بقلم : مايكل هيرش(*)
"أريد عالما من السلام والحرية والديمقراطية" ، أعلن الرئيس البرازيلي الجديد يائير بولسونارو في خطابه الرئيسي في المنتدى الاقتصادي العالمي لهذا العام في دافوس، بسويسرا، يوم الثلاثاء. ثم طلب الزعيم اليميني المتطرف من الحضور ـ جميع أصدقائه الأثرياء الجدد ـ المجيء والاستثمار في "البرازيل الجديدة". وقد تلقى ترحيباً مهذباً.
إنه بالضبط هذا النوع من الهراء المفعم بالحيوية الذي توقعناه من هذا التجمع السنوي العجيب للأثرياء، الأقوياء جداً.
في الداخل، كان بولسونارو ـ الذي يُعرف أحيانًا باسم دونالد ترامب في البرازيل ـ ينتقد السود، ويمتلئ بالحنين للديكتاتورية العسكرية السابقة لأمته.
لسنوات، عقد هذا الاجتماع السنوي في قرية جبلية سويسرية صغيرة ـ وهو من بنات أفكار أستاذ ألماني غامض يدعى كلاوس شواب استهدف فيه مليارديرات العالم، وعمل الترويج له بلا كلل كنصب حي للعولمة لكن ما أظهره " منتدى دافوس" على مدار سنوات انعقاده هو كيف يمكن أن يكون عزل نخبة الحاضرين من واقع العولمة.
موضوع هذا العام هو السير إلى الأمام: "العولمة 4.0". في اليوم الأول، ناقشت روث بورات، كبيرة المسؤولين الماليين في شركة Alphabet المؤسسة الأم لشركة Google، فوائد شركتها وموضوع الذكاء الاصطناعي في لجنة تدعى "تشكيل هيكل السوق الجديد".
لم يعد "منتدى دافوس" المكان الذي يسمع فيه المرء أسئلة جوهرية تثار حول الرأسمالية لأن الأشخاص الذين يطلب المنتدى منهم معالجة مشكلات الرأسمالية العالمية هم في الغالب في نظر العديد من النقاد وحسب ( نموذج دافوسيان) الذين يمثلون مشاكل الرأسمالية العالمية.
في العقود الماضية، كانت هذه النخبة تستوطن (وول ستريت) وأعضاؤها كانوا من الذين اعتادوا القول خلال عصر "العولمة المفرطة" بأنه يمكن الوثوق بهم من خلال إلغاء القيود وتحرير أسواق رأس المال في العالم.
لم ينجح ذلك ، خاصة بعد كارثة العام 2008 ، فانتقلت النخبة إلى شركات الإعلام الاجتماعي العملاقة التي تتهم بإنها تقوض الحرية والرأسمالية وتسخر من القضايا الاحتكارية.
يقول داني رودريك، الاقتصادي في جامعة هارفارد، "يدرك المنظمون منذ أمد بعيد ردود الأفعال السلبية المتزايدة ضد" منتدى دافوس" ويحاولون التكيف، من خلال دعوة مجموعة أوسع من المشاركين والتركيز بشكل متزايد على الإصلاحات". وتنقل "فورين بوليسي" عن رودريك تحذيره بأنه: "ليس من الممكن التهرب من حقيقة أن نغمة " دافوس " تحددها الشركات العالمية التي ترفع من أهمية المنتدى وسمعته الاقتصادية العالمية ". ويصف نتائج "دافوس" بقوله "إن روح الممارسة الكاملة لا تزال مناقضة لمتطلبات عصرنا".
أكثر من ذلك، ففي دافوس، عادةً ما يسيطر تأثير الشركات في الاتجاه العام. فعلى سبيل المثال، يمكن القول إن أسوأ الجوانب السلبية في "بنية السوق الجديدة" و "العولمة 4.0" تتجسّد في سلوك نجوم دافوس مثل "غوغل"، كما هو مفصّل في كتاب شوشانا زوبوف، وهو أحد الكتب الهامة الجديدة في جامعة هارفارد لإدارة الأعمال بعنوان "عصر هيمنة الرأسمالية". وتوضح زوبوف كيف أن شركات مثل غوغل وفيسبوك قد أتقنت الاستغلال المستمر لمستخدميها ، مما غيّر طبيعة الرأسمالية "بالطريقة نفسها التي اكتشفت بها شركة فورد موتور الإقتصاد الجديد للإنتاج الضخم" .
وتقول زوبوف إن الناس لا يدركون حتى الآن الطريقة التي غيرت بها شركات "الهيمنة الرأسمالية" اللعبة تماما ، كما أن فيسبوكس وجوجلز لن يوظفا الناس على نحو أو بأية طريقة أو أرقام كما فعلت شركتي فورد و جنرال موتورز.
إن هذه الرأسمالية تخلق حالة عدم مساواة اجتماعية جديدة وتتخلى عن "التبادلية العضوية مع الناس التي ساعدت في الماضي على دمج الرأسمالية في المجتمع وربطها ، بمصالحه ، مهما كانت ناقصة " .
وعلى حد قول زوبوف. "اصطدم الاعتقاد بحرية الخدمات الرقمية ، بتحكم الرأسماليين الاستقصائيين بها (احتكارها) ".
إن سوء استخدام البيانات الشخصية المستخرجة من فيسبوك وغيره (من شركات مثل كامبريدج أناليتيكا) قد مكَّن أيضا ترامب وبولسونارو من الفوز بالرئاسة، وكذلك تصويت خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ( بفضل التلاعب بالبيانات على نطاق واسع). لكن هذا لا يناقش بتفصيل كبير في دافوس.
وفي الوقت نفسه، لا تزال أوجه عدم المساواة في "العولمة غير المقيدة" تتفاقم وتنمو. فقد حطت هذا العام 1500 طائرة نفاثة خاصة في دافوس ، بزيادة قدرها 50 في المائة عن العام الماضي، وأفادت منظمة أوكسفام أن أغنى 26 شخصًا في العالم يمتلكون الآن ثروة توازي ما يمتلكه نصف سكان العالم (أي حوالي 3.8 مليار إنسان تراجعت مقتنياتهم بنسبة 11 في المئة) . وفقا لأكسيوس، فيما تضاعفت الثروة التي يملكها المليارديرات في العالم من 3.4 تريليون دولار في عام 2009 ، مباشرة بعد انهيار سوق وول ستريت ، إلى 8.9 تريليون دولار في عام 2017.
وينحدر جزء كبير من مالكي هذه التريليونات إلى ضيوف مدينة التزلج هذه كل شهر كانون الثاني. إن "لقاء دافوس" هو تجمع غريب عجيب من العقول الكبيرة والمليارديرات الضخمة ، والمصرفيين المركزيين ، والقادة الحكوميين الكبار، والنجوم السياسيين الصاعدين. يجتمعون يومياً في مركز المؤتمرات ، وهو مبنى مترامي الأطراف في مركز القرية ، حيث يعتبر كل درج ورواق شرياناً للتواصل وصنع الصفقات.
ومقابل دافوس الجغرافية، التي يستغرق معظم الناس العاديين عدة ساعات للوصول إليها ، بالسيارة أو الحافلة ، هناك دافوس أخرى تكاد تكون مجازية بالنسبة للمدينة نفسها. بصفتي شاهداً منذ أواخر التسعينات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، أستطيع الجزم أنه في أحد البلدان الشهيرة في العالم ـ سويسرا ـ هناك عالم فقاعي منفصل اسمه دافوس، معزول تمامًا. لا يحصل المرء على انفصال عن الواقع أكثر من ذلك.
وعلى مر العقود، أصبح من الواضح لي أنه بسبب تجمعات استهلكت نفسها مثل هذه أصبحت العولمة فطرية للغاية ، لذا فهي ذات بعد واحد بسبب "عقلية دافوس" التي فرض الاقتصاديون فيها "اقتصادات انتقالية " كمعيار واحد يناسب الجميع ، وأساؤوا تقدير مدى خطورة هذه الرأسمالية المتوحشة ليس فقط على العالم النامي بل للاقتصادات الرئيسية كذلك.
كان ذلك بسبب لقاء النخب المغلق الذي يمثله دافوس والذي لم يتوقع أحد تقريبًا جين تأسيسه أن العولمة ستخلق الكثير من الاضطرابات الاجتماعية.
وكما أخبرني نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق آلان بلايندر ذات مرة ، عندما ينظر المؤرخون إلى الوراء في أواخر القرن العشرين، "فإنهم سيتعجبون من الاتزان" الذي قبله أولئك الذين في السلطة "بالتحول من نظام العمل إلى رأس المال ، وهو تحول غير مسبوق تقريباً".
(*) https://foreignpolicy.com/2019/01/22/inside-the-strange-bubble-world-of-davos/