جيفري وايت(*) ـ 29 كانون الثاني/يناير 2015في 27 كانون الثاني/ يناير قتل «حزب الله» جنديين إسرائيليين رداً على الغارة الجوية التي وجهتها إسرائيل في 18 كانون الثاني/ يناير ضد عناصره في سوريا، مما رفع من احتمال نشوب صراع كبير إلى أعلى المستويات منذ حرب عام 2006. وعلى الرغم من أن الجانبين يشيران إلى أنهما لا يرغبان في المزيد من التصعيد في الوقت الحالي، إلا أنه يمكن لتبادل الهجمات مستقبلاً أن يؤول سريعاً إلى حرب شاملة. بالإضافة إلى ذلك، فإنه من غير الواضح ما إذا كانت إيران، التي فقدت جنرالاً بارزاً في الضربة التي وجهتها إسرائيل الأسبوع الماضي، تعتبر أن رد «حزب الله» ملائم، وبالتالي فقد قد تحث الحزب على اتخاذ إجراءات إضافية.
ما الذي تغيّر منذ عام 2006؟على مدى السنوات القليلة الماضية، عملت إسرائيل و «حزب الله» على تحسين قدراتهما لتتناسب مع نوع الحرب التي يتوقعان خوضها. إلا أن الحرب الأهلية السورية أتت وغيّرت المشهد الاستراتيجي بشكل كبير.
من جانبه، وسّع «حزب الله» بشكل كبير من حجم ومدى الصواريخ والقذائف التي في مخزونه. ففي عام 2006، خاض «حزب الله» الحرب بحوالي 13 ألف صاروخ قصير ومتوسط المدى، مما سمح له بضرب أهداف في جميع أنحاء شمال إسرائيل. أما اليوم، فمن الممكن أن يمتلك ما يفوق عن 100 ألف صاروخ وقذيفة من بينها عدد من الأنظمة بعيدة المدى فضلاً عن أنظمة ذات دقة محسّنة، الأمر الذي يسمح للحزب بضرب كافة أنحاء إسرائيل بدقة متزايدة.
كما ويُعتقد إن «حزب الله» قد أدخل أيضاً تحسينات أخرى على قدراته، بما فيها الدفاع الجوي والدفاع الساحلي، وذلك من خلال أنظمة حصل عليها من سوريا أو عن طريقها. ومن المرجح جداً أن يكون قد عمل على تعميق وتحسين قدراته المضادة للدروع من خلال استخدام أسلحة إضافية مضادة للدبابات. كما وحسّن الحزب من تخطيطه الدفاعي في جنوب لبنان، وذلك عبر تثبيت قواته الهجومية والدفاعية بعمق في مختلف القرى والبلدات. إلى جانب ذلك، يدّعي الحزب أنه طور قدرة على تنفيذ عمليات هجومية برية داخل إسرائيل. ووفقاً لمدير إنتاج المعلومات في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، من المرجح أن تخترق قوات «حزب الله» الحدود وتحارب داخل شمال إسرائيل في حال اندلاع حرب أخرى.
ومن الملاحظ أن الوضع الاستراتيجي لـ «حزب الله» تغيّر أيضاً في أعقاب التزامه بإرسال قوات كبيرة إلى سوريا، إذ يخدم حوالي 5 آلاف من عناصره في سوريا في أي وقت من الأوقات. ومن جهة، قد يضعف هذا الوضع اهتمام «حزب الله» بخوض صراع كبير مع إسرائيل لأنه يحد من عدد القوات التي يمكن للحزب أن يحارب بها. ولكن من جهة أخرى، لا يبدو أن الحزب أرسل إلى سوريا عدة أنواع من الأسلحة (قذائف/صواريخ وأسلحة مضادة للدبابات) التي من شأنها أن تكون أكثر إفادة له في مواجهة إسرائيل، كما وأنه اكتسب خبرة في العمليات العسكرية في سوريا يمكن أن تزيد من فعاليته في حرب برية مستقبلية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للحزب أن يحاول استغلال وضعه الجديد من خلال العمل عبر الأراضي السورية على جبهة إسرائيل في الجولان.
أما من الجانب الإسرائيلي فقد قام "جيش الدفاع الإسرائيلي" أيضاً بتحسين قدراته بشكل بارز منذ عام 2006، بما في ذلك تعزيز الاستخبارات والقوة النارية (الجوية والمدفعية) لتوجيه الضربات، مما يزيد من قدرته على تحديد الأهداف وضربها. كما وعزز الجيش الإسرائيلي من قدراته على المناورة على الأرض من خلال نشر دبابات أكثر تقدماً وقدرة وناقلات جندود مدرعة (ميركافا 4 ونامر، على التوالي) ، وعبر تجهيز الوحدات المدرعة الرئيسية بنظام "تروفي" للحماية الذاتية الذي يستطيع أن يتصدى للذخيرة المضادة للدبابات. يُشار إلى أنه منذ عام 2006 شددت تدريبات "جيش الدفاع الإسرائيلي" على الأرض، على العمليات ضد «حزب الله»، بيد أنه من غير الواضح مدى خضوع وحدات الاحتياط لهذه التدريبات.
أضف إلى ذلك أنه تم تعزيز قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها ضد تهديد صواريخ «حزب الله» القصيرة والمتوسطة المدى من خلال اعتماد نظام "القبة الحديدية" المضاد للصواريخ، الذي لم يكن موجوداً في عام 2006. كما وتم تطوير نظام الدفاع المدني الإسرائيلي واختباره في النزاعات الأخيرة التي دارت مع حركة «حماس».
دينامية التصعيدبالإضافة إلى التوترات والدوافع الفريدة من نوعها الكامنة في الوضع ما بين إسرائيل و «حزب الله»، تبرز مزايا عسكرية عامة لترقية سلم التصعيد بوتيرة أسرع من الخصم. إذ إن ذلك يسمح باغتنام المبادرة، وفرض وتيرة الصراع ونطاقه، وتنفيذ الخطط بقيود أقل. أي أن هناك بالتأكيد ميزة في أن يكون الطرف "الأول هو صاحب المزايا الأكثر". ومن العوامل الأخرى التي يمكن أن تؤدي إلى حدوث تصعيد واسع النطاق، هي تضاعف العنف مع زيادة كل طرف من التزاماته، وهو ما يسبب خسائر غير متوقعة، أو يخلق ضغوط داخلية لتحقيق النصر.
ومقابل كل هذه العوامل، لا بد من وضع بعض الحدود التي تكبح عملية التصعيد. أولاً، لا يمكن لأي من الطرفين أن يتجاهل تماماً وضعه الاستراتيجي، ولا يبدو أن أي منهما يرغب بالمخاطرة بوقوع إصابات وأضرار واسعة النطاق يمكن أن تتسبب بها الحرب الشاملة. وفي هذا الإطار، فإن التزام «حزب الله» في سوريا يجعله أقل قدرة على الاستمرار في الصراع مع إسرائيل، وبالتالي يمكن لضغوط الحلفاء أن تبعد الطرفين عن التصعيد. أما السؤال الذي يبقى رهناً بما سيحمل المستقبل فهو ما إذا كانت هذه الحدود كافية أم لا لدرء الحرب.
العمليات المرجّحةفي حال نشوب قتال آخر واسع النطاق، قد يقوم «حزب الله» بعمليات هجومية ودفاعية كبيرة. فمن الناحية الهجومية، يمكن أن تتمحور استراتيجيته حول هجوم بالصواريخ والقذائف يطال العمق الإسرائيلي. ووفقاً لتقديرات الاستخبارات الإسرائيلية، فإنه من المرجح أن يحاول «حزب الله» أن يحافظ على قدرةٍ على إطلاق النار تتألف من حوالي ألف صاروخ وقذيفة يومياً، ما يحجم المعدل اليومي التقريبي لعام 2006 الذي بلغ 118 صاروخاً وقذيفة. ولعل الأهم من ذلك أن «حزب الله» يمتلك الآن صواريخ تتمتع بالمدى والدقة اللازمين لضرب أهداف استراتيجية كبيرة مثل المطارات والمقرات الإسرائيلية والمواقع الهامة اقتصادياً.
يمكن لأنظمة إسرائيل المضادة للصواريخ أن ترزح تحت ثقل عملية من هذا النوع. فالثقل الأكبر في الهجوم سيطال شمال إسرائيل وإلى حد أقل وسطها، إلا أنه بإمكان «حزب الله» في الوقت الحالي الوصول إلى أهداف في الجنوب الإسرائيلي أيضاً.
كما ويمكن للحزب أيضاً أن يحاول التسلل إلى إسرائيل عبر لبنان أو سوريا. كما ذُكر أعلاه، فقد هدد «حزب الله» بالقيام بذلك في صراع مستقبلي، وقد اعترفت الاستخبارات الإسرائيلية بالتهديد، فضلاً عن أن عمليات الحزب في سوريا ربما منحته قدرة أفضل للقيام بذلك. إلى جانب ذلك، سلطت حرب غزة في العام الماضي الضوء على التهديد الذي تطرحه الأنفاق الهجومية عبر الحدود. وعلى الرغم من أن الأوضاع على الحدود اللبنانية ليست مناسبة لاتباع هذا التكتيك بقدر ما كانت عليه في غزة، إلا أن إسرائيل تشعر بالقلق حيال ذلك وتبحث بشكل نشط عن الأنفاق في تلك المنطقة.
وعلى الصعيد الدفاعي، قد يحاول «حزب الله» الحد من فعالية العمليات الجوية الإسرائيلية المتوقعة من خلال نشر قواته في المناطق المدنية و/أو تحت الأرض، ومن خلال استخدام كل ما يملك من أسلحة مضادة للطائرات، وربما تشمل تلك الأسلحة أنواعاً جديدة أو محسنة من صواريخ أرض - جو. وقد يحاول الحزب أيضاً إضعاف أي تقدم بري إسرائيلي إلى داخل جنوب لبنان عبر الاعتماد على مراكزه المحصنة هناك واستخدام الأنظمة المضادة للدبابات وأنظمة الرمي غير المباشر.
ومن جهة أخرى، يمكن لإسرائيل تنفيذ عمليتين هجوميتين رئيسيتين:
1. عملية جوية ضد قوات الصواريخ/القذائف والبنية التحتية التابعة لـ «حزب الله» في كافة أنحاء لبنان.
2. عملية برية عميقة واسعة النطاق تهاجم في خلالها مجموعات متعددة قوات الصواريخ/القذائف والقوات البرّية للحزب في جنوب لبنان.
إن عدم قدرة القوة الجوية وحدها على تبديد تهديد الصواريخ/القذائف المعزز، من المرجح أن يؤدي إلى ضرورة القيام بنوعٍ ما من العمليات البرية.
أما على الصعيد الدفاعي، فقد تحاول إسرائيل استخدام تدابير فاعلة ("القبة الحديدية" وبطاريات "باتريوت") وأخرى غير فاعلة (الدفاع المدني) لتقليص آثار هجوم «حزب الله» بالصواريخ والقذائف أثناء الانتظار بأن تؤدي العمليات الهجومية لـ "جيش الدفاع الإسرائيلي" إلى التقليل من حجم التهديد. وهذا يعني على الأرجح تدمير قوات إطلاق الصواريخ في جميع أنحاء لبنان والاستيلاء على مناطق إطلاق تلك الصواريخ في جنوب لبنان. كما ويجب على إسرائيل أن تكون مستعدة للقتال على أراضيها في حال حدوث اختراق ناجح.
التداعياتيمكن التوقع أن يؤدي صراع عام إلى وقوع إصابات مدنية وعسكرية كبيرة من الجانبين. فمن المرجح أن يؤدي القتال على الأرض في جنوب لبنان وربما في شمال إسرائيل إلى سقوط أكبر عدد من الضحايا العسكريين. وفي حال تواجد المدنيين في وسط العمليات الأرضية، وهو أمر محتمل في جنوب لبنان، فستلحق بهم خسائر كبيرة في تلك المناطق. ولا بد أيضاً من توقع وقوع ضحايا من المدنيين في المناطق التي يتم منها توجيه الضربات الجوية والضربات بالصواريخ/القذائف، وخاصة عندما تكون تدابير الدفاع غير كافية.
يمكن أيضاً توقع تدمير البنى التحتية المدنية في كل من إسرائيل ولبنان. فإذا تمكن «حزب الله» من المحافظة على معدلات عالية من عمليات إطلاق النار على إسرائيل، ستنجح بعض الأسلحة في الوصول إلى أهدافها العملياتية وسيتم ضرب بعض الأهداف، سواء بسبب عددها الكبير أو بسبب دقتها الإضافية. وبما أن «حزب الله» يعمل من داخل المناطق المدنية، فإن الضربات الإسرائيلية قد تسبب بعض الضرر في تلك المناطق حتى إذا تم اعتماد تدابير احتياطية وتكتيكات دقيقة. إلى جانب ذلك، قد يتم استهداف البنية التحتية اللبنانية أيضاً مثل الجسور والطرق، ومرافق الاتصالات بسبب فائدتها العسكرية.
من المرجح أن تتسبب حرب مماثلة باضطرابات اجتماعية واقتصادية على نطاق واسع في إسرائيل وفي لبنان. فقد تمكنت حركة «حماس» من تحقيق ذلك في جنوب إسرائيل العام الماضي، كما أن الهجمات في مناطق أكثر شمالية أظهرت إمكانية تعطيل البلاد في ظل عمليات إطلاق الصواريخ المستمرة. وبالمثل، أظهرت حرب عام 2006 أن العمليات الجوية الإسرائيلية يمكن أن تطال العمق اللبناني وتتسبب بآثار اقتصادية واجتماعية فادحة. ومن شأن اندلاع حرب جديدة أن تتضمن على الأرجح شن هجمات جوية أكثر انتشاراً وذات آثار أوسع نطاقاً.
الأبعاد السياسية والاستراتيجيةمن خلال إدراكها أنه لا يمكن تدمير «حزب الله»، وهو الأمر بالنسبة لـ «حماس»، من خلال العمليات العسكرية فقط، من المرجح أن تركز إسرائيل على تحقيق أهداف استراتيجية محدودة بل واضحة في أي حرب جديدة قد تندلع، مثل التقليص بشكل كبير من قدرات الحزب العسكرية وتدمير قدر كافٍ من البنى التحتية لتلطيخ سمعة «حزب الله» بصفته المدافع عن لبنان، الأمر الذي ربما يؤدي في الوقت نفسه إلى زيادة العداء العام تجاه الحزب.
وبالتأكيد، فإن النقاد داخل إسرائيل وخارجها قد يحتجون على هذه الأهداف لأسباب مختلفة. كما وأن صراعاً موسّعاً يوقع خسائر كبيرة يمكن أن يزيد من الضغوط لتوسيع المهمة. أضف إلى ذلك أن صراعاً كبيراً مع «حزب الله» قد يؤدي أيضاً إلى تعقيد العلاقات الإسرائيلية الأمريكية. فإذا بادرت إسرائيل بعمليات واسعة النطاق، قد تدعو مصادر إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى ضبط النفس، وربما تعطي هذه الخطوة حلة مختلفة باعتبارها محاولة لإحباط المفاوضات النووية الإيرانية.
ومن شأن اندلاع صراع كبير أيضاً أن تكون له تداعيات هامة على الحرب في سوريا. إذ يمكن أن ينتشر القتال إلى سوريا على طول حدود هضبة الجولان ويضع قوات نظام الأسد في مرمى النيران الإسرائيلية. كما قد يمسي «حزب الله» مجبراً على سحب قواته من سوريا من أجل تلبية احتياجاته في هجوم إسرائيلي يطال جنوب لبنان، الأمر الذي من شأنه أن يضعف الدعم الحاسم الذي يقدمه إلى دمشق. وإذا تكبد الحزب خسائر عسكرية هائلة أمام إسرائيل، يمكن عندئذ أن تتراجع قدرته على تقديم مثل هذا الدعم على المدى الطويل.
المحصلةقد تصدق التوقعات الحالية التي تقول بأنه بإمكان إسرائيل و «حزب الله» إدارة التصعيد أو قد تخيب. وقد أُجريت تقييمات مماثلة قبل اندلاع جميع الصراعات الأخيرة التي شهدها قطاع غزة (2009، 2012، 2014)، كما أن سوء التقدير الشديد لـ «حزب الله» هو الذي أشعل حرب عام 2006. وفي الواقع، إذا نشب نزاع جديد، ستمر كل من إسرائيل ولبنان بفترة عصيبة للغاية. فالحرب في عام 2015 ربما ستكون أكثر كثافة وتدميراً بشكل ملحوظ مما كانت عليه في عام 2006، ومن المرجح أن تكون جميع المناطق الإسرائيلية مستهدفة وليس فقط الشمالية منها. من هنا فإن صراعاً مماثلاً من شأنه أن يضع ضغوطاً هائلة من أجل تحقيق نجاح بارز، الأمر الذي قد يدفع بالطرفين إلى الاستمرار بالقتال ورفعه إلى مستويات أعلى من العنف.
(*) جيفري وايت هو زميل للشؤون الدفاعية في معهد واشنطن وضابط كبير سابق لشؤون الاستخبارات الدفاعية.المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى