د. علي أكرم زعيتر
ماذا بعد هدنة الأيام الأربعة التي وقعتها حركة حماس مع كيان الاحتلال برعاية قطرية مصرية؟ هل آذنت حرب غزة بالانتهاء؟ ومن المنتصر فيها ولماذا؟ أسئلة عديدة سنحاول الإجابة عنها في مقالنا هذا، عسى أن تسعفنا وريقاته القليلة بالوصول إلى الغاية المتوخاة.
قبل الإجابة، دعونا نقارب الوساطة المصرية القطرية من زاوية عربية ــ إسلامية، فنقول: بصفتي مواطن عربي مسلم، ما زلت حتى الساعة غير متقبل لفكرة الوساطة المصرية ــ القطرية. فأن تكون عربياً مصرياً أو عربياً قطرياً، فهذا يعني أن تكون طرفاً في الصراع إلى جانب أشقائك الفلسطينيين، لا وسيطاً نزيهاً تحظى بالمقبولية من الجانبين الصهيوني والفلسطيني. إن مجرد قبول نتنياهو بك كوسيط نزيه لهو خيانة ما بعدها من خيانة، ولَهي وصمة عار ستبقى تلاحقك إلى الأبد!
اعتدنا في ما مضى على أن يكون الوسيط بيننا وبين الصهاينة طرفاً غربياً محايداً، أما أن يقدِّم أبناء جلدتنا أنفسهم على أنهم وسطاء محايدون، فهذا ما لا يمكن استيعابه حتى اللحظة! أنَّى للعربي أن يرعى مفاوضات هدنة بين طرفين أحدهما عربي وآخر غير عربي، فيما المعركة لا تزال قائمة؟ هناك ما يربو على الخمسة عشر ألف مدني شهيد قضوا في غزة على يد الاحتلال الإسرائيلي، فكيف بالعربي المصري والعربي القطري أن يتغاضيا عن كل ذلك وينخرطا في رعاية مفاوضات من هذا القبيل؟!
كم كنا نتمنى على حكومتَي السيسي وآل ثاني لو أنهما لعبتا دور الوسيط في المعارك التي كانت دائرة قبل أعوام في سورية! آنذاك كانت سورية بأمس الحاجة لمن يلعب دور الوسيط بينها وبين جماعات المعارضة التي عاثت في أرضها فساداً وخراباً، ولكن مع الأسف لم تجد قُطراً عربياً واحداً يتصدى لهذه المسؤولية! فيما اليوم يتبارى القطريون والمصريون من أجل كسب ود الأميركيين والإسرائيليين.
أول من أمس، أعلنت حركة حماس في بيان لها عن تقديرها للجهود التي يبذلها المصريون والقطريون. ربما للحركة أسبابها الخاصة التي تدعوها إلى قول ذلك. نحن نتفهم رأيها على أي حال، ونقدر ظروفها الراهنة. ولكننا متيقنون في أنفسنا من أن للحركة قيادةً ومجاهدين عتباً كبيراً على الأمة العربية التي خذلتها، ولم تمد لها يد العون، لا سيما النظام المصري الذي يتصرف كأنه طرف ثالث. الحركة حالياً تخوض غمار معركة مصيرية ولا وقت لديها للعتب واللوم. ما يعنيها الآن صد العدوان والتحضير للمرحلة القادمة. المرحلة التي تعلن فيها الانتصار على أعتى قوة عسكرية في المشرق العربي.
وعلى أي حال، فإن أمارات النصر بدأت تظهر للعيان في عدة مواضع، منها:
١_المعركة البرية التي لم تستطع إسرائيل أن تحسمها حتى الآن، رغم دخول الحرب يومها الخمسين. الأخبار المتواترة من أرض المعركة، ومشاهد الفيديو التي توزعها المقاومة الفلسطينية تشير كلها إلى أن العدو يتكبد خسائر كبيرة، وإلى أنه عاجز حتى اللحظة عن إحراز أي تقدم فعلي.
التقدم الذي شهدناه خلال الأيام السابقة لا معنى له على أرض الواقع، فالجنود الإسرائيليون حتى الآن لم يتموضعوا في نقاط عسكرية ثابتة، وهم يقضون جل وقتهم في آلياتهم العسكرية. قلَّما تجد منهم قوات راجلة تسير في الأحياء والشوارع، أو حتى تقيم في مبانٍ وغرف محصنة. هم يتصرفون كأطفال يحتاجون إلى رعاية دائمة، لذا تجدهم يتحلقون دائماً حول آلياتهم المدرعة.
الألوية الإسرائيلية الخمسة التي أُوكلت إليها مهمة اقتحام غزة، اتخذت لنفسها ثلاثة مسارات. مسار من الشمال، ومسار من الشرق، ومسار من الوسط. نحن لا ننكر أنها تجاوزت أميالاً وكيلومترات، ولكن جميع المراقبين متفقون على أن الأميال التي قطعتها القوات المهاجمة كانت عبارة عن مساحات زراعية فارغة، مع بعض المناطق المأهولة في الوسط والشرق.
التقدم بطيء، كما بات واضحاً للجميع، وهو يسير بوتيرة غير مطَّردة، فتارةً تتقدم القوات المهاجمة على نحو غير مسبوق كما شاهدنا في المناطق الزراعية، وتارة تصاب بالعطب والجمود بفعل المقاومة الشرسة التي تواجهها، فلا تكاد تتقدم أمتاراً. الوضع ليس مثالياً بالنسبة للإسرائيليين، هناك أثمان باهظة يتكبدونها كل يوم، فهل ما زال بوسعهم تحمل مزيد من الخسائر؟ سؤال نضعه في رسم الخبراء العسكريين، فهم أكفأ منا للإجابة عن هذا السؤال.
٢_ لنتنياهو تصريح مسجل يقول فيه، إن إسرائيل لن توقف عدوانها على غزة إلا بعد ”تحرير الرهائن الإسرائيليين“ وفق تعبيره، فهل تحرَّر أحد من هؤلاء؟ لقد مضى أكثر من ٥٠ يوماً على اندلاع حرب غزة، ومع ذلك ما زال نتنياهو بعيداً عن إطلاق سراح أي أسير صهيوني.
لقد قالت حماس كلمتها، وكذلك بقية فصائل المقاومة، لا عودة للأسرى الإسرائيليين إلى ذويهم إلا عبر المفاوضات غير المباشرة، وها هي إسرائيل تُضطر صاغرةً لإجراء مفاوضات غير مباشرة مع حماس برعاية الوسيطين المصري والقطري، تُرغَم بموجبها على إجراء صفقة تبادل مشروطة، تقضي بإطلاق سراح أعداد كبيرة من الأسرى الفلسطينيين مقابل عدد محدود من الأسرى الإسرائيليين.
إن فشل حكومة نتنياهو في الوصول إلى أحد أهدافها المعلنة يعد إخفاقاً ذريعاً، فما بالك إذا تضافرت الإخفاقات وتوالت؟
٣_ من الأهداف الأخرى التي وضعتها حكومة نتنياهو نصب عينيها هو إسقاط حكم حركة حماس في غزة، والتحضير لمرحلة ما بعد حماس. فلا حماس سقطت، ولا الحديث عمَّن يحكم القطاع بعدها عاد له معنى.
بعد مرور ٥٠ يوماً ما زالت حماس تمسك بزمام الأمور في القطاع، وتناور وتستدرج وتعطب آليات وتقتل جنوداً إسرائيليين، ما يعني أن هدف نتنياهو الرامي إلى إسقاط حكمها ما زال بعيد المنال، فهل بعد هذا من أَمَارة على انتصار حماس في حرب غزة؟
٤_ نحن لا ننكر، أن لحماس مصلحة كبرى في التوصل لاتفاق هدنة. قد تكون بمثابة استراحة محارب بالنسبة للحركة، وهي بلا شك فرصة لها ولأهل القطاع لململة جراحهم وكفكفة دموعهم وتفقد ممتلكاتهم ومنازلهم التي سُوِّيت بالأرض. على أي حال، لا مصلحة لحماس في استمرار الحرب يوماً إضافياً، فحماس في العلم العسكري انتصرت في ٧ تشرين الأول، وما يحدث هو إرهاصات الانتصار، أو الأثمان التي لا بد أن تدفعها.
الأمر بالنسبة لحماس أشبه بضربة خاطفة حققت المطلوب منذ اليوم الأول، وكل يوم يتلو هذا اليوم
هو بمثابة عداد ساعة كهربائية يراكم عليك فواتير إضافية.
نحن لا ننكر كل ذلك، ولكن هلَّا أخبرنا المحللون الألمعيون الذين يروجون لفكرة هزيمة حماس وانتصار (إسرائيل) ما مصلحة إسرائيل في الوصول إلى هدنة إنسانية في هذا الوقت بالذات؟ هل هي ضغوط قطر ومصر التي أجبرت إسرائيل على القبول بهدنة إنسانية لا مصلحة لها فيها البتة، أم هي الضغوط الأميركية؟ دعونا نكون صريحين، لا هذه ولا تلك! إنما هو ملف الأسرى الضاغط على حكومة نتنياهو ما أجبر الأخير على القبول بهدنة إنسانية، فضلاً عن الخسائر اليومية في الأرواح والعتاد! إسرائيل لا تقيم وزناً لكل الاعتبارات الإنسانية، وهي أساساً لا تخشى من تشويه سمعتها أمام الرأي العام الدولي، ما دام هناك من يحرص على تلميع صورتها دائماً، عنينا بها الولايات المتحدة التي تتصدر المحافل الدولية دفاعاً عن جرائم إسرائيل في حق أطفال غزة ونسائها.
