يُثير أداء وسائل الإعلام، وبشكل خاص المرئية منها، تساؤلات عدة حول دورها في تأجيج عنف الشارع في العديد من دول المنطقة، وإسهامها أيضًا في التحريض ضد طائفةٍ أو جماعةٍ ما، لا سيما خلال تغطية فترات الأزمات السياسية وما بعدها، التي يُلاحظ فيها عدم التزام العديد من القنوات الرسمية والخاصة بقواعد المهنية والحيادية، واتجاهها إلى ممارسة التحريض والتحريض المضاد، والدخول كطرف في هذه الأزمات.
ولا يقتصر ذلك الجدل المحتدم حول دور الإعلام في تأجيج الصراعات التي يُمكن وصفها بالطائفية على وسائل الإعلام المحلية الرسمية والخاصة فقط، وإنما يمتد أيضًا إلى وسائل إعلام أخرى عربية وأجنبية، تتبنى النهج ذاته في الانحياز الواضح لجماعة دون الأخرى، والتحريض ضد معارضيها.
طائفية وتحزب الإعلامتتعدد أشكال طائفية الإعلام ما بين الانحياز لطائفة دينية والتحريض ضد أخرى، أو التحيز لجماعة سياسية، وتخوين معارضيها، ويمكن القول إن ظاهرة الإعلام المتحزب لطائفة دينية أو الموالي لجماعة سياسية هى ظاهرة عالمية وليست مقتصرة فقط على منطقة الشرق الأوسط التي تشهد أزمات سياسية عديدة، واحتقانات دينية متعددة. فعلى سبيل المثال، ظهر الإعلام الديني المتطرف في الغرب، وتحديدًا في الولايات المتحدة الأمريكية التي شهدت أول تجربة لاستخدام القنوات التليفزيونية كمنبر لنشر أفكار دينية معينة، في ظل سيطرة اللوبي اليهودي على أكثر المحطات التليفزيونية الأمريكية انتشارًا، وقد ظل تأثير هذه القنوات محدودًا داخل الولايات المتحدة الأمريكية من خلال التعبير عن مصالح فئة مالكيها، والتأثير على قرارات النخبة، إلى أن بدأت مرحلة الإعلام العابر للحدود، حيث واصلت هذه القنوات وغيرها الدور ذاته، وعملت على فتح قنوات متعددة اللغات لمخاطبة عدد من الدول، بهدف استخدامها كسلاح في ساحة الصراعات الإقليمية.
غير أن انتشار الفضائيات والقنوات الخاصة بشكل كبير قد أسهم في دخول الإعلام في أزمات سياسية ومجتمعية في المنطقة، في ظل مناخ مضطرب، يسمح بالاصطفاف والاصطفاف المضاد، لا سيما في الدول التي تتعدد فيها الانتماءات الدينية والأعراق، وتغيب عن مجتمعاتها فكرة المواطنة. إذ يلاحظ انخراط الإعلام في محاولات تأجيج الصراعات الطائفية الدينية في تلك الدول التي تعلو فيها الولاءات الدينية والطائفية على الانتماءات الوطنية وفكرة المواطَنة، وتتزايد محاولات التحريض والتخوين ضد فئة سياسية ما خلال فترة الأزمات السياسية التي تشهدها بعض الدول.
