آرون زيلين(*)
يفترض توماس هيغهامر في كتابه 'الجهاد في السعودية' أن المملكة السعودية تحتل مكانًا محوريًّا في التاريخ المعاصر للجهاديين، فقد تشكلت ملامح التيار الجهادي السعودي بصورة رئيسية مع الغزو السوفيتي لأفغانستان، والذي وفر فرصة مواتية لتدفق الجهاديين السعوديين على أفغانستان خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
بيد أن السيناريو الأفغاني لم يكن سيناريو منقطعًا، حيث تم استدعاؤه فيما بعد في صراعات أخرى اندلعت في الشيشان والبوسنة والعراق، وبمرور الوقت وبالتزامن مع تعدد الصراعات بات لدى منظومة الجهاد عناصر تتضمن فعاليتها، فهي من ناحية تحظى بخطاب مؤسس ذي صبغة دينية يوجد من يؤمن به ويسعى لتحقيقه على أرض الواقع، ومن ناحيةٍ أخرى فإن إضفاء الطابع الديني والمذهبي على الحروب والصراعات المنتشرة أعطى للمنظومة الجهادية الزخم المطلوب للاستمرارية.
وفي هذا الصدد يُشير آرون زيلين Aaron Y. Zelin في مقاله المعنون بـ'مشهد المقاتلين السعوديين في سوريا' والمنشور من جانب مركز مكافحة الإرهاب في العام 2014، إلى أن الصراع الراهن في سوريا كان بمثابة محفز لمنظومة الجهاد بصورة عامة، والجهاد السعودي بصورة خاصة؛ إذ إن امتداد الصراع وتشابكه وتـأطيره في نطاق ديني وطائفي أفضى إلى تدفق العناصر الجهادية على سوريا.
نشأة التيار الجهادي السعودي
تذهب العديد من الأدبيات إلى أن الجهاد في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي في عقد الثمانينيات يُعد أول إرهاصات الجهاد السني الخارجي؛ حيث وفر النموذجُ الأفغاني الشرعية لحركات الجهاد التالية، وإن كان هذا النموذج (الأفغاني) لم يعد قابلا للتكرار بذات الشكل، فقد تطورت الفكرة الجهادية كثيرًا، ولم يعد الأمرُ مجرد انتقال لعناصر يُمكن أن توصف بالافتقار للخبرة القتالية للجهاد في ساحات بعيدة عن موطنها الأصلي؛ إذ إن التيار الجهادي طور من قدراته، وأصبح العديدُ من المنتمين لهذا التيار يحظون بخبرات قتالية واسعة.
ويُشير زيلين إلى أن بعض التقديرات عن فترة الجهاد في أفغانستان تُوضح أن السعوديين كانوا يشكلون النسبة الأكبر بين المقاتلين العرب خلال الفترة من 1979 إلى 1992، وهذا النمط من حيث حجم المشاركة يتكرر في الصراع داخل الشيشان خلال فترة التسعينيات، فقد برز في المنظومة الجهادية في تلك الآونة العنصر السعودي كعنصر جوهري، فضلا عن ظهور قيادات جهادية تاريخية من أهمها ثامر السويلم الشهير بخطاب، واستمرت مشاركة التيار الجهادي السعودي في البوسنة، فقد ذكرت تقديرات للحكومة البوسنية أن المقاتلين السعوديين كانوا يُشكلون نحو 25% من إجمالي المقاتلين الأجانب بالبوسنة.
وعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، بات السعوديون يحتلون مرتبةً متقدمةً في الساحات الجهادية، وفي مقدمتها العراق؛ إذ إن ثمة تقديرات لحالة المقاتلين الأجانب في العراق تنتهي إلى أن حوالي 55% ممن لقوا مصرعهم من المقاتلين الأجانب هناك خلال الفترة من يونيو 2003 إلى يونيو 2005 كانوا من ذوي الجنسية السعودية، وفي أكتوبر 2007 أعلن الجيش الأمريكي أن السعوديين شكلوا النسبة الأكبر (41% تقريبًا) من المقاتلين الذين تدفقوا على العراق خلال الفترة من أغسطس 2006 حتى أغسطس 2007.
الجهاديون السعوديون والصراع السوري
مَثَّلَ الصراعُ داخل سوريا فرصةً مواتيةً لإحياء المنظومة الجهادية السعودية، لا سيما مع الضغوط التي تعرضت لها خلال السنوات الماضية، ومن ثمَّ تدفق المقاتلون السعوديون على سوريا بحثًا عن حرب مقدسة جديدة على غرار حروب سابقة، وثمة تقديرات لبعض المسئولين السعوديين في شهر مارس الماضي بأن نحو 1200 سعودي انتقلوا للمشاركة في القتال في سوريا.
وهنا يُعطي زيلين الأولوية للبعد الطائفي كعامل مرجح في مشاركة المقاتلين السعوديين في الصراع السوري؛ إذ إن وتيرة تدفق السعوديين على سوريا تسارعت بعد التدخل المعلن من جانب حزب الله اللبناني (ذي الانتماء الشيعي) في معادلة الصراع السوري، ووقوفه بجانب نظام الأسد أثناء معركة القصير في مايو 2013، وبالتوازي مع هذا المنحى تسابقت الفتاوى الدينية الصادرة من شيوخ ذوي ثقل (مثل: الشيخ يوسف القرضاوي، وعلماء دين سعوديين بارزين) التي تدعو المسلمين السنة للقتال في سوريا، فالأمر لم يعد مقصورًا على مجرد حملات لجمع التبرعات لمساعدة المعارضة السورية واللاجئين، ولكن الصراع تطور ليصبح صراعًا طائفيًّا في مضمونه، ويستدعي المشاركة في القتال بصورة مباشرة.
ويحلل زيلين خريطةَ التيار الجهادي السعودي داخل سوريا، ليصل إلى عددٍ من الشخصيات البارزة في هذا التيار، في مقدمتها: عبد الله بن محمد المحيسني، الذي تحول من دارسٍ للعلوم الشرعية حاصل على الدكتوراه وإمام لمسجد آل ثاني بمكة إلى جهادي يُشارك في الصراع الراهن بسوريا.
وبدأ احتكاك المحيسني بالقضية السورية مع مشاركته في حملات لجمع التبرعات والمساعدات للمعارضة السورية واللاجئين، وفي عام 2013 انتقل للمشاركة في القتال في سوريا، وسعى المحيسني إلى تقديم نفسه كجهادي مستقل، لا ينتمي لأي من التنظيمات الموجودة على الساحة، وخاصة مع الصراعات التي بدأت تندلع بين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وجبهة النصرة.
ويُرجع زيلين الأهميةَ التي يحتلها المحيسني بين صفوف الجهاديين السعوديين إلى عدة عوامل، أهمها الظهور المتكرر في وسائل الإعلام الاجتماعية، ومشاركته المباشرة في العمليات القتالية، وإصابته إثر هذه العمليات، فضلا عن تأسيسه معسكر تدريب الفاروق في مارس 2014، ومركز دعوة الجهاد في ديسمبر 2013، والذي له أنشطة متعلقة بتقديم دروس دينية وتعليم للأطفال وتقديم المساعدات، كما أنه سعى إلى الاضطلاع بدور وسيط للتهدئة بين تنظيم الدولة الإسلامية وغيرها من المجموعات القتالية في سوريا عبر طرح 'مبادرة الأمة'.
ويقدم عبد المحسن عبد الله الشارخ المعروف بـ'سنافي النصر' نموذجًا آخر من النماذج الجهادية السعودية في سوريا، فهو يحظى بخبرات قتالية اكتسبها من القتال في جبهات، مثل: الشيشان، وأفغانستان، وباكستان، وقامت السلطات السعودية بوضعه على قائمة المطلوبين أمنيًّا في 2009، وقبل الانتقال إلى سوريا كان مستقرًّا في المنطقة الحدودية بين باكستان وأفغانستان، ويُعتبر الشارخ من العناصر الهامة في تنظيم القاعدة، ويترأس 'لجنة النصر' التابعة للقاعدة بسوريا.
وقد تزايدت شهرته في الداخل السوري مع توارد بعض الأنباء عن مقتله في مارس 2014؛ إلا أنه ظهر في إبريل الماضي ليؤكد أنه كان في غيبوبة استمرت لشهر، وبالرغم من محاولته الوقوف على الحياد أثناء الصراع بين تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، فقد اشتُهر عنه انحيازه لجبهة النصرة وتنظيم أحرار الشام.
وفي سياق متصل، لقي عددٌ من الجهاديين السعوديين البارزين مصرعهم، منهم: أبو عون الشمالي المنتمي لجبهة النصرة، والذي قُتل في أكتوبر 2012 أثناء تنفيذه عمليةَ تفجير انتحاري لسيارة مفخخة بالمستشفى الفرنسي في حلب، كما قُتل عبد العزيز جهيمان (المعروف بعبد الملك الأحسائي) في إدلب في نوفمبر 2012، وفي مارس 2013 لقي خالد السويد مصرعه أثناء تنفيذه عملية انتحارية ضد القوات النظامية في دمشق.
تداعيات محتملة
ارتبطت الخبرة التاريخية للتيار الجهادي السعودي في الخارج خلال العقود الماضية بتهديدات للداخل السعودي، فقد تنامت القدرات القتالية للجهاديين، وعقب العودة من أفغانستان والعراق قادت تلك العناصر بعض العمليات المسلحة ضد الحكومة السعودية، علاوة على الانضمام لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، والذي اتخذ من اليمن منصة لتنفيذ عمليات داخل المملكة السعودية.
ويفترض زيلين أن العناصر الجهادية السعودية الموجودة بسوريا يمكن أن تشكل تهديدًا للدولة السعودية؛ حيث إن تلك العناصر من خلال انضمامها لتنظيمات (مثل: تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو جبهة النصرة) ستكتسب الفكر الجهادي الخاص بتنظيم القاعدة، وخبرات قتالية مختلفة يمكن أن توظفها عقب رجوعها إلى السعودية لتهديد النظام الحاكم والمصالح الغربية في المملكة.
ويخلص الكاتب إلى اتخاذ السلطات السعودية عددًا من الإجراءات الاستباقية لمنع تبني العناصر الجهادية العائدة من سوريا نهج العنف تجاه الدولة، وتتبلور تلك الإجراءات في بُعدين جوهريين؛ البعد الأول يتصل بإصدار تشريعات تُقوض من معطيات التيار الجهادي، ففي فبراير الماضي أصدرت الحكومة السعودية أمرًا ملكيًّا يقضي بمعاقبة أي مواطن يُشارك في صراعات خارجية بالسجن فترة تتراوح من ثلاث سنوات إلى عشرين سنة، وفي فترة تالية صدر أمر ملكي بتصنيف جبهة النصرة وتنظيم داعش كجماعتين إرهابيتين.
أما البُعد الثاني فقد ارتكن إلى المجابهة الفكرية من خلال تبديد الصورة المثالية التي يتم الترويج لها بشأن الجهاد في سوريا، وقد وظفت السلطات السعودية الجهاز الإعلامي لهذا الهدف، وهكذا وجدنا البرامج التلفزيوني 'همومنا' يستضيف سليمان سعود السبيعي كأحد النماذج الجهادية العائدة من القتال في سوريا، ليصف كيف أن القتال هناك ليس بالصورة المثالية التي تُحاول بعض وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية إظهارها.
(*) عرض : محمد بسيوني عبد الحليم، باحث في العلوم السياسية
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية