إعداد: نسيب شمس
يتحدث الكثيرون عن معركة "ستالينغراد"، منهم من يصفها بالحصار ومنهم من يعتبرها معركة مصير، ولا ننسى تشبيه ياسر عرفات (أبو عمار) معركة حصار بيروت عام 1982 بأنها ستكون معركة "ستالينغراد". بناءً عليه لا بد أن يعرف المرء أكثر عن موقعة "ستالينغراد" التي شكلت منعطفاً كبيراً في مسار الحرب العالمية الثانية، ولماذا اعتبرت عن حق بداية نهاية الريخ الثالث، خاصة وأننا نعيش مرحلة مفصلية من حربنا مع الكيان المؤقت. عدا عن أن ظروف المعركة في غزة تختلف باختلاف القوى وحجمها واستراتيجياتها وما حصل في "ستالينغراد"، فالمقارنة لا تتفق بأي شكل، وسنحاول الإضاءة على ما حصل في "ستالينغراد".
تعتبر معركة "ستالينغراد" كبرى معارك الحرب العالمية الثانية ومن أصولها والمنعطف الكبير في تحول مسارها، ونشبت حول مدينة "ستالينغراد" وضمنها بين القوات السوفياتيية النظامية والشعبية وقوات المحور (الألمانية) أساساً، وانتهت بدحر القوات الغازية واستسلام جزء كبير منها.
بدء المسير الى "ستالينغراد" إثر النجاحات التي حققتها القوات النازية المندفعة عبر الأراضي السوفياتية في عملية "باباروسا" في صيف 1941، لكن وتيرة التقدم الألماني بدأت بالتناقص في أواخر 1941، إلى أن توقفت تقريباً في كانون الأول/ ديسمبر على جبهة عرضها أكثر من ألفي كيلومتر، جبهة تمتد من ضواحي "لينينغراد" شمالاً حتى مدينة "روستوف" على بحر آزوف، وشبه جزيرة القرم.
كان معظم القادة الألمان يفضلون عدم متابعة التقدم في فصل الشتاء، والتراجع الى خط دفاعي، لكن "أدولف هتلر" رفض ذلك إنطلاقاً من فكرة رآها منطقية وهي "ان التراجع في الشتاء أخطر على المقاتل من الصمود والدفاع". وفي هذا الوقت، كانت القوات السوفياتية تحشد قواتها على محاذاة الضفة الشرقية لنهر الفولغا، بدءاً من من شرق "لينينغراد"، حتى شبه جزيرة القرم جنوباً.
الخطة الألمانية كانت تهدف لإستئناف الهجوم في العام 1942، واحتلال حقول النفط في شمالي القوقاز، وإقامة خط دفاعي على طول ضفة "الدون" الغربية الممتدة من "فورينج" حتى "ستالينغراد". ووفق هذه الخطة يكتفى بالاقتراب من "ستالينغراد" ووضعها تحت القصف المدفعي والجوي، وفي الشمال يتم احتلال مدينة "لينينغراد". وفي مرحلة لاحقة تندفع القوات الألمانية نحو نهر "الفولغا" وبمحاذاته حتى تلتقي بالقوات المتجهة من "لينينغراد" جنوباً، ويتم تطويق معظم القوات السوفياتية، وينتهي الأمر بإنهيار النظام السوفياتي نفسه.
أما القيادة السوفياتية فكانت تريد آنذاك فك الحصار عن "لينينغراد" و"سيفاستوبول" وإبعاد العدو عن قلعة القرم وتحرير المرافئ الواقعة شمالي بحر آزوف. هجم السوفيات وعرفوا بعض النجاحات، رغم الخسائر الكبيرة في القوات المهاجمة، وتمكن الألمان من كسر حدة الهجوم بالدفاع القوي والهجمات المعاكسة. لكن تحقق هدف مهم وتمثل في إرغام الألمان على التوقف في شتاء 1941، وتجمدت أوضاع الطرفين طوال الأشهر الأولى من العام 1942 باستثناء مهام الاستطلاع وعمليات القصف الجوي.
ووضع قادة الجيش الألماني خطة، لكن هتلر حدد خطة آخرى، على ضوء حاجته الى النفط، وطلب القضاء على مدينة "ستالينغراد" بالقصف، دون بذل أي جهد لإحتلالها، مع احتلال حقول النفط في القوقاز، بعد أن تحولت مسألة الوقود الى هاجس دائم بالنسبة لمستشاري هتلر.
وبدأت الهجمات المتتالية والخطط المتبدلة. وخلال ذلك، كانت قوات الطرفين تتآكل بوتيرة متسارعة في "ستالينغراد" كانت القوات الألمانية في تدهور مضطرد، تحت وطأة المعارك والأمراض وصقيع الشتاء. وبعد نفاذ احتياطات الالمان من المؤن والذخائر تضاعفت احتياجاتها الى الإمداد، ولم يستطع الطيران أن يمدها بأكثر من 70 ـــ 80 طناً يومياً.
وفي 8 كانون الثاني/ يناير 1943 وجه السوفيات الى الألمان إنذاراً بالاستسلام، وعندما رفض القائد الألماني، شن السوفيات هجوماً منطقة الحصار، وأصبحت المنطقة محاطة بسبعة جيوش سوفيتيية، وتحدد مصير الألمان. لكن هتلر لم يسمح بالاستسلام، وفي 31 كانون الثاني/ يناير 1943 لم يبق للألمان ما يدافعون به أو عنه، فاستسلموا للقوات السوفياتية، بعد أن ذهب 80 ألف من القوات الألمانية ضحية الجوع والمرض والإصابات خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر 1942، ألقى الفيلق الحادي عشر من الجيش الألماني سلاحه، وكان آخر المستسلمين في جيب "ستالينغراد".
أحصي خلال عملية دفن القتلى، 147200 جثة ألمانية، و 46700 جثة سوفياتية. ومن أصل 330 ألف جندي ألماني وقعوا في الطوق السوفياتي في منطقة "ستالينغراد" خرج منهم 91 ألف فقط أحياء (أسرى). ثم مات من هؤلاء حوالي 40 ألفاً بسبب الأمراض التي تفشت بينهم أثناء الحصار، نتيجة البرد والجوع وسوء الخدمات الطبية، كما قضى كثيرون نحبهم في اثناء المسير الطويل نحو معسكرات الاعتقال.
واليوم عشية حصار غزة ومعركتها هناك من يحاول التشبيه، ولكن التعرف على معركة "ستالينغراد" لا بد أن يدفعنا للتأمل الواقعي في مآلات الأمور والأوضاع.