د. علي دربج باحث واستاذ جامعي
على مدى أشهر، خرج عشرات الآلاف من المستوطنين إلى الشوارع دفاعا عن ما يسمى "ديمقراطيتهم"، التي يخشون أن تتعرض للخطر بشكل كبير، بسبب رغبة الائتلاف اليميني الفاشي الحاكم"، المتحالف مع رئيس الحكومة بنيامين نتتنياهو، في الحدّ من صلاحيات السلطة القضائية في الكيان.
وبالرغم من أن المحتجين، كانوا يتباكون على صورة الكيان المؤقت ونظامه (العدواني الاحتلالي) الذي سيتبدل، لكن الأزمة تسلط الضوء في الوقت ذاته أيضًا، على الانتقائية المعرفية ـــ حتى بين ما يسمى الجمهور الاسرائيلي الناقم ــــ التي حدثت جنبًا إلى جنب مع حركة الاحتجاج الهائلة في الكيان الغاصب.
فالإحتجاجات تجاهلت الاعتراف بالأفعال والأعمال العدوانية الهجمية (الارهابية) التي يمارسه الكيان الغاصب ـــ كالاحتلال المستمر للضفة الغربية وحرمان ملايين الفلسطينيين من حقوقهم في تناقض حتى مع شروط ومفاهيم ديمقراطيتهم المزعومة.
زد على ذلك أن الأزمة السياسية القائمة التي يغذيها المستوطنون المتطرفون بسياساتهم الارهابية ضد الفلسطينيين، غيرت (وفي تطور غير مسبوق) من صورة "اسرائيل: بعيون اشدّ النخب ـــ سواء داخل امريكا او الكيان ــــ تأييدًا وقربًا منها، من "ديمقراطية مزعومة"، الى كيان عنصري، وهو ما ظهر في الرسالة التي وقعتها أكثر من الف شخصية امريكية واسرائيلية، وضمت مجموعة كبير من الأكاديميين البارزين في الولايات المتحدة، الذين قرعوا جرس الانذار، ورفعوا الصوت عاليا، بالتحذير من أنه أصبح "الفيل في الغرفة"، في اشارة الى ما قد يحدث مستقبلا اذا استمرت الحكومة الفاشية بأفعالها المنافية لأدنى درجات الانسانية.
على أن الأكثر أهمية في تلك الرسالة، هو أنها جاءت تطبيقا لقاعدة " من فمك ادينك" حيث أن ما يحدث في الكيان يمثل اعترافا غير مسبوق من قبل انصاره التاريخيين بالظلم والغبن اللاحق بالفلسطينيين.
ما مضمون رسالة الشخصيات الأكاديمية الاسرائيلية ــ الأمريكية؟
انتقد البيان، الذي نشر لأول مرة على الإنترنت في نهاية الأسبوع الماضي "نظام الفصل العنصري" السائد ضد الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال. كما أنه يقدم المزيد من الأدلة على تحول الخطاب حول الكيان المؤقت، حتى بين بعض أقوى مؤيدي الكيان في الولايات المتحدة.
ليس هذا فحسب، فقد رأى الموقعون انه "لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية لليهود في إسرائيل طالما يعيش الفلسطينيون في ظل نظام فصل عنصري"، كما وصفه خبراء قانونيون إسرائيليون. وشددوا على انه من المستحيل فصل سعي نتنياهو لتوسيع الضوابط التشريعية على القضاء، عن رغبة حلفائه اليمينيين المتطرفين في ضم الأراضي الفلسطينية وزيادة تآكل الحقوق الفلسطينية.
أما الأكثر اهمية هو اعتراف هذه المجموعة الاكاديمية، بأن الهدف النهائي من الإصلاح القضائي هو تشديد القيود على غزة، وحرمان الفلسطينيين من حقوق متساوية خارج ما يسمى الخط الأخضر وداخله، وضم المزيد من الأراضي، والتطهير العرقي لجميع الأراضي الواقعة تحت الاحتلال من سكانهم الفلسطينيين.
من أبرز الشخصيات الموقعة على الوثيقة؟
في الواقع، ان ما يجعل الوثيقة ملفتة للنظر، هي القائمة الضخمة لأسماء الذين يصطفون خلفها. ومن بين هؤلاء العديد من الشخصيات التي تصف نفسها بالصهيونية، مثل المؤرخ المعروف بيني موريس الكاتب في صحيفة "وول ستريت جورنال"، إضافة الى ذلك، قال عمر بارتوف، وهو مؤرخ صهيوني في جامعة براون وأحد الناشرين الرئيسيين للرسالة، إن صعودهم (اي اليمين الفاشي) إلى السلطة يمثل تحولًا جذريًا للغاية جلب الى السطح التوترات والمظالم التي استمرت لفترة طويلة تحت الاحتلال الإسرائيلي المؤقت المفترض ــ تجاوز أكثر من نصف قرن ــ للضفة الغربية. واضاف: "هناك علاقة بين الاحتلال وكل ما فعله على مدى عقود ومحاولة الحكومة تغيير طبيعة النظام نفسه".