ويُعدُّ الإعلام المذهبي المتطرف أحد أدوات تأجيج الصراع الطائفي في المنطقة، وبصفة خاصة بعد التوسع في تأسيس قنوات فضائية تنطلق من أسس مذهبية ودينية، ولا شك في أن المستجدات السياسية في المنطقة وحالة الاحتقان الطائفي والاصطفاف الديني المسيطرة على المشهد الإقليمي قد زادت من معدلات ظهور هذه القنوات، وهو ما يبدو جليًا في حالة العراق، حيث الصراع المذهبي بين الشيعة والسنة، والاتهامات المتبادلة التي توجهها هذه القنوات لبعضها بعضًا، وبثها روحَ العداء على أساس فقهي تارة، وإسقاط سياسي تارة أخرى، من خلال التركيز على الخلافات الفقهية، والاعتماد على تكفير الآخر، واستدعاء التاريخ وإقحامه في الخلافات المذهبية والسياسية، مما يزيد من احتقان المشهد على أرض الواقع. فيما تعد تجربة الإعلام الداعشي الأحدث في هذا المجال في العراق وسوريا، لا سيما أن الأخيرة قد دخل إعلامها الخاص والرسمي ساحة المعركة منذ بداية الأزمة السياسية في البلاد، من خلال التحريض ضد العلويين من جانب بعض القنوات الخاصة، والتحريض في المقابل ضد المتظاهرين من خلال القنوات الرسمية. فضلا عن دخول القنوات المموَّلَة من إيران على خط الصراع المذهبي في العراق، وامتدادها إلى بعض دول الخليج وبشكل خاص في البحرين، التي حاولت أجهزتها المختصة السيطرةَ على فوضى الفضائيات الإيرانية المحرضة.
أما على الصعيد السياسي، فيُلاحظ أثر البرامج التليفزيونية في تأجيج عنف الشارع المصري، لا سيما خلال الفترة التي سبقت ثورة 30 يونيو؛ حيث تبادل أنصار التيار الإسلامي والمعارضة الاتهامات بالخيانة والعمالة، فيما شهد المجتمع في سابقة هى الأولى من نوعها تحريضًا على الجاليات السورية والفلسطينية، بعد ظهور بعضهم في مظاهرات دعم النظام السابق، وإعلانهم تأييد حكم جماعة الإخوان المسلمين، كما لم يغب التحريض الطائفي ضد الشيعة والمسيحيين من جانب بعض القنوات الدينية المتطرفة التابعة لتيار الإسلام السياسي، كانت نتيجته حرق كنائس وتهجير أسر مسيحية من قرى في الصعيد، وقتل أربعة من الشيعة في يونيو 2013.
حدود حرية التعبيرتغيب عن المشهد الإعلامي العربي بشكل خاص والإقليمي بشكل عام، الحيادية في تناول الأحداث على الأرض، في ظل انتشار فوضى القنوات الفضائية الممولة والموجهة، والتي عادةً ما تعبِّر عن المصالح الخاصة لمالكيها، وفي ظل وجود أجندة معينة لكل قناة على حدة، تشغل الفضاء العربي والإقليمي بصراعات لا منتهية.
وفي هذا السياق، اختلف الخبراء والإعلاميون حول حدود الرقابة عندما يتعلق الأمر بما يمكن وصفه بالإعلام الطائفي؛ حيث يؤكد البعض أهميةَ منع التوجهات الطائفية في وسائل الإعلام بحزم، في مقابل آخرين يرون أن من دواعي حرية التعبير عن الرأي السماح لكل الجهات بإطلاق خطابها السياسي والديني في الإعلام. ورغم أن الأصل في مبدأ حرية التعبير هو إشاعته وليس تقييده، يُلاحظ أن أكثر الدول الديمقراطية لا تسمح للحريات بتجاوز مقتضيات الأمن المجتمعي، وفي هذا الاتجاه أشارت منظمة 'مراسلون بلا حدود' إلى استخدام الحجة الأمنية لتقييد حرية الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا التي سبق أن قامت الهيئة المختصة فيها بتنظيم الاتصالات 'أوفكوم' بسحب رخصة البث التليفزيوني لشبكة 'برس تي في' الإيرانية الناطقة بالإنجليزية، وقررت منع بثها داخل بريطانيا، بحجة خرق القناة الإيرانية لقواعد البث التليفزيوني البريطاني، وسيطرة السلطات الإيرانية على سياستها الإعلامية، وتبنيها نهجًا تحريضيًّا، الأمر الذي يُشير إلى ضرورة وجود هيئات إعلامية مستقلة يُلقَى على عاتقها مسئولية محاسبة وسائل الإعلام المختلفة وفق شروط وقواعد المهنية والحيادية، والبعد عن التحريض، وهو ما يفتقده الفضاء الإعلامي في المنطقة.
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية