(جورج حداد - كاتب مستقل)
تمثل المسيحية احد اكبر الأديان تعدادا على الكرة الأرضية، وهي الأكثر انتشارا في مختلف البلدان في اسيا وأوروبا وافريقيا والاميركتين واوقيانوسيا. وهي تشمل البلدان الاستعمارية الرئيسية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، والبلدان المستعمَرة وشبه المستعمرة في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وتشمل 4 من اصل 5 دول كبرى تمتلك حق النقض (الفيتو) في مجلس الامن الدولي. وأخيرا لا آخرا تشمل القطبين او الدولتين النوويتين الاعظمين في العالم وهما: الولايات المتحدة الأميركية وروسيا.
وهذا كله يضعنا امام الاستنتاج التالي: ان المسيحية، او بالاصح القول: ان المجتمع المسيحي هو الذي يقود العالم، ثقافيا وعلميا واجتماعيا وسياسيا وعسكريا، خيرا وشرا. ومصير العالم، او الكرة الأرضية، يتوقف على الصراع البيني داخل المجتمع المسيحي.
ومنذ الحملة التي قادها الاسكندر المقدوني، ثم قيام دولة قرطاجة، ثم الامبراطورية الرومانية، والحرب فيما بينهما، حتى أيامنا الراهنة، فإن الاحداث الكبرى في التاريخ ترتبط بالشعوب التي انتسبت سابقا او لا تزال تنتسب حتى اليوم الى المسيحية.
وفي اطار الشعوب التي تبنت المسيحية قبل او بعد بعضها البعض ولدت "التحولات" او "الطفرات" او "الثورات": الثقافية والفكرية والحضارية والعلمية والاقتصادية ــ الاجتماعية والسياسية، التي رسمت الخطوط العريضة لتطور المجتمع البشري بكل نجاحاته وتناقضاته، من اجتراح وتطوير واشتقاقات الابجدية، وامهات الادب، والموسيقى، والفلسفة، والدين (في الاطار "الفينيقي" ــ الارامي ــ الكنعاني ــ القبطي ــ الاغريقي ــ السلافي ــ اللاتيني ــ الانجلوساكسوني ــ الجرماني)، الى ظهور وتطوير الفكر المعرفي والعلمي، الى ظهور وتطوير الفكر الإصلاحي والتجديدي والثوري، الذي تتوج بالفكر الاشتراكي العلمي، الذي وضع اسسه ماركس وانجلز ولينين في اوروبا الغربية وروسيا.
وفي هذا الاطار قامت الحركات الإصلاحية والثورات الاجتماعية، ومنها الثورة الفرنسية الكبرى في 1789، التي وضعت أسس المجتمع الليبيرالي، ثم الثورة الاشتراكية العظمى في روسيا في 1917، وتجربة بناء النظام الاشتراكي (الصيغة السوفياتية ــ الستالينية المشوهة) لأول مرة في التاريخ المعاصر.
وفي هذا الاطار قامت الحروب ذات الطابع العالمي، بدءا بحرب الاسكندر المقدوني، والحروب البونية بين روما وقرطاجة، وحربي الـ30 سنة والـ100 سنة في اوروبا، وجولات الحرب المتواصلة ــ المتقطعة بين القيصرية الروسية والسلطنة العثمانية، وليس انتهاءً بالحربين العالميتين الأولى والثانية. وهي الحروب التي غيرت وجه العالم.
وفي هذا الاطار (المجتمعي المسيحي) بدأت الثورة الصناعية التي وضعت أسس الثورة العلمية ــ التكنولوجية المستدامة، واخترق الانسان الجو الأرضي، ووضع قدميه على القمر (حسب الرواية الاميركية التي يشكك بها العديد من العلماء)، وبدأ عصر ريادة الفضاء الكوني.
وفي ظروف تاريخية معينة ارتبطت أسماء بعض الاقوام القديمة، كالسريان والاشوريين والكلدانيين والاقباط و"الروميين" او "الاغريق" ((Greek واللاتينيين (الايطاليين) بالمسيحية ومذاهبها، على غرار ما ارتبطت كلمة عبري باليهودية بالنسبة لليهود. فصارت كلمة "عبري" (Hebrew) (ذات المدلول الاقوامي في الاصل) مرادفة لكلمة "يهودي" (Jewish) ذات المدلول الديني، وبالعكس. وبالمثل صارت كلمات مثل: "سرياني" او "آشوري" او "قبطي" او "لاتيني" ذات مدلول ديني ـ مذهبي، بينما هي في الأساس ذات مدلول اقوامي.
ومن الواضح اليوم ان العالم المعاصر يقوده قطبان "مسيحيان!" هما: اميركا وروسيا. وكل تناقضات العالم المعاصر تمد او تمتد خيوطها بين واشنطن وموسكو.
فهم المسيحية شرط لفهم العالم
كل ذلك يجعل من الضروري الفهم الصحيح للظاهرة المسيحية، كشرط ضروري لا يمكن بدونه فهم التاريخ العالمي القديم والمتوسط والحديث، ولا فهم العالم القديم والمعاصر.
وبالنظر الى ما تقدم يصبح من الضروري ان نفهم "ما هي المسيحية؟!"، كشرط حتمي لا بد منه لفهم التاريخ القديم والمعاصر، والاهم: فهم المستقبل الذي يسير نحوه المجتمع البشري برمته.