أي نعم نحن لا ننكر أن إسرائيل ضابط ارتباط في المنطقة وهو يأتمر أولاً وأخيراً بأمر مشغله الأميركي، ولكن في ما خص هدنة الأيام الأربعة الإنسانية فإن أميركا لم تمارس أي ضغوطات على حكومة نتنياهو للقبول بالهدنة. صحيح أنها لعبت دوراً إلى جانب قطر ومصر، ولكن من شبه المؤكد بالنسبة لنا أن قرار القبول بالهدنة كان إسرائيلياً محضاً، وقد نجم عن إخفاقات الجيش الإسرائيلي في الحرب البرية التي طال أمدها دون أن تحقق شيئاً ملموساً على الأرض.
٥_ يُخيَّل لبعض المهرجين والمبتدئين في عالم السياسة أن استشهاد قرابة الخمسة عشر ألف غزاوي هو انتصار بيِّن لإسرائيل. هؤلاء المهرجون يقيسون الأمور بمقاييس سطحية للغاية، فرجحان كفة المنتصر في حرب غزة لا تكون بالمقارنة بين عدد الضحايا في غزة وعدد القتلى في الجانب الآخر! هذا ضرب من ضروب الخَبَل! من الطبيعي جداً أن تفوق خسائر الفلسطينيين في الأرواح والممتلكات خسائر الطرف الآخر، فالفلسطينيون يخوضون معركة غير متكافئة. هناك بون شاسع بين قدرات فصائل المقاومة القتالية وبين قدرات العدو الصهيوني! لا مجال للمقارنة أبداً.
إن ما يعطي حماس وبقية فصائل المقاومة السبق في الانتصار هو العنصر البشري وتحديداً الروح المعنوية العالية للمجاهد الغزاوي والمتأتية أولاً وأخيراً عن عقيدته الإسلامية وعن ارتباطه العميق والمتجذر بأرضه. ولولا عنصر الروح المعنوية لما كان لحماس وفصائل المقاومة في فلسطين والمشرق العربي أي فرصة بالنصر أو حتى الصمود أمام آلة القتل الصهيونية.
٦_ من الأمارات الإضافية التي تؤكد أن حماس انتزعت هدنة الأيام الأربعة انتزاعاً، وخرجت بها منتصرة، بينما خرج نتنياهو منها خاسراً حسيراً، هو إحجام حزب الله حتى اللحظة عن توسعة دائرة الجبهة الشمالية.
ما زالت عمليات حزب الله العسكرية في شمال فلسطين المحتلة مدروسة حتى الساعة، ما يعني أن حماس ما زالت ممسكة بزمام الأمور في غزة، وما زالت بكامل قوتها، فالمعادلة التي تعمل على أساسها المقاومة الإسلامية في لبنان منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى، مفادها الآتي: ما دامت حركة حماس خارج دائرة التهديد، وما دامت تمتلك ما يكفي من القوة للصمود بوجه جيش الاحتلال، فستبقى وتيرة العمليات العسكرية على الجبهة الشمالية على ما هي عليه. وعليه نقول، بما أن عمليات حزب الله لا تزال مدروسة حتى الساعة، فهذا يعني أن حماس لا تزال بكامل قوتها، وهذا يعني أنها لا تزال منتصرة حتى الساعة.
إن بنك الأهداف الإسرائيلية أوشك على النفاد، دون أن تحقق حكومة نتنياهو أي إنجاز حقيقي على الأرض، فما الحاجة بعد إلى استمرار العدوان على غزة؟ وما قبول إسرائيل بالهدنة إلا أولى أمارات هزيمتها وانتصار حماس.
هناك من يعتقد أن إصرار حركتَي الجهاد الإسلامي وحماس على إفراغ السجون والمعتقلات الإسرائيلية من آخر أسير فلسطيني (تبييض السجون) سيدفع بنتنياهو إلى مزيد من التصعيد بعد انتهاء هدنة الأيام الأربعة، وهناك من يعتقد أن إدارة الرئيس بايدن قد وضعت أمام حكومة نتنياهو سقفاً زمنياً معيناً لإنهاء المعركة لا يتعدى الشهرين، ويبدو أن الأخير في عجلة من أمره الآن، قبل انقضاء مدة الشهرين، ما يعني أنه سيلجأ إلى تمديد الهدنة، وصولاً إلى وقف إطلاق النار. وما بين وجهتي النظر هاتين، نجد أنفسنا ميَّالين إلى التزام الصمت ريثما ينجلي غبار المعركة، فقبل أن تضع الحرب أوزارها لا يحق لنا أن ننبس ببنت شفة حيال الأمر.