مُنحت وسائل الإعلام المختلفة في مصر حرية أكبر عقب ثورة 25 يناير 2011، وفي مقدمتها الإعلام التلفزيوني، حيث تأسست عشرات الوسائط الإعلامية والقنوات الفضائية، وكان حضور السياسة والمتابعات والتحليلات السياسية لافتًا في المحتوى الإعلامي المقدم من خلال هذه الوسائط على اختلاف اهتماماتها وتخصصاتها، ولا يُستثنى من ذلك القنوات الدينية التي أُطلقت عقب الثورة، والتي مثّل اهتمامها بالسياسة تغييرًا كليًّا لتوجهات القائمين عليها، لا سيما أن أغلبها يُحسب على التيار السلفي الذي حرص قبل الثورة على حث أنصاره على البعد عن السياسة، وعدم الخروج على الحاكم، فيما شكل تحالف هذه القنوات مع السلطة إبان فترة حكم الإخوان المسلمين، وتوظيفها لشعارات دينية لحشد الجماهير ضد معارضي النظام السابق، نقطة مهمة في دخول القنوات الدينية منعطف الأزمة التي تسببت في إغلاق العديد من القنوات الدينية عقب ثورة 30 يونيو 2013، بسبب حضها على العنف، وإذكاء الطائفية في المجتمع. غير أن هذه الخطوة لم تكن حلا ناجزًا لمواجهة خطر هذه النوعية من القنوات، لا سيما مع اتجاه القائمين عليها إلى إيجاد البديل، من خلال إنشاء قنوات أخرى تُبث من الخارج، وتقدم الأفكار نفسها، وتستهدف الجمهور ذاته.
غياب المهنية:
بداية تجب الإشارة إلى أن 'الإعلام الديني' لا يعني القنوات المتخصصة الدينية فقط، وإنما أيضًا يشمل البرامج الدينية التي تبثها القنوات العامة، كما لا يقتصر فقط على القنوات الدينية الإسلامية، وإنما يمتد أيضًا للقنوات المسيحية. غير أن التركيز هنا سيكون على القنوات الدينية المعبرة عن تيار الإسلام السياسي.
ويمكن القول إن الإعلام بشتى أنواعه واهتماماته يُعد انعكاسًا لما يعانيه المجتمع من تناقضات واستقطابات، الأمر الذي ساهم في إفراز إعلام طائفي ديني وغير ديني، إلا أن النماذج الأكثر فجاجة في طائفية الإعلام في مصر خلال الفترة الماضية، كانت تلك الصادرة عن القنوات الدينية التي اتخذت من الشعارات الدينية منطلقًا لها للتأثير على المتلقي، تحت مظلة 'المشروع الإسلامي'، حيث تحولت الفضائيات الدينية إلى ساحة حرب بين الإسلاميين والليبراليين، والشيعة والسنة، والصوفية والسلفية، والمسلمين والمسيحيين. وعملت هذه القنوات على خلط ما هو ديني بما هو سياسي، واعتبرت أن من لا ينتمي لمشروع الإسلام السياسي فهو بمثابة 'عدو'، ولعبت دورًا مهمًّا في إذكاء حالة الطائفية والاستقطاب في المجتمع. لا سيما خلال فترة الاستحقاقات الانتخابية، مستخدمة شعارات مثل 'صوت بنعم للإسلام' و'قالت الصناديق للدين نعم'.
وقد اعتمد هذا الإعلامُ الديني الطائفي فيما يقدمه على عنصرين أساسيين: أولهما، تجميل الذات والتأكيد على تمسكه بتعاليم الدين. وثانيهما، تشويه الآخر وتكفيره، مما أدى إلى انحراف تلك القنوات عن رسالتها الدينية، واتجاهها نحو محاولة تحقيق مكاسب سياسية، وبالتالي أهدرت فرصة سانحة لبلورة رؤية دينية إعلامية حقيقية بعد ثورة يناير، وزيادة مساحة الحرية، فيما تم توظيف الدين لخدمة تيار الإسلام السياسي بشكل عام، لا سيما بعد وصوله إلى السلطة.
فبداية، يلاحظ استخدام أبرز القنوات الدينية في مصر شعارات تحاول من خلالها التأثير على المتلقي، فعلى سبيل المثال، اتخذت قناة 'الناس' شعار 'قناة تأخذك إلى الجنة'، وكذلك قناة 'دليل' التي تبنت شعار 'ليطمئن قلبي'، وشعار 'إن تطيعوا تهتدوا' لقناة 'الحكمة'، وشعار 'معين لا ينضب' لقناة 'الكوثر'، و'نور وبصيرة' لقناة 'الخليجية'، في الوقت الذي تحولت فيه برامج هذه القنوات للحشد للنظام السابق، والتحريض ضد معارضيه، في محاولة للتأثير على المتلقي البسيط.
ويُعاني الإعلام الديني من نفس أزمات الخطاب الديني بالمنابر والمساجد، وأبسطها نمطية الطرح، وسيطرة الأهواء والقناعات على اتجاهات الخطاب، غير أن أزمة الخطاب الديني فيما مضى كانت محصورة في مرتادي المساجد، أما الآن فهي عامة على شاشات التلفزيون حيث القنوات الدينية واسعة الانتشار.
وإلى جانب عدم مهنية المحتوى، تُعاني أيضًا هذه القنوات من خلل استراتيجي في بنية العمل وهيكله، في ظل غياب كوادر إعلامية قادرة على إدارة قنوات مهنية؛ حيث يلاحظ تحول بعض القنوات الغنائية إلى قنوات دينية، إلى جانب محاولات بعض القنوات الدينية تحقيق أرباح مالية من خلال وجود إعلانات، ومساهمات الجمهور عبر رسائل الـsms، وتقديم خدمات الهاتف الإسلامي، وغيرها من وسائل جلب الأموال.
أسباب متعددة:
ثمة عوامل عديدة ساهمت بشكلٍ ما في زيادة عدم مهنية الإعلام الديني، وتحوله إلى إعلام طائفي يعكس الواقع بتناقضاته، ويسهم في تكريس هذا الواقع وليس إصلاحه، من أهمها:
1- المحاولات السابقة والحالية لتسييس المؤسسات الدينية والزج بها في العمل السياسي، من خلال فتاوى ومواقف القائمين عليها، وبالتالي بدأت هذه المؤسسات في فقد تأثيرها المعنوي والديني على المجتمع، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لدخول الوجوه الجديدة من دعاة القنوات الفضائية لممارسة التأثير الديني على المتلقي.
2- غياب خطاب ديني يستطيع مجاراة التطورات التي يشهدها المجتمع، ويوضح أن الاختلاف ليس عداوة، وأن السياسة لا توجب التوحد حولها كما الدين، وقادر على تفسير المصطلحات الجدية الخاصة بالسياسة كالديمقراطية والليبرالية بشكل صحيح، وبالتالي ظهرت محاولات 'شيطنة' الداعين لهذه المبادئ وتكفيرهم، فيما انساق وراء هذه المحالات البسطاء الذين يثقون في أي حديث يغلف بغلاف من التدين.
3- ضعف تأثير بعض الإجراءات، على غرار وقف بث بعض القنوات الدينية بحجة أنها تكرس روح الطائفية في المجتمع، وتحض على العنف، فرغم أهمية هذه الإجراءات، إلا أنها لا تبدو كافية، وليست بالفاعلة، حيث لجأت بعض هذه القنوات للبث من الخارج، وقدمت محتوى إعلاميًّا أشد تطرفًا من الخطاب السابق، وهو ما يزيد من أهمية العمل وفق مفهوم 'الأمن الثقافي' للمجتمع المصري، من خلال الحث على تقدير الذات المصرية، والتركيز على مفاهيم المواطنة، والتعددية، وتوجيه القنوات العامة إلى إنهاء حالة الاستقطاب التي تعتبر أرضًا خِصبة لوجود الأفكار المتطرفة التي تبثها بعض هذه القنوات.
المصدر: المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية