عبير بسّام
استفاقت منذ بضعة أيام قناة CNN لتقدم تقريرًا حول مصداقية وسائل الإعلام وتأثيرها على الديمقراطية في الولايات المتحدة. وقابلت اختصاصيتين من "مركز الأبحاث الوطني حول الأراء" [NORC، National Opinion Research Center] في جامعة شيكاغو، وهما "جنيفر بنز" و"ماريانا ميزا هيرناندز". الأخيرة كانت قد كتبت مقالًا مشتركًا مع توم روزنستيل، في الخامس من هذا الشهر في "واشنطن بوست"، بعنوان: "في الواقع، الناس لا يكرهون وسائل الإعلام بقدر ما تعتقد"، أعادت فيه قراءة أفكار وآراء الجمهور الأميركي حول دور الإعلام ومصداقيته بحسب الرأي العام في أمريكا، ودور الصحافة في حريف الديمقراطية عن مسارها.
يشكك المقال في نتائج استطلاع قامت به "أسوشيتد برس" في الخامس من أيار/ مايو 2023، لناحية طريقة طرح الأسئلة وعدد الأجوبة المقترحة، وهي أربعة بحسب نظام "غالوب" للإستطلاع. وتفترض "بنز" أنه لو كان على ورقة الإستطلاع خمسة أجوبة مختلفة لاختلفت الآراء. ولكن ماذا لو كان الجواب ببساطة "صح أو خطأ"؟ وهنا نرى أن أي من الباحثتين لم تتطرقا للأمر خلال الحديث للـ CNN. صحيح أن الناس لا يكرهون وسائل الإعلام. لكن إستطلاع NORC لا يتحدث مبدئياً عن الثقة في الإعلام، إنما الهدف منه البحث في إمكانية وكيفية تصحيح الخطأ، من أجل صحة العمل الديمقراطي في البلد. ولذا جاءت نتائج إستطلاع NORC لمصلحة المؤسسات الإعلامية، التي تتعرض مصداقيتها للمساءلة في كل يوم حتى على منابرها من قبل الضيوف الذين يتهمونها بالعنصرية والتحيز للصهيونية وضد الفلسطينيين في غزة.
وعلى الرغم من حالة الدفاع المستميتة عن مصداقية الإعلام فقد تجاهلت "هيرناندز" في مقالها تماماً الأحداث الأخيرة في فلسطين وغزة ولم يتحدث عنها أبداً وكيف أن "طوفان القدس" خلق حالة انعدام الثقة وخاصة عند جيلي الألفية، الذي ولد ما بين 1980- 1994، والجيل زيد [Z]، الذي ولد من 1995 وحتى 2009.
اذ يبدو أن المسح الإجتماعي حول الثقة بالمؤسسات الذي أجرته NORC أجري ما بين جمهور محدد ولم يأخذ عينات مختلفة الأعمار أو الأجيال. ومع ذلك فقد خلص المقال إلى أن أزمة الثقة حقيقية وأن وسائل الإعلام الإخبارية والكونغرس يتشاركان أدنى مستويات الثقة، وأن مستوى الثقة بهما بلغ أدنى من 10%. وهذا الكلام لا علاقة له بما حاولت السيدتان قوله، فالناس تبحث عن الأخبار وتتابعها، فعندما يتعلق الأمر بالأخبار المحلية فإن الناس يتلقونها من المصادر المحلية وليس تلك التي تعمل على مستوى وطني في أمريكا مثل الـCNN والـABC وفوكس نيوز وغيرهم. كما أنهم يلجؤون إلى منصات التواصل الإجتماعي أو دفع الإشتراكات مقابل الأخبار، وقد وجد الإستطلاع المشترك بين Media Insight وNORC أن 60% من الناس التي تقل اعمارهم عن 40 عاماً يدفعون مقابل الأخبار أو يتبرعون بها بطريقة ما. أي أنهم لا يشاهدونها على التلفاز أو يقرؤونها في الصحف اليومية، مع العلم أن العينات اتهمت المؤسسات الإعلامية بأنها تدير الحديث وتطرح الآراء بما يتناسب مع أهدافها السياسية
وتوجهاتها. وأن البحث لا يقول بأن العينة لا تتطلع على الإعلام ولكن من خلال النتائج، التي عرضت، فهي تقول: كيف يطلع الناس على الأخبار؟ وهذا ما يمكن أن يفهم من النتائج لأن معظم الناس يطلعون على العناوين، ليأخذوا بالمعلومة الأساسية ولكنهم لا يهتمون أبداً بكيفية طرح الأراء لأنها متحيزة وليست موضوعية ويمكنها ان تتلاعب بالحقائق والأراء.
اذن فشل الهدف في تصحيح أي خطأ، والحماسة التي أبدتها الـCNN أو غيرها حول تصحيح الخطأ، الذي جاء في نتائج تقرير نشرته "الأسوشيتد برس" في الأور من أيار/ مايو 2023، بمناسبة اليوم العالمي للصحافة، بأن الأميركيون لا يثقون بإعلامهم في تكريس الديمقراطية، فشل. وأما إدارة النقاش فقد كانت مضللة بالتأكيد.
نفذت "الأسوشيتد برس" استطلاعها خلال شهري آذار/ مارس ونيسان/ أبريل من العام الماضي، ولم يتناول البحث على سبيل المثال كيفية تناول الإعلام للأخبار الدولية والعالمية، بل هل الأخبار صادقة أم موجهة؟ أظهر الاستطلاع أن ما تقوم به وكالات الإعلام، مثل الأسوشيدت برس أو رويترز أو بلومبيرغ وغيرها، في نقل الحوادث وهو أهم شأناً من التحليلات والفذلكات التي يقوم بها الإعلام الوطني.
بحسب استطلاع "الأسوشيتد برس"، والذي شمل 1002 شخصاً، أن 44% من البالغين يعتقدون أن دولتهم تحمي حرية الصحافة و42% بأنها تحمي حرية التعبير، ولكن ثلاثة ارباع من استطلعوا يرون أن: "أن التفضيلات السياسية لأصحاب المؤسسات الإخبارية لها تأثير كبير على وسائل الإعلام الإخبارية في الولايات المتحدة... [و] حوالي الثلث يشعرون بقلق بالغ بشأن الهجمات على الصحافيين". وفي كل الأحوال، يرى 93% من البالغين [المستطلعين] أن انتشار المعلومات الخاطئة يمثل مشكلة، ويتهم ثلثي المستطلعين: أن المسؤول عن انتشار المعلومات المضللة هم السياسيين الأميركيين وشركات التواصل الإجتماعي ومستخدميهم، فيما 58% منهم يحملون مسؤولية الأمر لوسائل الإعلام. وعندما يتعلق الأمر بحل مشكلة يرى 63% من البالغين أن وسائل الإعلام الإخبارية تتحمل قدراً كبيراً من المسؤولية في معالجة انتشار المعلومات الخاطئة. هناك أرقام كثيرة نشرت منذ استطلاع الاسوشيتد برس ولكن الملفت بينها أن العديد من الأميركيين يشككون في الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام الوطنية في حماية الديمقراطية وأن هناك 16% فقط ممن يثقون بوسائل الإعلام ثقة كبيرة، و45% لا ثقة لها بها على الإطلاق.
وفي مقال لديفيد كليبر على "الأسوشيتد برس" نشر في أيار/ مايو العام الماضي، جاء في مطلع المقال: "عندما يتعلق الأمر بوسائل الإعلام الإخبارية وتأثيرها على الديمقراطية والإستقطاب السياسي في الولايات المتحدة، فمن المرحج أن يقول الأميركيون إنها تضر أكثر مما تنفع". ولذلك فقد نقل كليبر في مقاله عن سيدة تدعى باربرا جوردان وتبلغ الـ 53 من العمر، وهي ديمقراطية من كنساس أن: "الأخبار تثير غضب الناس"، وأنها تجري بحثها الخاص عبر الإنترنت بدلاً من الأخبار المتلفزة، وأضافت: "أنا أثق بالإنترنت أكثر مما أتق بالتلفزيون".