علاوة على ذلك، وصف بارتوف، الباحث البارز في "المحرقة" المزعومة، الأخطار التي يشكلها تحالف نتنياهو بعبارات تاريخية مشؤومة، قائلا: "أنا مؤرخ للقرن العشرين ولا أقوم بإجراء المقارنات باستخفاف.. هذه هي اللحظة الحالية في "إسرائيل". إنه لأمر مرعب أن نرى ذلك يحدث".
ما موقف النخب الامريكية من ممارسات حكومة الكيان الفاشية؟
عمليا، تشهد الولايات المحتدة هذه الايام تغيرا ملحوظا في الخطاب النخبوي (المنتقد) ان لم يكن مناهضا لـ"اسرائيل". وتبعا لذك، تعرب كتلة متنامية من مؤيدي الكيان الصهيوني عن انزعاجها مما يحدث هناك. ففي الشهر الماضي، كتب توماس فريدمان كاتب العمود في صحيفة "نيويورك تايمز" رسالة مفتوحة إلى الرئيس بايدن، حثّ فيها البيت الأبيض على إيقاف المسار الذي سار عليه نتنياهو لأنه "لم يضر بالديمقراطية الإسرائيلية فحسب، بل بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية" حسب تعبيره.
وفي السياق ذاته، أجرى زميله نيكولاس كريستوف مقابلة مع اثنين من السفراء الأمريكيين السابقين لدى الكيان الغاصب، اللذان أوصيا كلاهما بتكييف أو قطع المساعدة العسكرية للكيان الصهيوني، في وقت يتجاهل فيه الإسرائيليون بشكل روتيني شكاوى الولايات المتحدة بشأن التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، أو الخطوات الأخرى التي تجعل قيام دولة فلسطينية مستقبلية مستحيلة.
أكثر من ذلك، اعترف "دانييل كيرتزر"، أحد السفراء السابقين أن المساعدة المالية والعسكرية التي تتلقاها "اسرائيل" من واشنطن، لا توفر للولايات المتحدة أي نفوذ أو تأثير على القرارات الإسرائيلية لمنعها من استخدام القوة. وإذ قال "لأننا نجلس بهدوء بينما تنتهج إسرائيل سياسات نعارضها، يُنظر إلينا على أننا ممكِّنون للاحتلال الإسرائيلي"، اوضح ان "المساعدات الأمريكية، تشكل وسادة بمليارات الدولارات تسمح لإسرائيل بإنفاق المزيد من الأموال على السياسات التي نعارضها، مثل المستوطنات" حسب قوله.
وعلى المنوال ذاته، كرر "ماكس بوت" كاتب الآراء في صحيفة "واشنطن بوست"، وهو داعم تاريخي للكيان، فكرة الحدّ من المساعدات لـ"اسرائيل"، ودعا إلى إعادة تقييم علاقة الولايات المتحدة مع الكيان بالنظر إلى التطرف الذي يشكل الآن سياساته.
ماذا عن الموقف الامريكي الرسمي؟
بالرغم من أن العديد من استطلاعات الرأي حول مواقف الولايات المتحدة تجاه "إسرائيل"، تظهر تحولا مطردا في السنوات الأخيرة في التعاطف مع الفلسطينيين، خصوصا بين الشباب الأمريكيين والناخبين الديمقراطيين. غير ان الموقف العام حول "إسرائيل" لم يؤثر بعد على واشنطن الرسمية، لا سيما الكونغرس، الذي ما زال ينظر إلى أي انتقاد للكيان الغاصب، على أنه مثير للجدل وأي استحضار لـ "الفصل العنصري" في السياق الإسرائيلي يؤدي إلى اتهامات بمعاداة السامية.
وحول هذه النقطة بالتحديد يتحدث "بارتوف" قائلا: "يمكنك مناداتي بيهودي يكره نفسه، أو مناداتي بأنني معاد للسامية"، موضحًا أن "الناس يستخدمون هذه المصطلحات للتغطية على الواقع، إما لخداع أنفسهم أو لخداع الآخرين. عليك أن تنظر إلى ما يحدث على الأرض".
وبالمثل تتماهى نظرة بارتوف لـ"اسرائيل"، مع رؤية بنيامين بوغروند، وهو صحفي ومؤلف إسرائيلي مولود في جنوب إفريقيا كان قد قاوم لسنوات، وبإصرار تطبيق "الفصل العنصري" على "إسرائيل"، فمواقف بوغروند من "اسرائيل" انقلبت رأسًا على عقب، حيث يقول "نحرم الفلسطينيين من أي أمل في الحرية والحياة الطبيعية. نحن نعتقد أن دعايتنا الخاصة بأن بضعة ملايين من الناس سيقبلون بخنوع الدونية والقمع الدائمين". واضاف "تدفع الحكومة إسرائيل إلى أعمق وأعمق في سلوك غير إنساني وقاس يتجاوز أي دفاع".
في المحصلة، بعد تآكل قوة الردع لدى "اسرائيل"، فإن صورتها تسير على الخط ذاته، وأكبر دليل على ذلك هو اعتراف "بنيامين بوغروند" بواقع "اسرائيل" الدقيق، بأنها "دولة فصل عنصري" حسب تعبيره.