شخصيا لا ادعي الالمام بعلم تاريخ المسيحية، كمكون أساسي لعلم التاريخ (historiology) من زاوية علم دراسة وتثبيت الوقائع (factology)؛ كما لا ادعي الالمام بعلم اللاهوت المسيحي كمكون أساسي من "علم اللاهوت" العام (Theology). ولكنني كانسان مسيحي عادي (بالولادة والمنشأ)، وكقارئ عادي، انظر الى الوقائع والمفاهيم التي يقول بها الباحثون ويعرفها الكثير من المسيحيين والناس العاديين. واحاول فيما يلي ان استعرض بعض هذه المفاهيم والوقائع:
المفهوم الكنسي للمسيحية
هناك فكرة واسعة الانتشار، كرستها وعممتها المؤسسة الكنسية المسيحية، وتؤيدها المؤسسات الاكليروسية للاديان الأخرى (غير المسيحية)، بأن المسيحية ولدت مع السيد المسيح وطرحه لرسالته في الثلاثين من عمره وصلبه وموته وقيامته من بين الأموات وصعوده الى السماء (حسب المعتقد المسيحي).
وبمقدار ما ان هذه الفكرة هي صحيحة دينيا (كما يعتقد المؤمنون المسيحيون)، فهي تكرس مفهوما دينيا ــ لاهوتيا ــ غيبيا لظهور المسيحية، وتغيّب عنها الصفة التاريخية، الاجتماعية والقومية، التي ــ برأينا المتواضع ــ هي الصفة الأساسية لظهور المسيحية.
والنقاش بين الدين وما يسمى "العلمانية" (بصيغتها الالحادية) انما هو نقاش خاطئ (او خارج الموضوع) من اساسه، يدور حول نقطتين:
الاولى ــ وهي نقطة محورية: صحة او عدم صحة الوجود الالهي. ومن ثم صحة او عدم صحة "اللاهوت" و"الوجود الديني" او التفسير الديني للحياة الطبيعية والاجتماعية.
والثانية ــ وهي نقطة استطرادية: صحة او عدم صحة الحكم (السلطة) الديني خاصة، والتدخل الديني بالسياسة والحياة الاجتماعية عامة.
في حين ان المطلوب مجتمعيا وتاريخيا هو الفهم الاجتماعي ــ التاريخي للظاهرة الدينية ودورها في الحياة الاجتماعية والقومية، بمعزل عن المفاهيم اللاهوتية التي لا تخرج عن كونها تفسيرات وتحفيزات ذاتية وتجريدية للواقع الانساني المعاش، الموجود قبلها، بها او بدونها، والمستمر بالوجود بها او بدونها.
والنقض "العلماني" (الالحادي) السطحي للمفهوم الديني لا يعدو كونه الوجه الآخر ــ السلبي ــ للمفهوم اللاهوتي ذاته، ولا يخرجنا من الدائرة المغلقة لتقبّل او نفي المفهوم اللاهوتي التجريدي.
وبحسب فهمنا لوجهة النظر الاجتماعية ــ التاريخية فإن ظهور المجتمع البشري هو سابق على ظهور الدين، وبالتالي المسيحية؛ اي:
ان المجتمع هو الذي أوجد الدين، وليس الدين هو الذي اوجد المجتمع،
وان كان الدين ــ بعد ظهوره ــ أثر ويؤثر في حياة المجتمع ايجابا او سلبا، بما يقدمه من افكار ذات بعد اجتماعي او سياسي وتعبوي جماهيري.
ومن ثم فإن ولادة السيد المسيح وطرحه رسالته قد جاءت كمكمّل ديني نوعي للظهور التاريخي للمسيحية، ولكن ليس كمنطلق وكحجر أساس وحيد للمسيحية. اي:
ان المسيح ظهر بظهور المسيحية، وليست المسيحية ظهرت بظهور المسيح.
ومن ثم فإن القول بأن المسيحية ولدت مع طرح رسالة المسيح هو "تقزيم" فكري ــ اجتماعي ــ تاريخي لـ"المسيحية"، و"قصر" قسري وتعسفي، لاعلمي ولاتاريخي، لفهم المسيحية، مما لا يساعد لا على فهم سيرورة التاريخ العالمي، ولا على فهم دينامية الاحداث وتطورات المجتمع الدولي المعاصر، ولا على الفهم الحقيقي للمسيحية، لا سوسيولوجياً ولا حتى ثيولوجياً.
"المسيحية" قبل المسيح
والواقع التاريخي يقول إن "المسيحية" ولدت ــ زمانيا ومكانيا ومجتمعيا ــ قبل ولادة السيد المسيح، وليس فقط في فلسطين.
ومع بداية ظهور "المسيحية ما ــ قبل ــ المسيح" بدأت ولادة "الفكر الديني المسيحي" من ضمن عملية التباس دراماتيكي مع ولادة "الفكر الديني اليهودي" المعادي على خط مستقيم للفكر الديني المسيحي.
وفي هذا المكثّف المتواضع اكتفي بذكر ما يلي:
"المسيحيون" القدماء كانوا ينتظرون مجيء المسيح
ـ1ــ استنادا الى "لفائف قمران"، التي وجدت في بعض الكهوف شمال البحر الميت في الأردن في الفترة 1947 ــ 1956، والتي يعود تاريخها لما بين (او قبل) القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، كما تقول الدراسات المختصة، يتأكد انه – قبل ولادة السيد المسيح بعدة قرون ـــ كان يوجد جماعات او مجموعات منظمة تؤمن بمجيء "المسيح ــ المخلّص". ولم تكن هذه الجماعات تقتصر على عبرانيين فقط، بل كانت جماعات "اممية" تضم أعضاءً وانصارا من مختلف الاقوام القديمة في فلسطين والأردن وسوريا والعراق ومصر وغيرها. وكانت كل من تلك الجماعات تطلق على نفسها تسمية "أخوية"، وكان العديد منها على صلة بعضها بالبعض الاخر. وكان افرادها ينادي بعضهم بعضا بعبارة "اخ" و"اخوة"، وذلك قبل ظهور حركة "الاخوان المسلمين" بآلاف السنين. وكانت لهذه "الاخويات" "أنظمتها الداخلية" وشروط الانتساب اليها والحياة فيها. وكانت تشترط على المنتسبين اليها من الميسورين التخلي عن ممتلكاتهم وبيعها لصالح الفقراء، او لصالح "الأخوية" التي ينتسب اليها العضو الميسور. وكانت كل "اخوية" تعيش على طريقة "المشاعية" او "الشيوعية البدائية": (ملكية مشتركة، عمل مشترك، مائدة مشتركة). ويطلق بعض الباحثين على "جماعة قمران" او "اخوية قمران" (واضعة، او جامعة، تلك اللفائف) تسمية: الاسينيون، او الجماعة او "الأخوية الاسينية" (ولا ادري شخصيا من اي لغة هو مشتق تعبير "اسيني" ولا مدلوله او معناه باللغة الاصلية التي اشتق منها، مع الاشارة الى ان بعض العلماء يقول ان التعبير هو مشتق من الكلمة الأرامية "هاسياس" ومعناها "الأتقياء"، بينما يقول بعضهم الاخر انه مشتق من الكلمة اليونانية "أجيوس" بمعنى "قدوس" أو "مقدس"، والله أعلم). ومن المرجح ان البشير يوحنا المعمدان كان ينتسب الى هذه الأخوية الاسينية. ويستفاد من "لفائف قمران" انه كان يوجد أيضا "اخوية دمشق" وغيرها. كما يستفاد من وثائق تعود للكنيسة القبطية في مصر انه كان يوجد "اخويات" مشابهة في مصر أيضا.
المسيح ذاته انتسب الى "المسيحية قبل المسيح"
ـ2ــ ومع ان يوحنا المعمدان يقول انه لا يستأهل ان يربط سير حذاء السيد المسيح، فإن السيد المسيح ذاته ذهب الى نهر الأردن، وبارك عمل يوحنا المعمدان، وتعمد هو نفسه على يديه، مثله مثل أي منتسب جديد الى "المسيحية" التي كان يبشر بها يوحنا المعمدان والاسينيون قبل بدء السيد المسيح التبشير برسالته.
ورمزية معمودية السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان لها مدلول تاريخي واحد هو ان السيد المسيح اكد بنفسه اعترافه بـ"المسيحية" بالصيغة التي وجدت فيها قبله، وانتماءه هو الى هذه "المسيحية"، قبل ان تنتمي المسيحية اليه بعد ان بدأ التبشير برسالته واعتقل وصُلب وقام من بين الأموات.
"المشاعية البدائية" البدوية
3ــ من اين اخذت تلك الاخويات "المسيحية ما قبل المسيح" فكرة الحياة "المشاعية البدائية" او "الشيوعية البدائية" المسيحية؟
طبعا انها لم تأخذها من "الثقافة" الرومانية، لان الرومان كانوا عرابدة، سكيرين، نهّابين وقَتَلة، تقوم "ثقافتهم" على النظام العبودي ــ العنصري، أي غزو الشعوب الأخرى، وأسر واستعباد ناسها، واعتبار كل من هو غير روماني (حتى ولو كان حرا) بأنه عبد او "مشروع عبد" للرومان، واقل قيمة من الحيوان.
كما لم تأخذها من اليهود، لان اليهود كانوا في البداية قلة من الكذابين، والمرابين، والتجار النصابين والغشاشين، والنخاسين (تجار العبيد والجواري والغلمان)، واللصوص والمتاجرين بالمسروقات والمنهوبات، وقَتَلة الانبياء، والخونة والجواسيس والعملاء للمستعمرين الرومان. وقد تجلت انحطاطية اليهود بأبشع صورها في القبض على السيد المسيح، وتسليمه للرومان لصلبه، مدعين كذبا انه يريد ازاحة الامبراطور الروماني والحلول مكانه ملكاً.
فما هو اذن مصدر هذه الفكرة، اي فكرة "الاخوية المشاعية" التي وُضعت في قالب ديني تحت اسم الـ"مسيحية"؟
ان المنطق التاريخي يقول ان إقامة تلك "الاخوية" ("المسيحية") على ضفاف نهر الأردن وشواطئ البحر الميت، على حافة الصحراء، يدل على ان غالبية جمهورها، بالإضافة الى اعضائها من "العبرانيين ــ اليهود المنشقين"، كيوحنا المعمدان، ابن الفديسة أليصابات ابنة خالة السيدة مريم العذراء (حسب الانجيل)، كانت تتألف من العشائر البدوية، أبناء الصحراء، وان نمط الحياة "المشاعي البدائي" لتلك "الاخويات"، كان مأخوذا في خطوطه العريضة من نمط الحياة "المشاعية البدائية" لتلك العشائر. وتلك "الاخويات" لم تفعل سوى إضفاء الطابع "المنظم" "المفكرن"، "الايديولوجي" و"الديني"، على نمط المعيشة العشائري ذي الطابع التلقائي ــ العفوي، والفوضوي (الانارخي)، للعشيرة. وقد تمت "أدلجة" فكرة "المشاعية البدائية" العشائرية العفوية، من قبل "مثقفين!" من انصار "الفلسفة الرواقية" الأخلاقية لزينون الفينيقي ــ الاثيني، من أمثال يوحنا المعمدان، والمسيح وحوارييه.
الحالة الصراعية مع المستعمرين وعملائهم
4ــ تقول الرواية المسيحية ان الحاكم الروماني هيرودوس قام باعتقال يوحنا المعمدان، ثم قتله تلبية لرغبة الفتاة العاهرة سالومي التي طلبت رأس يوحنا المعمدان لقاء مضاجعتها، وكان طلبها بناء لتوصية القيادة اليهودية الدينية ــ التجارية. وهذه الواقعة تدل بأن تلك "الاخويات" "المشاعية البدائية"، "المسيحية ما قبل المسيح"، كانت في حالة صراعية شديدة حتى الموت مع المستعمرين الرومان وعملائهم اليهود على السواء. وقد اختارت تلك "الاخويات" العيش على ضفاف الأردن وشواطئ البحر الميت، أي على تخوم الصحراء، لانها كانت كلما تعرضت للخطر، تقوم بالرحيل الى داخل الصحراء و"الذوبان" في القبائل العربية التي تنتسب اليها غالبية أعضاء "الاخويات"، وبهذه الطريقة كانت تحتمي من الجيش الروماني، لان الجنود الرومان كانوا سكيرين ومدمنين على شرب الخمر بكثرة، مما كان يجعل اجسامهم دائما شديدة العطش الى شرب الماء، لذلك كانوا يستصعبون الدخول في الصحراء ومعاناة العطش الشديد لاجل المطاردة المستحيلة لحفنة من "المارقين البدو" الذين كانت روما تنظر اليهم باحتقار. ولا يزال كل ورثة روما الى اليوم ينظرون الى جميع شعوب الشرق نظرة "الاحتقار الروماني" الى البدو. وهكذا كانت رمال الصحراء وشمسها الحارقة وسكانها البدو خير "صديق" وحام للمسيحيين الأوائل، قبل وبعد ظهور المسيح. وظل الامر كذلك حتى ايام ابرهة الاشرم الذي شن حملته الفاشلة (عام الفيل) للقضاء ــ بالاخص ــ على المسيحيين الشرقيين القدماء الذين كانوا يعيشون وذوي مكانة مرموقة في مكة المكرمة، قبل بداية الرسالة المحمدية.
الاختلاط الثقافي الملتبس
5ــ يتألف الكتاب المقدس الذي تعترف به الكنيسة رسميا من "العهد القديم" و"العهد الجديد". وقد كتب "العهد القديم" من قبل عشرات المؤلفين المختلفين، باللغات اليونانية والارامية والعبرية، حسب اللغة التي يتقنها كل مؤلف. وفي القرن الثالث قبل الميلاد، شكل بطليموس الثاني فيلادلفوس هيئة مؤلفة من 72 عالما قاموا بترجمة اقسام التوراة المكتوبة بالعبرية والارامية الى اليونانية. وضمت تلك الاجزاء الى القسم اليوناني. وأصبحت هذه "الترجمة اليونانية" هي المعتمدة الى اليوم من قبل الكنيسة. وسميت "الترجمة السبعينية" او باختصار "السبعينية"، لان سبعين عالما قاموا بجمعها وترجمتها. وتتدامج في "السبعينية"، من جهة، الثقافتان اليونانية والشرقية "العربية القديمة" (بمختلف فروعها: القبطية والارامية "السريانية والاشورية")، التي كانت تقول بظهور "المسيح ــ المخلص" للانسانية، ومن جهة اخرى "الثقافة!" العبرية ـ اليهودية التي كانت تقول بظهور "المسيح ــ الملك" المخلص للعبرانيين اليهود.
مثلا: تدخل في "السبعينية" (العهد القديم) شريعة حمورابي (التي ينتحلها موسى التوراتي باسم الوصايا العشر وينسبها الى الهه المزيف اليهودي المسمى "يهوه"). وتدعو شريعة حمورابي الى تحريم وتجريم الزنى والسرقة والقتل، على الضد تماما من "الثقافة!" الرومانية السائدة.
كما تدخل في "السبعينية" الفلسفة الرواقية التي أسسها ونشرها وعلمها الفيلسوف زينون الفينيقي، الذي ولد في قبرص وعاش وعلم ومات في أثينا، وهي الفلسفة التي كانت تدعو الى المساواة بين البشر، ومعارضة العبودية، وإحلال المحبة والتسامح والأخلاق، كقانون للمجتمع البشري ولكل الشعوب. وكانت الرواقية الفينيقية ــ الاغريقية بمثابة نظام ثقافي شبه متكامل مناقض للقوانين والاخلاق و"الثقافة!" الرومانية السائدة، بما فيها "الثقافة!؟" العنصرية اليهودية السائدة بين العبرانيين. ولكن في الوقت ذاته الذي تتضمن فيه السبعينية الدعوة الحمورابية "لا تقتل" نجد في "السبعينية" ذاتها "يهوه" (اله العبرانيين ــ اليهود القتلة) يدعو اتباعه من العبرانيين ــ اليهود الى الإبادة الكاملة للكنعانيين وجميع الفلسطينيين، والاستيلاء على اراضيهم، وإعلان هؤلاء القتلة ــ السفاحين الذين سبقوا هتلر بآلاف السنين، بأنهم فوق كل البشر وانهم "شعب الله المختار".
ومثل آخر: ان شريعة حمورابي (وتحت عنوان "الوصايا العشر" لموسى التوراتي في السبعينية) تحرم الزنى. وفي الوقت ذاته فإن "السبعينية" تبرر الزنى وتضفي عليه طابعا نبويا ــ مقدسا، إذ تفيدنا (السبعينية) ان بنات "النبي" التوراتي نوح قد أسكرن أباهن وضاجعنه الواحدة بعد الاخرى حتى تحبل وتحفظ له نسله "الطاهر جدا!". كما تفيدنا بأن النبي التوراتي أبرام (ابرهيم) غادر ارض كنعان (فلسطين وسوريا الطبيعية) بسبب القحط؛ وحينما أوشك على دخول مصر مع زوجته الجميلة ساراي التوراتية (او سارة، على اسم "اللعوب الشريفة" زوجة السفاح نتنياهو الذي قدمها مؤخرا لدونالد ترامب من اجل تمتين العلاقة مع "شعب الله المختار")، طلب منها ان لا تقول انها زوجته "حتى لا يقتلونني بسببك!"، بل ان تقول انها اخته حتى "يستفيد منها". وهكذا اخذت ساراي (سارة) التوراتية تتقلب من فراش الى فراش لدى اغنياء مصر الى ان وصلت الى حظيرة حريم فرعون ذاته. وبنتيجة هذه المجهودات "اليهودية الصميم" لساراي خرجت هي وزوجها المحترم أبرام التوراتي من مصر بثروة طائلة، كان منها جارية باسم هاجر. (ومن هنا جاءت تسمية اليهود: ابناء الست(اي ساراي او سارة)، والعرب بأبناء الجارية (اي هاجر!).
وفيما بعد، فإن هيروديا اليهودية عشيقة هيرودوس حاكم فلسطين الروماني، حينما تقدم بها السن، واصبح هيرودوس يمل منها، دفعت الى فراشه ابنتها الفتية سالومي، التي طلبت منه رأس يوحنا المعمدان كمكافأة لها على مضاجعتها. فمن اين لهذه الفتاة اليهودية الصغيرة الجاهلة ان تعرف عن يوحنا المعمدان، وان تكن له الحقد المميت، وتطلب قطع رأسه، لو لم يكن هناك من اوحى لها بهذه الفكرة، او فرضها فرضا عليها؟!
وفي أيامنا الراهنة فإن السيدة تسيبي ليفني، "سيندريلا الموساد" ووزيرة خارجية إسرائيل سابقا واحدى ابرز الشخصيات السياسية الإسرائيلية، والتي تتمتع بقسط من الجمال والجاذبية، وخلال احدى زياراتها "للصداقة" مع قطر، قام بعض الاعلاميين الخبثاء بالغمز من قناتها، وسئلت عما تفعله في قصور الامراء القطريين، وغيرهم من الشخصيات الفلسطينية والعربية، فصرحت انها "مستعدة ان تفعل أي شيء لاجل خدمة إسرائيل". وطبعا مفهوم ما هو "الأي شيء".
وهذا كله يدل على التناقض، الموجود في التوراة "السبعينية"، بين تحريم الزنى وبين اباحته وشرعنته وتقديسه، وهو يقودنا الى وجود "ثقافة!" دينية "يهودية خالصة" هي اصل "ثقافة!" "جهاد النكاح" لـمجاهدي "داعش" و"النصرة" ومن لف لفهما، الذين يختزلون المرأة في عضوها الانثوي، وكانوا يتناوبون على نكاح المرأة المسبية المسكينة (الايزيدية او المسيحية او غيرها) التي تقع ضحيتهم، و"يبيعونها" بعشرة دولارات للدخلة، ويستمرون في "جهادهم النكاحي" معها حتى تموت المرأة المسكينة بين ارجلهم.
تداخل "المسيحيين" واليهود
6ــ ان هذا التداخل الثقافي في الترجمة "السبعينية" للتوراة، المعترف بها من قبل الكنيسة، يكشف لنا ما هو اخطر من ذلك، وهو انه كان يوجد "تداخل" بشري وتنظيمي أيضا. أي تداخل بين الجماعتين اللتين كانتا تؤمنان بمجيء المسيح وهما:
المسيح "المسيحي"
أولا ــ الجماعة الاوسع التي كانت تؤمن بمجيء المسيح ــ المخلص لكل البشر، الذي يدعو الى تحرير العبيد ورفع الظلم عن المعذبين في الأرض، ونشر المحبة والتسامح والسلام بين البشر، وإزالة النزاعات الاتنية والقومية والدينية على قاعدة "احبوا اعداءكم". وكانت هذه الجماعة تضم أناسا من كل الاتنيات القديمة في سوريا الطبيعية والعراق وايران ومصر وافريقيا الشمالية والقوقاز والبلقان وحتى نخبة من المثقفين من روما ذاتها. كما كانت تضم جزءا من العبرانيين ــ اليهود "المنشقين" (ومنهم يوحنا المعمدان وانصاره، والسيد المسيح وتلامذته والمؤمنون به).
المسيح "اليهودي = المعادي للمسيحية"
وثانيا ــ جماعة ضيقة ومنغلقة على نفسها، من العبرانيين اليهود، الذين كانوا يؤمنون بمجيء مسيح عبراني ــ ملك عظيم وجبار، من نسل داود، يزيح الامبراطور الروماني عن عرشه ويجلس مكانه، ويزيح الرومان عن السيادة على العالم ويضع مكانهم العبرانيين ــ اليهود بوصفهم "شعب الله المختار". وأول عمل كان يتوجب على "شعب الله المختار" هذا ان يقوم به هو إبادة الفلسطينيين والكنعانيين إبادة تامة، لانهم منبع فكرة المسيح "المسيحي = غير اليهودي" ــ مخلص شعوب العالم، وينبغي لابادتهم ان تكون عبرة وانذارا لجميع شعوب العالم بأن كل شعب يحذو حذو يوحنا المعمدان و"المسيح اللايهودي" سيكون مصيره كمصير الفلسطينيين وجميع الكنعانيين (الاراميين و"الفينيقيين" الخ).
ان الامر الذي فسح المجال للتداخل بين هاتين الجماعتين هو الايمان الغائم بمجيء المسيح، حيث كانت الفكرة في بدايات ظهورها ضبابية، وكان بالإمكان لقطّاعي الطرق اليهود ــ العبرانيين تضليل "المسيحيين" الصادقين بأنهم هم أيضا ــ اي اليهود الانذال ــ "مسيحيون" اي ينتظرون مجيء السيد المسيح.
ولادة المسيح "المسيحي" فضحت "اليهود"
ولكن لدى ولادة السيد المسيح ادرك زعماء اليهود ان المولود ليس هو المسيح ــ الملك "اليهودي" الذي ينتظرونه، بل هو المسيح "الآخر" او المسيح "المسيحي". فوقع فورا الفرز الحاد بين الجماعتين، وانحاز اليهود ــ العبرانيون فورا الى الرومان (والأرجح ان يهوذا الاسخريوطي، الذي باع السيد المسيح بـ"ثلاثين من الفضة"، كان واحدا منهم ومدسوسا على تلامذة المسيح). وقام "اليهود" بتحريض الحاكم الروماني هيرودوس على قتل أطفال بيت لحم من سنتين فما دون لكي يتوصلوا الى قتل المسيح المولود. ثم قاموا بتحريض سالومي ابنة هيروديا لطلب قطع رأس يوحنا المعمدان، الذي كان قد خرج على روما واليهودية، وعمّد المسيح. ثم ألقوا القبض على المسيح وحكموا عليه دينيا بالموت وسلّموه الى الرومان كي يصلبوه.
انتشار "المسيحية" لدى الشعوب "العربية" القديمة
7ــ وفيما كان اليهود والرومان منشغلين بمداهمة بيوت سكان بيت لحم وعموم فلسطين ومحيطها، وقتل جميع الأطفال بعمر سنتين فما دون، مفترضين ان كل هؤلاء الناس هم "مسيحيون"، وكل مولود يمكن ان يكون هو يسوع الطفل، في هذا الوقت فإن العائلة المقدسة (القديس يوسف ومريم العذراء ويسوع الطفل، ومعهم امرأة عجوز صديقة للعائلة اسمها سالومي) كانت تفر من بيت لحم الى مصر، عبر صحراء النقب وغزة وسيناء. وكانت العذراء مريم راكبة على حمار وتحمل يسوع بين يديها، والقديس يوسف يقود الحمار، وسالومي العجوز تجرجر قدميها خلفهم. وتقول بعض المصادر القبطية ان العائلة المقدسة "سارت من بيت لحم الى غزة حتى محمية الزرانيق (الفلوسيات) غرب العريش بـ37 كلم، ودخلت مصر عن طريق صحراء سيناء من الناحية الشمالية من جهه الفرما (بلوزيوم) الواقعة بين مدينتي العريش وبور سعيد. ودخلت العائلة المقدسة مدينة تل بسطا (بسطة) بالقرب من مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية وتبعد عن مدينة القاهرة بحوالى 100 كلم من الشمال الشرقي". وعلى امتداد هذه الطريق الطويلة كانت العائلة المقدسة، في غفلة عن الرومان واليهود الذين يطاردون اي عائلة لديها طفل ليقتلوه، تأوي عند اناس بسطاء كانوا يؤمنون بمجيء المسيح ويخاطرون بحياتهم لاجل ايمانهم. وعن هؤلاء الناس يقول المسيح فيما بعد حسب الاناجيل: "كنت جائعا فأطعمتموني، عطشا فسقيتموني، عاريا فكسيتموني، غريبا فآويتموني!". وفي مصر كانت العائلة المقدسة تتنقل بين مختلف المدن ولا تقيم في مكان واحد لمدة طويلة حتى لا ينكشف امرها للرومان واليهود. وفي كل مكان قيل ان العائلة المقدسة اقامت فيه في مصر تم بناء كنيسة للتبرك والتكريم. وهذا ما يفسر الانتشار الواسع للكنائس القديمة على الاراضي المصرية.
ان السكان في المناطق التي مرت فيها العائلة المقدسة، واختبأت عندهم، من بيت لحم حتى غزة وسيناء ومصر، لم يكونوا اغنياء يقطنون المساكن الكبيرة والقصور التي يمكن بسهولة ان تؤوي 4 اشخاص (احدهم طفل) وحمارهم. بل كانت بيوتا متواضعة جدا (في الاغلب اكواخا وخيما) لبدو وصيادي سمك ومزارعين وحرفيين فقراء جدا، ولا يمكن لاي منهم، بصورة فردية وعشوائية، ان يعرض حياته وحياة عائلته للخطر وان يؤوي ويطعم ويخفي ثلاثة اشخاص وطفل وحمارهم، فارين من وجه الرومان واليهود. وهذا يعني ان جميع هؤلاء السكان او غالبيتهم الساحقة كانوا متعاطفين مع العائلة المقدسة ومعادين للرومان واليهود، الى درجة الاستعداد للتضحية بانفسهم، وكانوا بالتالي يتعاونون، بشكل "منظم"، لايواء واخفاء واطعام العائلة المقدسة. وهذا يقودنا الى استنتاج عام منطقي وتاريخي، (ربما لا يعجب البعض ــ وهذه مشكلتهم)، وهو ان جميع او على الأقل غالبية سكان المناطق التي مرت بها واقامت فيها العائلة المقدسة، كانوا "مسيحيين" قدماء، اي منتمين او انصارا للتنظيمات ("الاخويات") "المسيحية"، او متعاطفين جذريا معها، لدى ولادة السيد المسيح وقبل ثلاثة عقود من بدئه التبشير برسالته.
طبيعة المسيح
ان التأريخ الكنسي يعترف صراحة بأنه في القرون الأولى بعد ولادة المسيح ونشر رسالته وحمل المسيحية اسمه تحديدا، كان هناك نقاش واسع حول طبيعة السيد المسيح. وهناك الكثير من اسفار العهد القديم والعديد من الاناجيل التي كتبت في القرون الأولى بعد ميلاد السيد المسيح تعتبر: ابوكريفا، أي "محرفة" او "مشكوك بها" او "سرية مشفّرة" وغير معترف بها رسميا من قبل المؤسسة الكنسية.
وكانت احدى اهم نقاط الاختلاف هي طبيعة السيد المسيح:
ـــ هل هو ذو طبيعة واحدة: إلهية؟
ـــ ام هو ذو طبيعة واحدة: انسانية؟
ـــ هل هو "إله" او "الإله" وقد تأنسن، او تجسد في انسان؟
ـــ ام هو انسان تأله، او تسامى(sublimate) الى "إله" او "الإله"؟
وبعد ميلاد السيد المسيح كان هناك نقاش، بل وصراع، بين المسيحيين حول طبيعة السيد المسيح؛ الى ان انعقد مجمع خلقيدونية (في 451م) الذي أقر مبدأ "الطبيعتين" (الإلهية والإنسانية) للمسيح، وهو ما وافقت عليه الكنيستان الرومانية والبيزنطية وعارضته الكنائس الشرقية (القبطية والارمنية والسريانية).
واذا عدنا الى الاناجيل المعتمدة من قبل الكنيسة نجد انها تقر بالتعريف المزدوج: الإلهي والإنساني، للسيد المسيح. ومن الدلائل على ذلك انه حينما كان السيد المسيح يصلي صلاته الأخيرة في بستان الزيتون قبل اعتقاله وتسليمه للموت، عبّر عن خوفه (الانساني) مما سيحصل له على ايدي اليهود والرومان وقال في نهاية صلاته: "إلهي، إلهي، أبعد عني هذه الكأس". اي ان المسيح خاطب "الإله" بصفة كونه هو نفسه (السيد المسيح) "انسانا".
كما انه وفيما كان السيد المسيح في النزع الأخير على الصليب، شعر الجندي الروماني بالنعاس، ورغب في الانصراف، ولكنه كان ممنوعا عليه ان يغادر قبل ان يتأكد من موت المصلوب، فقام بطعن السيد المسيح بحربته ليرى اذا كان لا يزال ينزف (ما يدل انه لا يزال حيا) ام لا. حينئذ "طفح الكيل" لدى المسيح ـ الانسان فهتف قائلا بالآرامية : "إيلي، إيلي، لِـمَ شبقتني؟" (أي: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟"). وهنا ايضا يتكلم المسيح ـ الانسان (الارامي، او ذو الثقافة الارامية ـ الهيلينية) شاكيا من "سلبية" "إلهه". ولا تزال غالبية المؤمنين حتى يومنا هذا، حينما يقف احدنا مذهولا وعاجزا امام المظالم التي لا تطاق يهتف "وينك يا الله؟" (اي: اين انت يا الله!؟).
