عبير بسام
يهود الخزر المعروفون بيهود الأشكناز، تعرفت عليهم كأحد أفرع اليهود المنتشرين حول العالم، في عمر السادسة عشر، من خلال دراسة أعدها الدكتور العراقي أحمد (نسيم) سوسة، اليهودي الدين، والعروبي الإنتماء، في كتابه "العرب واليهود في التاريخ". لم تكن يوماً يهودية سوسة رمزاً لإنتماءه الوطني، وكان هذا الأمر ملفتاً، لأنني لم أعرف أن الدكتور نسيم سوسة ولد يهودياً في العراق وغير اسمه إلى أحمد إلا منذ عامين فقط. كان لهذه المعرفة أثر كبير في إعادة تركيب فهمي العام تجاه القضية الفلسطينية، والتي كانت قضية أساسية في البيئة التي نشأت فيها. فالأشكناز، هم ليسوا السفاردين أو السفارديم، وهم اليهود الشرقيون الذين عاشوا في أوروبا بعد أن فتح الأمويون اسبانيا، ولا هم اليهود الشرقيون الذين بقوا في بلادهم. ومن الملفت أن تاريخ الخزر لم يرتبط بشكل خاص بالمنطقة العربية، لا من قريب ولا من بعيد، ولا علاقة له بالسامية ومعاداتها، وهو جزء من تاريخ الصراعات خلال توسع الدولة العثمانية في العشرية الأولى من القرن السادس عشر وتوسع القيصرية والروسية والدور المارق الذي لعبه الخزر في منطقة بحر قزوين أو الخزر، أنذاك، من أجل التحكم بالسلطة ما بين القيصرية والسلطنة الناشئتين، وبعدها كشف خداعهم وتم طردهم من منطقة الخزر.
من الأفضل أن نتعرف على موقع مملكة الخزر ممن عاصرها ومر بها ووصفها، ليس الأمر من أجل دراستها بل من أجل التوافق المهم، الذي وصفها به الإصطرخي، وهو رحالة عربي زار العديد من الممالك خلال حكم الدولة العباسية، وكتب عنها وما بين ما نقله المؤرخين الحديثين ومنهم أحمد سوسة. وبحسب الإصطرخي فإن الخزر هو اسم الإقليم، أو البلاد، وعاصمتها أتل. وتسمى العاصمة باسم النهر الذي يمر خلالها، وهو المعروف اليوم بنهر الفولغا. للعاصمة قسمين شرقي وغربي ويسكن الملك في القسم الغربي. ويقول الأصطرخي أن النهر يمر ببلاد الروس والبلغار، مع العلم أن الفولغا لا يمر اليوم في بلغاريا المعروفة، ولكن من الممكن أن يكون أصل البلغار من المنطقة نفسها. ولكن كان يمتد حكمهم من نهر الفولغا حتى مصب النهر في بحر الخزر، أو بحر قزوين، وكان يسمى باسمهم.
الملفت أن الإصطرخي يقول أن الملك يسمى بلسانهم، بك أو باك، ومنها يمكننا أن نعلم من أين جاء تعبير "بيك"، الذي رافق مأساة منطقتنا خلال أربعة قرون من الحكم العثماني. فالخزر يتحدثون أحد اللهجات الطورانية، أي التركية والتي انتشرت في آسيا الوسطى، أي أنهم جاؤوا من هناك، والعديد من المؤرخين يقولون أنهم ذوي أصور إيغورية أو طورانية، ومن هنا يمكننا أن نفهم ولو القليل عن يهود الدونما، الذين عاشوا في كنف الدولة العثمانية، وهم يتحدثون بلسانها وحتى اليوم. وقد كان يهود الدونما هم من أهم العناصر التي اعتمد عليها تيودور هرتزل من أجل التواصل مع السلطان العثماني عبد الحميد من أجل السماح لليهود الصهاينة بالهجرة إلى فلسطين.
وبالتالي فمن الواضح أن مملكة الخزر، التي كانت تقع ما بين الدولة العربية العباسية والتي تدين بالدين الإسلامي، والقيصرية الروسية، التي تدين بالمسيحية. لم يفتح العرب مملكة الخزر الوثنية، يرجع تبرير ذلك إلى ما قاله أحمد سوسة، وما شهده الأصطرخي، أن الخزر اعتنقوا اليهودية، ولكن اعتنق بعضهم بنسب قليلة الإسلام والبعض الآخر اعتنق المسيحية، وعندما زارها الإصطرخي كان البعض ما يزال يعبد الأوثان، وكانوا يدفعون الجزية. وبنيت بيوتهم من الطين، ومعظم سكنهم كان عبارة عن خيم، واسمها "خركات لبود"، وهي الخيام التركية المعروفة، ومنع الملك بناء البيوت بالآجر لأحد سواه.
