سعيد عكاشة (*)
كتب المحلل العسكري في صحيفة 'هآرتس' عاموس هارئيل، في ٣٠ يوليو الماضي قائلا: 'إن إطالة فترة العملية العسكرية، وتراكم الخسائر في حرب غزة، تجلب معها، بشكل غير مفاجئ، مؤشرات لاحتكاك أوّلي بين المستويين السياسي والعسكري'. في إسرائيل وعلى مدى ما يزيد عن عقد من الزمان كان هناك خلاف يزداد اتساعًا بين الجيش وبين الحكومة أو بين ما يُسمى هناك بالمستوى العسكري والمستوى السياسي. كان الخلاف يهدأ عندما لا تكون هناك مواجهات عسكرية بين إسرائيل وبين خصومها، وتحديدًا حزب الله في لبنان، ومنظمات المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد.
أما عندما كانت المعارك تشتعل ويسقط جنود قتلى وجرحى كان الرأي العام الذي يؤيد العمليات التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في البداية سُرعان ما يتراجع تحت ضغط الخسائر، طالبًا من الحكومة البحث عن مخرج لإيقاف القتال، وبالتوازي مع ذلك ترتفع ضغوط المجتمع الدولي أيضًا لتحقيق نفس المطلب، وعندها كانت الحكومات الإسرائيلية، من شارون ومرورًا بأولمرت وانتهاء بنتنياهو؛ تخرج من هذه المعارك بدون انتصار واضح، لتبدأ بعدها عملية النقد الشديد لطريقة إدارة هذه الحروب أو المواجهات، والبحث عن أسباب ضعف مردودها العسكري والاستراتيجي.
وفي بعض الحالات ينتهي الأمر بالإطاحة بالقيادات السياسية والعسكرية معًا، كما حدث مع إيهود أولمرت الذي اضطر -ضمن أسباب أخرى- للتخلي عن رئاسة الحكومة بعد استقالة وزير الدفاع عميرا بيرتس ورئيس الأركان داني حالوتس عام ٢٠٠٦ بعد الحرب التي طالت مع حزب الله لأكثر من شهر دون أن تحقق النتائجَ المرجوة، وأهمها وقف تهديد صواريخ حزب الله نحو التجمعات السكانية في إسرائيل. القضية المتكررة إذن هي البحث عن إجابة السؤال حول من يدير الحرب ويحدد أهدافها: هل هو المستوى السياسي أم المستوى العسكري؟ ومن ستتم محاسبته لو لم تتحقق هذه الأهداف؟.
أبعاد الصراع بين الجيش والسياسيين
تبني إسرائيل دعواها بأنها 'الديمقراطية الوحيدة في المنطقة' على معايير عدة، أهمها أنها لم تتعرض لما تعرضت له بلدان المنطقة لظاهرة الانقلابات العسكرية، لأن مؤسستها العسكرية تخضع للمستوى السياسي منذ أن حسم أولُ رئيس وزراء لإسرائيل ديفيد بن جوريون القضية عقب تأسيس الدولة عام ١٩٤٨، وكانت المواجهة التي حدثت بين الدولة وتنظيم الأرجون المنشق عن الهاجاناه (التي تحولت لاحقًا لكي تصبح جيش إسرائيل الرسمي) هي البداية الفعلية لهيمنة المستوى السياسي على المستوى العسكري في إسرائيل، حيث أُغرقت السفينة 'التالينا' التي كان الأرجون قد ملئوها بالسلاح والمقاتلين التابعين له والقادمين من خارج البلاد بأمر من رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ديفيد بن جوريون الذي عارض استمرار وجود مجموعات يهودية مسلحة في أراضي عام 1948، خارج سيطرة الحكومة.
ورغم أن قانون أساس الجيش الذي كرس خضوع الجيش للحكومة المدنية لم يصدر إلا عام ١٩٧٦، فإن المواجهات المكتومة بين الجيش ومؤسساته من جهة والحكومة ومؤسسات الدولة الأخرى من الجهة الثانية لم تنقطع، لا قبل صدور القانون ولا بعده. وكان من المنطقي أن ترتفع حدة هذه المواجهات، وأن تخرج تفاصيلها للرأي العام في أوقات الحروب. حدث ذلك بوضوح في حرب يونيو عام ١٩٦٧، فخلال الأيام السابقة على الحرب ضغطت قيادات الجيش بشدة على رئيس الحكومة في ذلك الوقت 'ليفي أشكول' لإجباره على دخول الحرب مبكرًا دون انتظار نتائج الجهود السياسية لمنع الانزلاق نحو المواجهة بين إسرائيل وكلٍّ من مصر والأردن وسوريا على خلفية قرار إغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية.
كما أحدثت حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ صدامًا ثانيًا عقب انتهاء الحرب بعد تبادل قيادات الجيش والحكومة الاتهامات حول وجود تقصير قاد إلى تهديدٍ خطير لوجود الدولة، وكان من نتائج ذلك أن تشكلت لجنة باسم 'لجنة إجرانات' للتحقيق في أسباب التقصير، والجهات التي تقف وراءه، وأدانت اللجنة قادة الجيش وعلى رأسهم وزير الدفاع 'موشيه ديان' وأيضًا المخابرات العسكرية الإسرائيلية ورئيسها 'إيلي ذعيرا'، وتحملت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أيضًا نتائج الحملة على بيروت عام ١٩٨٢ التي انتهت بمذبحة صابرا وشاتيلا، ورتبت في النهاية مسئولية قانونية على إسرائيل راح ضحيتها وزير الدفاع 'أرئيل شارون' الذي قدم استقالته من منصبه في سبتمبر من نفس العام.
ويُمكن القول إن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق 'إيهود باراك' كان بحكم توليه قيادة المؤسسة العسكرية كرئيس للأركان ووزير للدفاع ومدير للمخابرات العسكرية في فترات مختلفة أكثر من صاغ الإشكالية وطرح الحل، بقوله: 'على الجيش أن يلتزم بقرار الحكومة في تحديد أهداف الحرب، وتوقيت إعلانها بعد التشاور مع قيادات الجيش، وتعني المشاورة هنا أن يُدلي قادة الجيش من واقع ما يملكونه من معلومات عن الإمكانيات الفنية والقتالية للجيش بأسلحته وأفراده برأيهم في مدى إمكانية تنفيذ أهداف الحكومة عبر الوسائل العسكرية.
وفي المقابل تلتزم الحكومة بعدم وضع أهداف للحرب تتجاوز إمكانيات الجيش، أو تلزمه بتحقيق أهداف متعارضة، مثل احتلال مناطق آهلة بالسكان في أراضي العدو للقضاء على مصادر التهديد، وفي الوقت نفسه تفادي سقوط ضحايا من الجيش، أو التورط في أعمال ضد السكان في مناطق العدو يعدها القانون الدولي جرائم حرب.
وبطبيعة الحال لم يكن ذلك متاحًا بحكم الأمر الواقع، وعلى امتداد العقد الماضي كانت الانتقادات تُكال للسياسيين، كونهم في كل مواجهة مع حزب الله أو حركات المقاومة الفلسطينية لم يحددوا للجيش أهدافُا معينة للحرب، بل كانت التوجيهات عامة، ويصعب تحقيقها بدون ارتكاب مخالفات يجرمها القانون الدولي والإنساني، وهو ما يحدث الآن بسبب تزايد الضحايا المدنيين من الفلسطينيين بالتوازي مع سقوط أعداد كبيرة ـ وفقًا للتصور الإسرائيلي ـ من جنود وضباط جيش إسرائيل .
بمعنى مختصر تبين الوقائع التاريخية أن الجيش الإسرائيلي كان يتحمل على الدوام إخفاقات وأعمال التقصير في معظم المواجهات التي خاضها، وكان العسكريون يُلمحون دومًا إلى أن السياسيين يلقون بمسئولية التقصير والإخفاق عليهم، بينما عندما كان الجيش يحقق انتصارًا واضحًا كما حدث عام ١٩٦٧، كان الإنجاز ينسب للحكومة والقادة السياسيين، وهو ما خلق أسبابًا عميقة موضوعية وسيكولوجية لظهور شعار 'دعوا الجيش ينتصر' الذي كان العسكريون ومؤيدوهم من اليمين المتطرف يرفعونه للرد على الانتقادات التي تطال أداء الجيش في ميادين القتال، وفحوى الشعار كما هو واضح، هو مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي، والإيحاء له بأن الجيش يمكنه أن ينتصر ويحقق الأمن لشعب إسرائيل لولا تدخل السياسيين، ووضعهم قيودًا على استخدام الجيش لإمكانياته.
وتبدو الإشارة المتكررة من جانب رؤساء الحكومات المتعاقبة في إسرائيل، وآخرهم نتنياهو، إلى 'أن الجيش الإسرائيلي هو الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم' بمثابة إثبات غير مباشر لحقيقة القيود التي توضع من جانب الحكومة لمنع ارتكاب جرائم حرب تؤدي إلى حرج دولي لإسرائيل، ولكن هذه القيود نفسها هي التي يتم الرد عليها بشعار 'دعوا الجيش ينتصر' حيث يعتقد القادة العسكريون أن هذه القيود هي التي تتسبب في ارتفاع الخسائر البشرية في أوساط الجيش الإسرائيلي، كما أنها تحد من إمكانيات نجاحه في تحقيق الأهداف التي تضعها الحكومة للحرب.
حرب غزة تجدد الصراع
لا يتوقع أن تُنهي الحرب الدائرة في غزة حاليًّا الجدل التاريخي حول حدود وأدوار المستوى السياسي والعسكري في إدارة حروب إسرائيل، فقد بدأت مبكرًا عملية تبادل الاتهامات بين الطرفين، حيث سرب بعض العسكريين معلومات تشير إلى أن شعبة الاستخبارات العسكرية 'أمان' كانت تعرف الأنفاق الهجومية التي حفرتها حماس من غزة إلى إسرائيل، وحذرت منها أمام القيادة السياسية.
أما السياسيون ومن خلال ما يكتبه المعلقون في الصحف فيردون بالقول: 'لكن دور الجيش لا يتلخص في إرسال مذكرات، بل عليه أن يُطور ردًّا عملياتيًّا، وأن يتدرب استعدادًا لها، وهذا لم يتم، وكانت النتيجة ارتجالات تُطيل القتال وتزيد الضحايا بين جنود الجيش والمواطنين الفلسطينيين.
وحيث إنه لم يظهر حتى الآن أي مؤشر على قرب نهاية القتال في ظل رفض حركة حماس للمبادرة المصرية لوقف الحرب، يمكن توقع زيادة حدة المعركة الكلامية بين العسكريين والسياسيين في إسرائيل في المرحلة المقبلة، خاصة مع تعالي الأصوات التي تطالب منذ الآن بتشكيل لجنة تحقيق لمعرفة مواطن التقصير ومن يتحمل المسئولية، وهو ما عبر عنه أمنون أبرموفيتش في صحيفة 'إسرائيل هايوم' في ٣١ أغسطس حيث قال: 'فور نهاية الحرب، ستعزف رقصة السيوف، وهي عمليًّا تُعزف منذ الآن. فالأنفاق ستكون فقط أحد المواضيع. من عرف وحذر، من حذر ولم يحرك ساكنًا، من حرك ساكنًا ولم يعمل، أو من عمل ولكن ليس كافيًا. وستعزف بالطبع مسائل أخرى: جاهزية الجيش الإسرائيلي، عتاده وأداؤه، وإلى أي حد كان إبداعيًّا، وكم من المعلومات الاستخبارية للحملة كانت متوافرة لديه؟.
وسيتصاعد الانتقاد بالطبع إلى المستويات السياسية، ومن الأحزاب السياسية. سيقول البعض إن الجيش رغم توفير الحكومة له كل احتياجاته لم ينفذ ما طلب منه. ومن هيئة الأركان سيخرج من يقول إن القيادة السياسية التي لم تعرف ماذا تريد من نفسها، لم تعرف ماذا تريد منا!.
خلاصة
من المتوقع أن يتبلور الجدل حول علاقة المستوى السياسي بالمستوى العسكري في إسرائيل مستقبلا حول النقاط التالية:
ـ إعادة تعريف العقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي لكي يتحول من مفهوم الحرب التقليدية (جيوش نظامية مقابل مثيلاتها) إلى الحروب الحديثة التي يمكن للجيش أن يخوضها ضد جماعات مسلحة لا جيوش نظامية.
ـ حتمية توصيف المواجهات التي تدور بين الجيش والجماعات المسلحة مثل حماس وحزب الله على أنها حروب وليست مجرد أوامر قتال من دون تحديد مضمونها.
ـ ضرورة إشراك العسكريين في قرار الحرب وتحديد أهدافها، لا الاكتفاء بمشاورتهم واعتبار تقديراتهم أمرًا غير ملزم لصانع القرار السياسي.
ـ آلية وضع ميزانية الجيش وتحريرها من الضغوطات السياسية بين الأحزاب.
ـ كيفية التعامل مع الأهداف المتعارضة مثل كسب الحرب الحديثة مع عدم سقوط ضحايا كثيرين، سواء في صفوف الجيش أو بين السكان في مناطق العدو الذي يتم قتاله.
(*) باحث في الشئون الإسرائيلية
المصدر: المركز الأقليمي للدراسات الاستراتيجية