إبراهيم غالي
تكشف تعقيدات الصراع السوري، الذي يدخل عامه الرابع خلال شهر مارس 2014، عن أن وسائل التواصل الاجتماعي، التي مثلت إحدى أدوات التغيير السياسي في دول الإقليم خلال الأعوام الأخيرة، لا تعمل بمعزل عن الواقع المعاش؛ بل إنها تعد في كثير من الأحيان مجرد انعكاس محض لهذا الواقع، كما برز على سبيل المثال في حالة التوافق بين كافة القوى السياسية والثورية المصرية على شبكة الإنترنت خلال الأيام الأولى من ثورة 25 يناير، والتي تحولت بمرور الوقت إلى حالة تنافس وتشتت بين هذه القوى وبعضها بعضًا، وصولا إلى حالة الصراع السياسي الراهن، والتي تبرز انعكاساتها بشكل واضح من خلال تتبع المنصات الإلكترونية التي تعبر عن مؤيدي ثورة 30 يونيو والأخرى التي دخلت في صراع عنيف مع الدولة المصرية منذ هذا الوقت.
وتعد منصات (تويتر، ويوتيوب، وفيسبوك) على وجه خاص أبرز أدوات التواصل الاجتماعي التي أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر في الثورات والاحتجاجات التي اندلعت منذ مطلع عام 2011 في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسوريا، كما أنها الأكثر استخدامًا من قبل قوى المعارضة في العديد من دول الإقليم، كما تبرز في حالات مثل البحرين، وتركيا، وإيران، والمغرب، والسودان، الأمر الذي اضطر سلطات الدولة في مناسبات متعددة إلى محاولة تقييد مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت من المحركات الأساسية للتعبير عن الرأي، والقدرة على الحشد، ومخاطبة العالم الخارجي.
صراع الشبكات الاجتماعية:
عمدت العديد من الدراسات إلى تحليل الصراع السوري من خلال نمط الاتصالات عبر الشبكات الاجتماعية، بهدف الكشف عن طبيعة القوى المعارضة المنخرطة في الحرب الأهلية، وهي دراسات انتقلت من وصف الصراع باعتباره استقطابًا واضحًا بين طائفتين واسعتين من المجتمعات الإلكترونية، إحداهما معارضة والأخرى مؤيدة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، إلى اعتباره صراعًا متعدد الأطراف كما تؤكده دراسة العلاقة بين الأنشطة السياسية وحجم المجتمعات التي ظهرت خلال العام الماضي خصوصًا، والمنضوية بشكل مباشر في الأزمة السورية.
ومن المؤشرات الأساسية التي تثبت أهمية دور الشبكات الاجتماعية في الأزمة السورية، أن أكبر عدد من بث أشرطة الفيديو على مستوى العالم تدور حول سوريا؛ إذ يجري بشكل يومي منتظم بث أشرطة فيديو على موقع 'يوتيوب' يتم التغريد بعدها في أنحاء العالم، لا سيما أن كافة أطراف الصراع السوري تمتلك العديد من الحسابات الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى سبيل المثال تشير دراسة أعدها فريق بحثي من جامعة دبلن بقيادة ديريك أوكالاهان، واعتمدت على رصد وتحليل محتوى 652 حسابًا سوريًّا على موقعي 'تويتر' و'يوتيوب'، إلى أن شهري أكتوبر ونوفمبر الماضيين، عقب الهجوم بالسلاح الكيماوي على الغوطة في 21 سبتمبر 2013، شهدا أكبر عدد من التغريدات على 'تويتر' عالميًّا، بواقع 1.760.883، بنسبة تزيد عن 75% عن عام 2012، كما أن 619 حسابًا على موقع 'يوتيوب' أطلقت نحو 14.629 قناة على الموقع لبث الفيديوهات من خلالها.
خمسة مجتمعات شبكية:
من جانب آخر، تعكس استنتاجات الفريق البحثي حقيقةً مهمةً تتمثل في أن الصراع على أرض الواقع يجد صداه من خلال رصد الأنشطة السياسية على الشبكات الاجتماعية، ليكشف أنه صراع أعقد بكثير مما هو متصور؛ فمن خلال تحليل 911 حسابًا على منصات 'تويتر' و'يوتيوب'، والتي تم تنقيتها لتصل إلى 652 حسابًا تختص بالصحفيين المعروفين، والأكاديميين، والمجتمعات المحلية مثل درعا وحمص والراستن وإدلب وغيرها، وبعض منظمات المجتمع المدني، والتنظيمات المسلحة مثل 'الجيش السوري الحر'، و'جبهة النصرة'، و'تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام' (داعش)، وكلها حسابات لها أصدقاء ومتتبعون ومغردون وأعضاء؛ أمكن تصنيف هذه الحسابات إلى 16 مجتمعًا منفصلا، أخذًا في الاعتبار قيام الفريق البحثي بـ'فلترة' التشابه القائم في المحتوى الإلكتروني فيما بين العديد من المجتمعات، ليتم تصنيفها إلى خمسة تجمعات أساسية كبرى لكل منها انحيازاته الخاصة، حيث تتكون هذه التجمعات من:
المجموعة الأولى: تختص بالجهاديين، ويشمل ذلك ثلاثة مجتمعات لها 40 حسابًا، معظمها يرتبط بالتوجهات الجهادية المتطرفة ومؤيدي 'تنظيم القاعدة'، و'جبهة النصرة'، و'تنظيم داعش'، وتعرض محتوياتها باللغة العربية بنسبة 95%، وتهدف إلى الدعاية والترويج لأفكارها، ويتمتع 'داعش' بوجود 87 ألف متتبع، وتشمل الصور، ومقاطع الفيديو، والتغريدات التي تقدمها هذه التجمعات صورًا لأسامة بن لادن، وفيديويهات لأسلحة، وهجمات، وقطعًا للرءوس والأيدي. ويشير التحليل إلى أنه في صيف العام الماضي كان لهذه التجمعات حوالي 6500 مشترك، وأن فيديوهاتها حصلت على مشاهدة 1.7 مليون شخص حول العالم لحوالي ألف شريط فيديو، معظمها يختص باستهداف عصابات وشبيحة نظام الأسد للمسلمين السنة.
المجموعة الثانية: تركز علي مؤيدي المعارضة المعتدلة، وخصوصًا 'الجيش السوري الحر'، و'الائتلاف الوطني السوري'، وتتكون من عشرة مجتمعات مختلفة، لها 105 حسابات على 'تويتر' و'يوتيوب'، بعضها لجماعات معارضة تسعي إلي إسقاط نظام الأسد، من أشهرها حساب خاص يعرف باسم 'منتدى الثورة السورية'، والذي يقول إنه يحارب نظام الأسد، و'تنظيم داعش'، ويحظى بتتبع 73 ألف فرد، وبعضها يحمل صورًا لجثث مجهولة الهوية حتى يمكن التعرف على أصحابها، وبعضها يطلق دعوات حول التسامح الديني في سوريا، وبعضها يدعو إلى حل الصراع بشكل يحفظ وحدة أراضي سوريا.
المجموعة الثالثة: تعبر عن مجتمعات ثلاثة أخرى معارضة للنظام السوري، ولها 137 حسابًا، ويغلب عليها نشاط اللاجئين في الخارج، والسوريين في الشتات، خاصةً في لبنان، والأردن، وتركيا، والإمارات، والولايات المتحدة، وأوروبا، ويغلب على هذه الفئة وجود تغريدات باللغة الإنجليزية تصل إلى حوالي 60% من مجموع التغريدات، ويبرز دور نشط للنساء خلال هذه المجتمعات المعارضة التي تعبر بشكلٍ ما عن المعارضة المدنية غير العنيفة، منها على سبيل المثال حساب لشاب جامعي يحمل اسم (الثوري)، له 12 ألف متتبع.
