جورج قرم
نعيش في زمن غريب جداً، تُحرّكه تيارات متضاربة وتحفزّه تغيرات تقنية وفكرية. إن مناخات العالم و&laqascii117o;أنظمة فرض قواعد النظر إلى الحقيقة"، إن استخدمنا عبارة ميشال فوكو، هي جميعها في خضم التطور والاضطراب. لكن التناقض الكبير الذي نحياه اليوم هو تزايد التقوقع على الهوية وتزايد الاحتفالات بذاكرات تاريخية محددة تترافق بانتشار العولمة الاقتصادية والمالية، هو في الأرجح من نتاجها.
نحتفل اليوم بالذاكرات التاريخية، إلا أن التاريخ يكتسب بشكل متزايد صيغة ملحمية ووظيفة الإشراف على التصرفات والعقائد السياسية.
نُمجّد عودة الدين، إلا أن الفكر اللاهوتي لا يتقدم، بينما تتقدم القراءة الحرفية والسياسية للنصوص الدينية الكبرى المؤسسة والمهيمنة على مشهد هذه العودة. نُثني علانية على مزايا الليبرالية، إلا أننا أمام تفشي مظاهر الإفقار والإقصاء، وتزايد تجمع الثروات في أيدي قلة قليلة، وانتشار الفساد وسوء استخدام الممتلكات الجماعية في الحياة الاقتصادية، نُهنئ أنفسنا بالانتشار التدريجي للديموقراطية، إلا أن الصراعات العرقية والدينية والمذهبية تتضاعف، ونشهد حصر السلطة الاقتصادية والإعلامية والمالية في أيدي قلة قليلة يُشوّه كل قواعد الديموقراطية.
نتساءل مرة أخرى، كما في القرن التاسع عشر، عن غاية التاريخ. إلا أن الإجابات تظل بعيدة عن الوقائع واحتياجات البشرية. أمحكوم علينا بحرب حضارية مؤبدة، كما يظن البعض؟ أم أن العقل ودولة القانون وحماية الفرد ونشدان القواعد العادلة في العلاقات بين الأمم لا تزال هدفاً واقعياً؟ وهل لا يزال بإمكاننا أن نؤمن بالقيم الجمهورية والمدنية؟ أمن واجبنا أن نبقى ملتزمين بالعلمانية في حين أنها موضع جدال عنيف، لا بل كره في أجزاء من العالم؟
العلمانية والإدخال في الدنيوية: مفهومان متناقضان
يُخيّم ارتباك فكري واضح على المفردات التي تهدف إلى تحديد نموذج إدارة المجتمع الذي تُنظّمه المفاهيم الدينيـة والقـوانين الناجـمة عنها مباشرة. فالإدخال في الدنيوية (secascii117larisation) مفهوم أنغلوسكسوني وألماني مستوحى، بصورة عامة، من قيم الكنائس البروتستانتية المختلفة. يظهر هذا النموذج، في الرأي الشائع، على أنه أكثر مرونة ومراعاة للدين من نموذج العلمانية المستلهم أساساً من التجربة الفرنسية في فصل الدين عن الدولة. يُفترض أن الدنيوية قد حققت توازناً أفضل، بين إجلال الإيمان والحرية الفردية من العلمانية الفرنسية. فهذه الأخيرة لم تتوصل في الواقع إلى التخلص من تهمة معاداة رجال الدين وعدم احترام القيم والمعتقدات الدينية.
هذه الصورة الهزلية الفكرية لإشكالية بالغة التعقيد تُرافِق تفكيكَ العالم إلى تجمعات طوائفية متفرقة يشجعها النموذج الإمبريالي الأميركي، السياسي والثقافي، حيث تعرّف الأمة الأميركية ذاتها بأنها &laqascii117o;أمة مؤمنين" وضعت قيد التنفيذ مبادئ الإدخال في الدنيوية، ليس إيماناً بها، وإنما حرصاً على حرية تعددية الكنائس البروتستانتية نفسها. ومع هذا، كما سنرى، عززت مبادئ الدنيوية التجمعات الطائفية على حساب حياة المواطنة في المجتمع. لهذا، فإن انتشار الثقافة الأميركية المعاصرة يفتح الباب أمام كل أشكال تطييف المجتمعات التي تمارس وتشجع على نطاق واسع، لأنها تسهل الإدارة الإمبريالية للعالم.
يتعارض هذا النموذج مع نموذج العلمانية، ذي النظام المبني على فكرة المواطنة والجمهورية الذي ينتسب إلى &laqascii117o;الأممية" (Cosmopolitisme) بأسمى معاني المصطلح، أي المعنى الذي أعطته الفلسفة الكانتية للعلاقات الدولية الهادفة إلى إرساء السلام الدائم بين الأمم أو الدول. لذلك من الضروري شرح هذا التعارض بين النموذجين لكي ندرك الرهانات العظمى لمعركة الأفكار والسلوكيات الدائرة أمام نظرنا بطريقة معقدة ومشوشة إلى حد ما على المستوى المفاهيمي.