سبق استطلاع "الاسوشيتد برس" استطلاع آخر قامت به مؤسسة غالوب ونايت، وشارك في الإستطلاع 5600 أميركي، قالوا أنهم يشعرون بأن المؤسسات الإعلامية تبلغ عن معلومات مضللة وكان لدى 26% منهم فقط رأي إيجابي، وهو أدنى مستوى سجلته ثقة المواطنين الاميركيين بإعلامهم. كما أن الإستطلاع وجد أن 72% من المئة يعتقدون أن غرف التحرير قادرة على خدمة الجمهور ولكنها سيئة النية تجاهم، في حين اعتبر 23% فقط أنها تضع في حسبانها مصلحة الأميركيين أولاً.
لفتت "بنز" و"هيرناندز" أن العينات التي تتطلع على الإعلام لا تمثل بشكل واقعي جيلين هما : جيل الألفية والجيل زيد [Z]، وخاصة الأخير، فهؤلاء لا يطلعون على الأخبار التي يرغبون بسماعها إلا عبر وسائل التواصل الإجتماعي. وهذا ما يفسر خروج الآلاف في الشوارع بعد المجازر الذي نفذت منذ السابع من تشرين الأول/ اكتوبر في فلسطين وارتفعت العداد لتصبح مئات الآلاف والتي ابتدأت تضم جماهير من قواعد شعبية مختلفة الأعوام، وهنا لا يمكننا التقليل منتاثير الجيل زيد على أقرانهم وعائلاتهم.
ومن خلال هذه القراءة حول العلاقة ما بين الإعلام والمواطن الأميركي، والتي يمكننا إسقاطها حول ما حدث مع جيل الألفية في 2011 والذي كان وقتها ما بين العشرين والثلاثين من العمر، والذي عرف بجيل الفيس بوك في بلادنا، والأمر ينطبق هنا على معظم مواليد الجيل زيد في أمريكا والغرب، الذي اكتفى بإستقاء المعلومات من وسائل التواصل الإجتماعي كمصدر وحيد، والتي لجأ إليها هذا الجيل بإقبال كبير اكبر من مشاهدة الأخبار. وبذا فقد تسببت وسائل التواصل الإجتماعي بتغيير كبير في الآراء في الغرب والولايات المتحدة، خاصة ما بين الفئات العمرية التي تتراوح أعمارها ما بين السادسة عشر والأربعينات. ويمكننا هنا أن نتذكر كيف لعبت وسائل التواصل الإجتماعي عبر شائعات مولها الغرب على الفيس بوك تحديداً وكيف أقامت الدنيا وأقعدتها في الوطن العربي، بداية في مصر وتونس، وامتدت لتصبح هذه الوسائل متبعة في البلدان الأساسية المستهدفة: "العراق وسوريا ولبنان، ونشرت الفوضى الخلاقة منذ 2011 وحتى 2019، ومازالت هذه البلاد الثلاث تعاني أثارها المدمرة".
وبالعودة إلى مقال "واشنطن بوست" فإن انتقاد دور المؤسسات الصحافية لا يختلف عن الإستطلاعات التي نشرت قبل استطلاع NORC، فبحسب المقال فإن أصحاب الإيديولوجيات المختلفة واتباعها من ليبراليين أو محافظيين، يعتقدون، وبغض النظر عن ميولهم السياسية، أن هذه المؤسسات تتبع نمطاً في نشر أو بث القصص الإخبارية يثير الصراع أكثر من المساعدة في معالجته، ويعتقد معظمهم أيضاً أن وسائل الإعلام تميل كثيراً إلى تمرير نظرية المؤامرة والشائعات. فالمحافظون يميلون إلى القلق بشأن الصحافة الإستقطابية، والليبراليون قلقون من صحافة تروج للإشاعات.