المجموعة الرابعة: تختص بالأكراد، ويصنفها الفريق البحثي إلى مجتمعين كبيرين، أحدهما يعبر عن حسابات متعددة، لأحزاب كردية، ووسائل إعلامية كردية، بينما يعبر الآخر عن تنظيمات وحركات مختلفة تتبني مطالب الشباب الكردي.
المجموعة الخامسة: وتضم مؤيدي نظام الأسد، وهي مجتمع واحد، يوجد به العديد من الحسابات على 'تويتر' و'يوتيوب'، تعلن تأييدها للقوات النظامية، ويأتي على رأسها الحساب الخاص بـ'الجيش الإلكتروني السوري'، الذي يضم مجموعة من الهاكرز الذين يستهدفون مواقع المعارضة، وبعض حكومات الغرب.
استنتاجات أساسية:
يشير تتبع وتحليل نشاط السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي إلى بعض الخلاصات المهمة أبرزها:
1- توجد ثلاثة كيانات كبرى على شبكات التواصل الاجتماعي السورية، أولها: مؤيدو نظام الأسد. وثانيها: معارضوه، ويشملون مجموعات متباينة أبرزها التنظيمات الجهادية المتطرفة، والمعارضة السورية السياسية 'الائتلاف الوطني'، والتنسيقيات المختلفة، والمعارضة المسلحة 'الجيش السوري الحر'، والنشطاء، واللاجئون خارج سوريا الذين يمثلون معارضة مدنية غير مسلحة. أما ثالثها فيتمثل في الأكراد الذين يبدو أنهم قد تمكنوا من خلق كيان خاص بهم داخل سوريا.
2- يعد استخدام أدوات التواصل الاجتماعي أبرز عوامل جذب المؤيدين لكافة الاتجاهات المختلفة، وذلك في ضوء صعوبة التواصل على الأرض، كما أن هذه الشبكات تمثل أداة رئيسية لكافة الأطياف السورية لتوجيه الخطاب للخارج، كما يبرز على سبيل المثال في بث مجتمع المعارضة السورية بالداخل لحوالي 440 فيديو في أول يومين منذ وقوع أحداث استهداف الغوطة بالسلاح الكيماوي في 21 سبتمبر 2013، وبث الجماعات الجهادية كذلك لـ37 شريط فيديو حول الواقعة ذاتها.
3- على الرغم من أنه لا يمكن قياس مدى قوة هذه المجتمعات الإلكترونية المختلفة على أرض الواقع بناء على رصد أنشطتها على مواقع التواصل الاجتماعي؛ فإن هذا ربما يعتبر أحد مؤشرات انعكاس الصراع، وتعاظم درجات الاستقطاب داخل الساحة السورية؛ ما يشير إلى أن أية تسوية مستقبلية لهذا الصراع لابد أن تهتم بدراسة الخلافات الداخلية المتراكمة، وحجم التداخل بين فئة المعارضين لنظام الأسد، ووجود صراعات ضخمة فيما بينهم، كما يبرز في الحرب الشبكية بين الجهاديين والمعارضة المدنية والعلمانية والمعارضة المسلحة.
4- إن شبكات التواصل الاجتماعي لا تخلق الحدث التغييري على أرض الواقع رغم أهميتها كأداة للحشد والتعبئة، فهي في المحصلة الأخيرة انعكاس واضح لما يدور على الأرض، وهي في أغلب الأحوال لا تستبق هذا الواقع، وإنما تكتسب الزخم من خلال زخم الواقع، كما حدث في ثورتي تونس ومصر، لكنها في نهاية المطاف تعبر في الحالة السورية عن حجم التعقيدات والتشابكات الداخلية والإقليمية والدولية؛ إذ أضحت الأزمة السورية مناسبة لكل مؤيدي النظام في الداخل والخارج، وكذا لمعارضيه، لخلق حسابات متعددة للدفاع أو الهجوم من المنصات المختلفة لشبكات التواصل الاجتماعي مثل 'فيسبوك'، و'يوتيوب'، و'تويتر'، و'إنستجرام'، وغيرها.
المصدر: المركز الاقليمي للاستراتيجية