هذان النموذجان وليدا الحروب الدينية الطويلة التي مزّقت أوروبا قرابة مئة وخمسين عاماً. لقد حطّمت الثورات البروتستانتية المتتالية احتكار الكنيسة الرومانية لفرض المعتقدات الدينية بحذافيرها على المجتمع. لكن &laqascii117o;الإصلاح"، تبعاً للكلمة المطهرة المستخدمة للدلالة على الحروب الدينية، تجزأ، في الواقع، إلى كنائس مختلفة ومتنافسة في ما بينها. فبعد أن رفضت العقيدة البروتستانتية سيادة البابوية، وأنكرت عليها كل حق في تحديد عقيدة الكنيسة، لم يعد بمقدور منطق الثورة البروتستانتية إلا أن يفضي إلى تجزئة المسيحية إلى كنائس مختلفة مستقلة ومتزاحمة في ما بينها.
لكن للمفارقة، بدلاً من أن يُفضي هذا التشرذم إلى إضعاف الدور المركزي للدين في الحياة السياسية والاجتماعية، قد آل إلى تكثيفه. فالكاثوليكية الرومانية كانت قد فصلت رجال الدين عن بقية أفراد المجتمع وصاغت لنفسها مجتمعاً دينياً، مميزاً ومستقلاً عن سائر فئات المجتمع، بقواعده الخاصة به ومؤسساته الاقتصادية والاجتماعية وتسلسله الهرمي، بل حتى بطبقة نبلائه. ألغت البروتستانتية هذا الفرز، ابتداء بإزالة الطابع القدسي عن ممتلكات الكنيسة الرومانية التي استولت عليها طبقة النبلاء المدنية التي كانت تحكم آنذاك مختلف الأقاليم الأوروبية.
في الأصل إذًا، تفيد كلمة &laqascii117o;إزالة الطابع القدسي" عملية نقل ثروة الكنيسة إلى السلطات السياسية القائمة وإلى المجتمع المسمى &laqascii117o;مدنياً". أفضى هذا التطور، بشكل منطقي جداً، إلى إدماج المجتمع الديني في المجتمع المدني اجتماعياً واقتصادياً في الدول المعتمدة للمعتقدات البروتستنتية وكنائسها.
هكذا، أضحى الدين جزءاً لا يتجزأ من حياة المجتمع ولم يعد مفصولاً عنها كما هي الحال في البلدان الكاثوليكية. وأصبح القساوسة البروتستانت يعيشون داخل المجتمع وليس خارجه كما هي حال كهنة الكاثوليك. فالسلطة الروحية التي كانت تمسك بزمام السلطة الزمنية تلاشت في البلاد البروتستانتية، ووجدت السلطة الزمنية نفسها مجبرة أن تضمن للدين موقعاً مركزياً في الحياة الاجتماعية. وأصبحت النماذج السياسية المفروض اتباعها تُنهَل من التوراة. هكذا تم إضفاء الشرعية على ثورة كرومويل (Cromwell) في إنكلترا بالاستعانة باقتباسات توراتية، وليس بأقوال المسيح ذات الدلالات الإنسانوية الكونية التي لا تكترث لقضايا السلطة السياسية، وعندما قام المتشددون الطهرانيون من البروتستانت (Pascii117ritains) باستعمار أميركا الشمالية، اندرج مسعاهم تحت الراية الدينية لأرض إسرائيل الجديدة التي قرروا أن الله وهبها لهم.
فضلاً عن ذلك، لم تتمكن قط القومية الإنكليزية أو الأميركية من التحرر من الفكرة الدينية القائمة على اصطفاء الله لهذين الشعبين وقدرهما في السمو والفتح. شعور انبعث من القراءة الكثيفة والحرفية في أغلب الأحيان للتوراة. أرسى كلفين (Calvin) في جنيف نظاماً دينياً استبدادياً توحدت فيه السلطة الدينية والسلطة الزمنية بشكل مطلق. أما في إنكلترا، فقد أصبحت الكنيسة الأنغليكانية كنيسة المملكة الرسمية، والملك رئيسها المباشر.
في الولايات المتحدة الأميركية، بسبب تعددية انتماءات المستوطنين لكنائس بروتستانتية مختلفة، متنافسة في ما بينها في أغلب الأحيان، كرّست حكمة الآباء المؤسسين حرية الضمير ورفضت أن يكون للدولة دين ومرجعية كنسية. بهذا ضمنت السلطات التأسيسية السلم الاجتماعي والديني في فترة كانت لا تزال فيها كل كنيسة بروتستانتية في مرحلة النضال والتنازع. فقامت حول الكنيسة، في إنكلترا، ثم في وقت لاحق وبطريقة أكثر كثافة في الولايات المتحدة الأميركية، حياة اجتماعية متمحورة حول الكنائس المختلفة.
كذلك، لقد دعّمت ظروف استعمار المساحات الشاسعة في أميركا الشمالية تمركز الحياة الاجتماعية حول الكنيسة (أي تطييف أو تمذهب المجتمعات). فخلافاً لأوروبا الصغيرة المتمدنة نسبياً، والمطوّقة بمؤسسات اجتماعية سياسية وثقافية عريقة، وجد المستوطنون أنفسهم أمام مساحات غير متمدنة بأبعاد استثنائية تسكنها بصورة متفرقة قبائل هندية ذات عادات وطور حضاري مختلف كلياً. فانتظمت الحياة بشكل تلقائي حول المعبد، وزالت المسافة الجسدية بين المؤمنين وأماكن عبادتهم، حيث إن القس، كغيره من الناس، يعمل ويتزوج وينشئ أسرة، ويشارك بشكل تام وكامل في حياة الجماعة الاقتصادية والاجتماعية.
تطورت البلاد التي بقيت كاثوليكية بطريقة مختلفة تماماً، واستمر فيها التنافس بين السلطتين الزمنية والدينية بلا هوادة. حاولت الثورة الفرنسية أن تعيد فئة الإكليروس إلى صوابها وأن تتبنى عبادة &laqascii117o;الكائن الأسمى" الذي يمكن أن يتجمع خلفه المواطنون من مختلف الطوائف. لكن المحاولة باءت بالفشل، إذ، ولمدة طويلة من الزمن، قاومت طبقة الإكليروس الفرنسية إلى حد بعيد الأفكار الجديدة. وتركت حرب الملكيين (La gascii117rre des choascii117ans) جروحاً عميقة. أرسى نابليون من جديد دين الدولة، فاشتهرت صراعاته مع البابوية. وعندما استعادت الملكية سلطتها، توقف التوتر بين الدولة والكنيسة. في ظل نظام الامبراطورية الفرنسية الثانية، بقي الوضع على حاله، لا سيما أن في نظام الإمبراطورية الفرنسية الثانية، بقي الوضع على حاله، لا سيما أن الامبراطورة أوجينيه (Eascii117genie) كانت ورعة جداً ومتمسكة بالدين، فبقيت الكنيسة تتمتع بنفوذ اجتماعي وثقافي كبير، خصوصاً من خلال منظومة المدارس والمؤسسات الخيرية التي أنشأتها. بيد أن الموقف بدأ يأخذ طابعاً راديكالياً مع إرساء الجمهورية الثالثة التي وجدت في موضع القوة بعد عام 1875، فاستطاعت أن تفرض تعليماً علمانياً وجمهورياً يكفل ولاء جميع المواطنين لدولتهم. في عام 1905 وتحت تأثير وزير الداخلية الفرنسي إميل كومب، تم تقليص دور الكنيسة إلى حد بعيد، واستطاع التعليم العام والجمهوري أن يحقق سيطرة واسعة.
مزايا النظام العلماني
نرى على الأقل ثلاث مزايا في النظام العلماني ينبغي التأكيد عليها حيث إنها تميز العلمانية من نظام الدنيوية. إن أولى هذه المزايا التأكيد على الإنسانوية كمبدأ ينظم المجتمعات ومصدر للأخلاقيات والسلوكيات. بموجب هذا المبدأ، تُحرّم كل رؤية تراتبية للحضارات والأعراق والثقافات والأديان. فخلف كل حضارة رجال يتساوون في إنسانيتهم، أياً كانت الخصوصيات ذات الطبيعة الأنثروبولوجية والتاريخية الخاصة بالمجموعات البشرية المختلفة. انطلاقاً إذاً من هذا المبدأ واعتماداً على نموذج التفكير الكانتي، يمكننا تأسيس نظام أخلاقي وسلوكي متحرر من ثقل قيود العقائد الدينية الخاصة. وانطلاقاً من هذه الأخلاقية، يمكننا إرساء نظام المواطنة والسلم الاجتماعي داخل كل مجتمع وكذلك في علاقات المجتمعات بعضها ببعض.
المزية الثانية هي إنشاء فضاء عام مستقل عن الفضاء الخاص يسمح بنشر المواطنة. إن الفصل بين الفضاءين ضروري لازدهار المواطنة. ففي الفضاء الخاص، يستطيع المواطن ممارسة كل الخصوصيات التي يرغب فيها، سواء في اعتقاداته الدينية أو في لباسه، بل حتى في اللغة التي يودّ استخدامها في حال كانت اللغة الرسمية غير لغة أصوله العرقية. في المقابل، في الفضاء العام، يجب أن يضع المواطن جانباً معتقداته وتقاليده الخاصة، حيث إنه مواطن ذو سلوكية تنشأ عن تربية مدنية اكتسبها من أخلاقية المصلحة العامة في المجتمع وعلاقاته بالمحيط الخارجي.
المزية الثالثة للنظام العلماني هي، أخيراً، السعي الدؤوب وراء المصلحة العامة داخل المجتمعات وبين المجتمعات.
(*) نص من كتاب &laqascii117o;نحو مقاربة دنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط" يصدر عن &laqascii117o;الفارابي"
المصدر: صحيفة السفير