أيلول، 2013
1. مقدمة
حتى عندما كانت تجري كتابة هذه الورقة وتحريرها، كانت العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا قد تحسنت وبردت. أما اليوم، ونحن على وشك الذهاب باتجاه حالة من الضغط، فتتميز العلاقات بفترة فاترة بشكل خاص في التاريخ الحديث، مع إلغاء القمة المقررة في موسكو في شهر أيلول/ سبتمبر 2013. بالنسبة للبعض، هذه موجة برد قد تكون مؤشراً على لحظة غير ملائمة للنظر في القضايا المتعلقة بتجاوز الردع المتبادل. إن مثل هذه النظرة تغفل أهداف هذه الورقة، التي تحاول تقييم مصالح الولايات المتحدة وروسيا المركزية والدائمة، وإلى أي مدى تتطابق أو تتباين، وعما إذا كان ينبغي أن يظل الردع المتبادل، في ضوء هذه المصالح، سمة أساسية في هذه العلاقة. ويستند التحليل مع التوصيات المقدمة أدناه إلى رؤية على المدى الطويل. إن التغييرات العابرة والحتمية في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا لا يمكن أن تخالف هذه الرؤية. في الواقع، وفي لحظات الإحباط المؤقتة أو الانتشاء من الأهم التفكير بشكل استراتيجي بشأن المصالح الوطنية المركزية والثابتة والتفكير بأفضل السبل لتأمينها وضمانها.
2. الردع النووي الأميركي ـ الروسي اليوم
أ. استمرار الردع
لم تعد روسيا والولايات المتحدة عدوتين مهلكتين مع نهاية الاتحاد السوفياتي في كانون أول/ ديسمبر 1991. مع ذلك، تستمر العلاقة المبنية على التهديد المستمر بالفناء النووي المتبادل. ويؤكد " تقرير مراجعة الوضع النووي الأميركي" لعام 2010 (Nuclear Posture Review Report ) على أن " القوة النووية الروسية ستظل عاملاً هاماً في تحديد مقدار ومدى السرعة التي نحن جاهزون بها للحد من السلاح النووي الأميركي". وكان بيان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل انتخابات 2012 واضحاً، حيث قال بأنه يعتبر القوة النووية الروسية القوية ضرورية في المقام الأول لردع الولايات المتحدة. ومن غير الواضح بشكل مباشر سبب استمرار كل من الجانبين بالتركيز على السلاح النووي للجانب الآخر. إن الأسباب التاريخية للحرب- وبالتالي الحاجة المتصورة لردعها ـ تُصنف عموماً في ثلاث فئات واسعة: النزاعات الإقليمية، التنافس على الموارد، والإيديولوجيات المتعارضة (بما في ذلك الدين). وكل سبب من أسباب هذه النزاعات غائب في العلاقة الأميركية ـ الروسية المعاصرة.
ليس لدى روسيا والولايات المتحدة حدود برية مشتركة وليس لديهما مطالب إقليمية الواحدة ضد الأخرى . وعلى الرغم من أن لدى اليابان واستونيا، الحليفين الأميركيين، نزاعات حدودية مع روسيا، فمن غير المرجح أن تؤدي هذه النزاعات إلى صراع. وفي حين أن صراع روسيا وجورجيا عام 2008 قد أدى إلى توتر العلاقات أكثر بين واشنطن وموسكو، فمن غير المتصور ان يكون الردع النووي بين الولايات المتحدة وروسيا متناسباً مع المخاطر المنطوية ( الكبيرة بالقدر الذي قد تكون عليه بالنسبة لشعوب المنطقة ).
إن مصالح البلدين في الموارد الطبيعية غير تنافسية أيضاً، والى حد كبير. فبالمصطلحات العامة، روسيا هي البائع والولايات المتحدة هي المشتري للموارد الطبيعية. وإن أي مساهمة روسية في أسواق الطاقة العالمية، على سبيل المثال، تؤدي إلى انخفاض الأسعار، وبالتالي ينبغي للولايات المتحدة تأييد تطوير موارد موسكو. مع ذلك، إن انعدام الثقة بشأن الموارد الطبيعية لا يزال قائماً. ففي عام 2007، علق الرئيس بوتين بقوله إن الرغبة الأميركية بالموارد الطبيعية في روسيا استلزمت التحديث النووي. ومن غير المتصور أن تسفر الحرب مع روسيا عن امكانية وصول أرخص إلى الموارد الطبيعية من مجرد شرائها. فضلاً عن ذلك، إن القيمة الاستراتيجية والاقتصادية للغاز الطبيعي في روسيا ـ المورد الطبيعي الأكثر وفرة لديها ـ قد تدنى في الآونة الأخيرة منذ أن اكتشفت الولايات المتحدة كيفية استغلال ودائع الغاز الصخري (الطفل الصخري)، والذي قد يحوِّل الولايات المتحدة قريباً إلى مصدِّر للغاز الطبيعي، مثل روسيا .
