراء الشرق الأوسط، ذلك التقييم لا بد وأن يحير صناع السياسة الذين يعتمدون على خبرة البلد والخبرات الإقليمية لتكوين رؤى مفاهيمية وصورة عن التحذيرات. ويعترف غواس بأن كل المتخصصين الإقليميين والوطنيين المخضرمين، بعضهم ممن ينتمون للمنطقة نفسها، قد فاتهم، أو أساؤوا، تقييم التحولات في العلاقات بين النخب. نظراً لهذه الظروف، أرى احتمالاً واحداً: إن المنهجيات التي اعتمد عليها هؤلاء المحللون – مصادر الدليل لديهم والنظريات التي استخدمت هذا الدليل لتوليد استنتاجات – هي منهجيات غير ملائمة ولا مناسبة لاستشعار البداية السريعة لحصول تغيير سياسي دراماتيكي. فإذا كانت قضية الربيع العربي تبدو قصصية، عندها لن يكون المرء بحاجة إلا إلى إعادة النظر بتلك الروايات التي هيمنت على أدب السياسة الخارجية قبل سقوط جدار برلين، وقبل صعود الديمقراطية الليبرالية في شرق آسيا ( أندونيسيا بالتحديد) ، وقبل الثورة الإيرانية عام 1979. إذ هناك قلة من الخبراء ممن  تصوروا البداية الوشيكة لتلك الانتكاسات السياسية الدرامية.
هل كانت الديمغرافيا السياسية هي المنقذ في كل الحالات؟ ربما لا-  إلا أن تطور وسائل تتبع التوجهات الطويلة الأمد القابلة للتكرار والاختبار داخل هذه المجتمعات إضافة إلى أوساط النخب، والانفتاح عليها، قد يكون طرح التساؤل بشأن الفرضيات السائدة حول الركود السياسي التي قادت إلى تضليل صناع السياسة. هذه الضوابط التي تساهم في تحليل العلاقات الدولية تخطئ، تكراراً، بالتغيرات الدراماتيكية الحاصلة، ومن ثم القيام بعادة كريهة هي التشجيع على يوم تدريب مناسب للتوقعات وغير قابل للفحص والتدقيق. بعدما تضاءل الاهتمام بهذه الضوابط، غالباً ما يتحرك أولئك الذين أخطأوا أكثر من غيرهم من دون القيام بمراجعات للأساليب والفرضيات المشكوك بها والخاطئة التي أنتجت الفشل.
بالتالي، لا أحد، ولا نظرية، تخسر بالمطلق– ما عدا صناع سياسة الشؤون الخارجية، الذين هم بحاجة ويستحقون فهماً أفضل للمستقبل السياسي.

الرسم 1.

soarab450_450


نسبة الدول المقيَّمة كـ ' حرة' في المسح السنوي الذي أجراه Freedom Hoascii117se ، من 1975 وحتى 2005، في كل من تصنيفات البنية العمرية الثلاث في النطاق الحالي ( لا تحتل أية دولة حتى الآن التصنيف الرابع P). هذه التصنيفات هي: Y: ( الشابة)، عمر متوسطي أقل أو مساو لـ 25 عاماً؛ ( المتوسطة) ، I: من 25 الى 35 عاماً؛ (الناضجة) ،M: أقل من 35 إلى 45 عاماً؛ P( ما بعد النضوج): مساو لسن الـ 45 أو أكبر.

(*) (ديمغرافي سياسي تركز أبحاثه على التحول الديمغرافي والهجرة البشرية وعلاقة ذلك بالتحول السياسي، والاقتصادي والبيئي. ظهرت منشوراته حول هذه المواضيع في مجلات Foreign Policy، Natascii117re، و Science. ساهم بأحدث التدريبات المستقبلية العالمية، ' التوجهات العالمية 2025':عالم متحول (2009) و' العبء العالمي للعنف المسلح الصادر عن الأمانة العامة لإعلان جينيف (2008) ـ ( E – Notes Foreign Policy Research Institascii117te) ـ كانون الثاني 2012

موقع الخدمات البحثية