بحسب الإصطرخي، يسمى الملك بلسانهم بالبيك، وديانة الملك كانت اليهودية. وأصول الخزر من تركستان الشرقية، أو ولاية كزينغ يانغ في غربي الصين، والذين يطلق عليهم اليوم تسمية "الإيغور". نتحدث عن هذه الأصول في محاولة لفهم تقاطيع الوجه التي تسود ما بين اليهود الأشكناز أو يهود الخزر، والذين انتشروا بمعظمها في أوروبا الشرقية وحتى ووصل امتدادهم بعد محاربتهم من قبل ايفان الرهيب، بعد أن قام الخزر بحرق موسكو، ولم يبقوا إلا على الكرملين، وكانت المعركة في الثلث الأول من القرن السادس عشر. كما كان هدف القيصر يومها السيطرة على طرق التجارة مع أوروبا وخاصة عبر بحر البلطيق. ويعتبر اليهود الخزر، الذين لم يستطيعوا التعايش ضمن مجتمعات الشعوب الذين توزعوا بينهم، العصب الأساس في الحركة الصهيونية، ومنذ انهيار مملكة الخزر وهم يحلمون ببناء دولتهم الخاصة بهم.
الدكتور عبد الوهاب المسيري، في كتابه اليد الخفية، يشرح أنه بعد تفرق الخزر، والذين كانوا يتحدثون لغة اليديش، ولم يعرفوا يوماً اللغة العبرية، توجه هؤلاء إلى أوروبا، وكانوا من أغنياء الخزر الذين هربوا من حرب إيفان عليهم وقاموا بتهريب أموالهم وذهبهم، ابتدأ هؤلاء عهداً آخر في أوروبا، عهد تجارة المال، من خلال الربا، خاصة وأن الكنيسة كانت تحرم على المسيحيين الإدانة بالربا. وأما بحسب الدكتور أحمد سوسة فقد كان سكان مملكة الخزر من عبدة الأوثان الذين اختاروا العيش بأماكن منعزلة عن المجتمعات التي هاجروا إليها، ولربما كان هذا أحد أهم أسباب الطريقة التي تعاطى بها أبناء تلك المجتمعات، وخاصة أنهم كانوا أغنياء في مناطق الفقراء.
وحول ملامح الخزر فيقول الإصطرخي، أنهم لا يشبهون الشعوب الطورانية وشعرهم أسود، وهم صنفان: صنف أسمر غامق يسمى قزاخر يشبه الهنود، وصنف أبيض ظاهر الحسن والجمال. وكان عبدة الأوثان منهم يجيزون استرقاق بعضهم البعض وبيع أولادهم بينما باقي الديانات كانوا يحرمون الإسترقاق فيما بينهم. ومن هنا يمكننا أن نفهم كيف يستطيع هؤلاء زج بناتهم وشبابهم في الدعارة والموبقات من أجل ضمان مصالحهم.
ما قاله الإصطرخي حول مملكة الخزر، وما قاله د. سوسة حول علاقة مملكة الخزر بيهود الأشكناز تحديداً، يتطابق تماماً مع الدراسة، التي نشر نتائجها موقع "الجزيرة"، والتي أجراها الدكتور آران الحايك في معهد جونز هوبكنز في العام 2012، والتي أثبتت أن اليهود المتحدرون من أصول أوروبية يشكلون أكثر من 90% من يهود العالم، والبالغ عددهم 13 مليوناً. وهذه ليست أول دراسة عن أصول اليهود، فقد أوضح الحايك، الذي كشف لـ"الجزيرة" في مقابلة خاصة، أنه كانت هناك دراسة سابقة لمجلة Nature "الطبيعة"، ولكنها لم تصل إلى أية نتائج. ربما لم يكن من المسموح لمجلة "الطبيعة" أن تصل إلى النتيجة التي حسمتها الدراسة الجينية، ويبدو أن هذه الدراسة هي التي منعت الفحوصات الجينينية في الدولة العبرية، إلا بأمر من المحكمة. هكذا عنونت "جيروزالم بوست" مقالاً نشرته في آذار/ مارس 2019، والسبب في ذلك "يمكن أن تحمل هذه الإختبارات آثاراً وطنية[هدامة]، و[تؤثر على] كون اسرائيل دولة دينية يهودية معترف بها"، وبالتالي يمكن أن تؤدي هذه الإختبارات إلى نسف المزاعم التي تقول أن "اليهود ينتمون إلى عرق واحد".
وصف الدكتور الحايك القول بأن انتماء اليهود الأشكناز، والأوروبيين بشكل عام للعرق السامي هو محض هراء! اذ خلصت الدراسة إلى زيف الإدعاء بالحق التاريخي في أرض فلسطين. الحايك، ليس الوحيد الذي نقض هذه الفرضية، فالمؤرخ الصهيوني شلومو زاند ومن خلال البحث التاريخي وصل إلى نفس النتيجة وصرح بذلك في لقاء تلفزيوني في برنامج "حوار الساعة" على قناة مساواة الفلسطينية في العام 2018. زاند، تحدث عن العنصرية خلال اللقاء وعن سخافة الطرح الصهيوني، فحتى الشعوب الأخرى التي تحدثت عن قوميتها، مثل الألمان والإيطاليين، خاصة ما قبل الحرب العالمية الثانية، لم يبحثوا عن نقاوة العرق، بل عن الشراكة في التاريخ واللغة والعادات والتقليد والثقافة.
عندما نستعرض العصابات الصهيونية ومن اين جاءت، سيتضح من أسماء مؤسيسيها وجنسياتهم أنهم من يهود أوروبا الشرقية ومعظم هؤلاء هم من كبار المنظرين حول الصهيونية فسنجد أن معظمهم من البولنديين او البلغاريين وروسيا البيضاء وأوكرانيا، والذين فرقهم القيصر إيفان في اوروبا. فتيودور هرتزل، هنغاري وهو يهودي أشكنازي، وحاييم وايزمان، أول رئيس للكيان الصهيوني، من روسيا البيضاء، وأحد مؤسسي الهاغاناه فلاديمير جابوتنسكي ولد في أوكرانيا، والياهو غولومب من بيلاروسيا. أما الآرغون فقد تشكلت بزعامة ابراهام تيهومي وهو روسي، وتلقى دعماً سرياً من الملكية البولندية بهدف ترحيل اليهود عن أراضيها، ومن استلم قيادتها في العام 1943 مناحيم بيغن، وهو من روسيا البيضاء، وأكمل دراسته في بولندا. أما شتيرن فقد أسسها ابراهام شتيرن وهو بولندي. واخيراً، البلماخ أو "جند العاصفة"، وفيها برز اسماء تعاقبت على حكم الكيان وأهمها ديفيد بن غوريون من بولندا، ومنهم اسحق سادي وهو ضابط سابق في الجيش القيصري، وموشيه ديان من أوكرانيا، واسحق رابين وهو أوكراني ووالدته من روسيا البيضاء.
في اليهودية إن لم تكن الأم يهودية في الأساس فمن الصعب القبول بالأبناء على أنهم من الدين اليهودي، فالأم تمثل الأرض التي ينبت فيها الأبناء، وهذا المبدأ وثني، ولذلك يمكننا فهم الحالة التي نشؤوا عليها خاصة بعد اضطرار ملك الخزر اعتناق اليهودية كي يحافظ على استقلاله ما بين المسيحيين في روسيا والمسلمين في آسيا. والديانة اليهودية ليست ديناً باطنياً، بل هي دين تبشيري، ولذلك من هذا المبدأ لا يمكن حصر اليهودية بأبناء سام من نوح، أو حتى بأبناء اسحاق عليه السلام، أو بسام بن نوح، والخزر أساساً لا علاقة لهم بالسامية.
المبدأ الثاني الذي قامت عليه الصهيونية هو ما كتب في كتاب "حكماء بني صهيون"، والكثير من الدراسات أظهرت، ومنهم دراسة للدكتور عبد الوهاب المسيري، والتي تقول أن هذا الكتاب لم يكتب في الشرق الأوسط وأن أدبه لا علاقة لها باللغة العبرية وتعابيرها المرتبطة في الأساس بكل من اللغات الآرامية أو البابلية، بل الأصل في التعابير الأدبية في الكتاب هي يديشية، وهي لغة أهل الخزر، أو مملكة الخزر، المختلطة مع التعابير الروسية أو اللغات السلافية القديمة. وهذا أمر مهم وهو يعيد تأكيد ما كتبه الدكتور أحمد سوسة حول مملكة الخزر وعن أصول اليهود فيها. لماذا نعيد الكلام بهذا الأمر؟ بكل بساطة للتذكير أن الدولة الصهيونية في فلسطين، هي مشروع استعماري غربي، ويجب إنهاءه عن بكرة أبيه.