الوجه اللاهوتي ــ الإنساني للسيد المسيح
ان الكنيسة الرسمية ورجال اللاهوت الاجلاء، حتى وهم يقولون بالطبيعتين (الإلهية والإنسانية) للسيد المسيح، يغلِّبون طبيعته الإلهية على طبيعته الإنسانية، بحيث تبدو قصة عذاباته وصلبه وموته كقصة "شبحية" او "خيالية" (اشبه شيء بالسينما التي تعرض لنا "خيالات" الواقع، وليس الواقع الحي بذاته)، وان هذه "القصة الشبحية" انما أرادها "الله" (المسيح ـ الاله) لنفسه، من اجل انقاذ البشر من "الخطيئة". لأن هؤلاء البشر، جميع البشر، هم خطاة وموصومون منذ ولادتهم بما تسميه الكنيسة "الخطيئة الاصلية". ومن ثم فإن عذابات المسيح هي عذابات "شبحية" و"خيالية". وهذا ما يجعلنا نرى المسيحيين، في عيد الفصح (العيد الكبير) لا يتوقفون كثيرا عند مدلولات اعتقال المسيح ومحاكمته واهانته وتعذيبه وصلبه، بل ينصب جل اهتمامهم على الجانب الاحتفالي في "قيامة المسيح من بين الأموات".
ومع ان صيحة السيد المسيح الأخيرة على الصليب تضع علامة استفهام على هذا التفسير "الشبحي" و"الظلي" او "الخيالي" لحياة وعذابات وموت السيد المسيح وقيامته، فإنه لا يسعنا الا ان نأخذ بالاعتبار وجهة النظر الكنسية ــ اللاهوتية. وبهذه المناسبة نشكر الله انه ــ في هذا الزمن الرديء الذي تسير فيه الرأسمالية بالمجتمع البشري من الانحطاط الى المزيد من الانحطاط ــ لا يزال يوجد لاهوتيون (رجالا ونساء) يهتمون باللاهوتيات والأخلاق والعلاقات الإنسانية بين البشر.
الوجه الاجتماعي ــ التاريخي للمسيحية
ولكن أيا كانت طبيعة السيد المسيح فإن الفكرة السائدة بأن المسيحية ولدت مع ظهور رسالة المسيح هي فكرة خاطئة لاتاريخية كما اسلفنا.
وفي رأينا المتواضع، ومن خلال الوقائع التي ذكرناها آنفا، فإن المسيحية هي:
أولا ــ ان ظاهرة "المسيحية" هي في الأصل حركة اجتماعية ــ قومية ظهرت بدايةً في الشرق قبل ميلاد السيد المسيح بعدة مئات السنين، واتخذت فيما بعد طابعا دينيا. وقد انتسب السيد المسيح نفسه الى هذه الحركة بمعموديته على يد يوحنا المعمدان.
وثانيا ــ ان الديانة المسيحية المرتبطة باسم السيد المسيح (يسوع الناصري، او عيسى بن مريم) ولدت في رحم "المسيحية" التاريخية القديمة، وشكلت حالة تصعيد او تسامٍ (sublimation) ديني فيها، في مواجهة اليهودية (المسيحية الكاذبة، التي شكلت حالة انحطاط اخلاقي وانساني Moral and human degeneration) والديانة الرومانية (القائمة على تأليه القيصر).
واذا كنا نحن ننظر باحترام الى وجهة النظر اللاهوتية لظهور المسيحية، التي تقول بها الكنيسة، بالرغم من اعتقادنا بأنها وجهة نظر لاواقعية، لاتاريخية ـ لااجتماعية (خارجة عن الزمان والمكان)، فإن من حقنا ان نطلب من الكنيسة ان تنظر أيضا باحترام لوجهة النظر الناسوتية ــ السوسيولوجية ــ التاريخية الواقعية لظهور المسيحية، لا سيما وان الكنيسة ذاتها تعترف بالطبيعة الناسوتية للسيد المسيح، جنبا الى جنب طبيعته الإلهية.
اننا نتفهم تماما تأكيد الكنيسة، ولا سيما الكنيسة الغربية، الرومانية، ثم البيزنطية، على ألوهية السيد المسيح، من اجل تعظيمه امام جميع الأديان والسلطات الأخرى، وأخيرا من اجل التوصل الى تبرير "أعلوية" و"معصومية" بطريرك روما او البابا، الذي اكتسب صفة "ملك ملوك" أوروبا، لكونه "خليفة" المسيح ــ "الاله الابن المساوي للاله ــ الاب في الجوهر".
ولكن ناسوتية السيد المسيح تقتضي دراسة نشوء ومسيرة المسيحية في سياقها التاريخي ــ السوسيولوجي، لاجل فهم التاريخ عامة، وفهم المسيحية خاصة، بشكل افضل، غير مشوه، ومتكامل. وهذا ما يتطلب وقفة موضوعية خاصة من قبل جميع المسيحيين الصادقين.