لقد هيمن الصراع حول الأيديولوجية ذات مرة على العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. أما اليوم، فأمور كثيرة قد تغيرت. فالشيوعية السوفياتية لم تعد المحرك للسياسة الروسية. وفي حين أن روسيا والولايات المتحدة تختلفان في كثير من الأحيان حول مسائل السياسة الخارجية، فإن عمق ونتائج هذه الخلافات أقل بكثير من تلك التي كانت خلال الحرب الباردة. فلا روسيا ولا الولايات المتحدة تهيمن عليهما أيديولوجية تسعى إلى تدمير الآخر. ومن المؤكد أن روسيا والولايات المتحدة تحتلان مناطق مختلفة في مؤشرات الحرية الاقتصادية أو السياسية، ولكن هذه الاختلافات ليست السبب الأصيل للعلاقة التي يهيمن عليها الردع.
فضلاً عن ذلك، هناك مجالات واسعة من المصالح والتوافق الأميركي ـ الروسي المشترك. فلدى كلا البلدين مصلحة في توسيع التجارة، وقد عملا معا لتحقيق انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية. وقد عملت الولايات المتحدة وروسيا معاً بشكل جيد لتعزيز الأمن النووي ومنع الإرهاب النووي . ويؤيد كلا البلدين نتيجة مستقرة في أفغانستان من شأنها أن تخلف حكومة في كابول مستعدة وقادرة على قمع تنظيم القاعدة وحركة طالبان، وقد تعاون البلدان لتحقيق هذه الغاية، كما تعاونا، وعلى نطاق واسع، في مجال استكشاف الفضاء، وذلك لصالح البلدين؛ بل وتعتمد الولايات المتحدة الآن على روسيا لأجل صعود رواد الفضاء إلى الفضاء. وتسعى موسكو وواشنطن، على حد سواء، إلى الحد من تجارة المخدرات الدولية.
رغم أن الردع المتبادل لا يزال قائماً اليوم لأنه لم يتم الشفاء بعد من ندوب الحرب الباردة ـ الشك وعدم الثقة ـ فإن الزخم المؤسسي في مؤسسات الأسلحة النووية لدى الجانبين كبير، كما أن العلاقة الثنائية معقدة بسبب الجمود والعزوف عن المخاطر بما يتعلق بالعقائد والمفاهيم الجديدة للأمن.
إن استمرار علاقة مبنية في جزء منها على محافظة البلدين على التهديد النووي لتدمير الآخر تعتبر علاقة متناقضة في عالم اليوم. فالسبب المباشر لإنشاء هذه الأسلحة النووية لم يعد حاصلاً. مع ذلك، فإن إطار الردع المتبادل لا يزال غالباً على العلاقة الأميركية- الروسية.
مع تعمق هذا الوضع المتناقض، فإن التوازن العسكري التقليدي بين البلدين أكثر استقرارا بكثير مما كان عليه خلال الحرب الباردة. فقد تمركزت قوات حلف وارسو وحلف الناتو ذات مرة، وتدربت، وتجهزت للقيام بحرب واسعة النطاق الواحدة ضد الأخرى في وقت قصير؛ والحال لم يعد كذلك الآن. فلا الناتو ولا روسيا لديهما القدرة الآن على استعراض القوة والسيطرة على أراض في القارة الأوروبية بمرور الوقت في مواجهة معارضة حازمة ومصممة .
لقد أنهت الولايات المتحدة مؤخراً، صاحبة الـ 75 في المئة من الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو، 69 عاماً من ارتكاز الدبابات القتالية الرئيسة في أوروبا، وذلك بإزالة تشكيلاتها المدرعة الأخيرة في مارس/ آذار 2013.
وفي حين أن بالامكان، من الناحية النظرية، إعادة القوات الامريكية المتمركزة في مكان آخر إلى أوروبا، لم تظهر واشنطن ميلاً كبيراً للقيام بذلك، ولم يبد حلفاء الناتو اهتماماً بدعم مثل هذه التحرك، كما أعلن البنتاغون بدلاً من ذلك عن " محور نحو آسيا". وتخطط بريطانيا لخفض جيشها بنسبة 20 في المئة، ليصل عديده إلى مستوى 80000 من الأفراد النظاميين، وهو عدد ليس أكبر بكثير من قوة شرطة موسكو. ولدى البحرية الملكية 28 ضابط برتبة أدميرال، لكنها لا تملك سوى 22 سفينة كبيرة فقط. وتخطط برلين لخفض الإنفاق الدفاعي الألماني بنسبة 25 في المئة على مدى السنوات الأربع القادمة. أما الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند فقد وعد بالتحول من الدفاع إلى الأولويات المدنية. وفي العام الماضي، نشرت صحيفة لوموند على صفحتها الاولى عنواناً رئيساً تزعم فيه أن "فرنسا لم يعد لديها الوسائل العسكرية التي تطابق طموحاتها السياسية"، وواجه أدميرال فرنسي التوبيخ بسبب تحذيره من أن حاملة الطائرات الوحيدة في البلاد سوف تكون خارج الخدمة في عام 2012 اذا لم يتم تقليص عملياتها في ليبيا وابحارها بسرعة الى الوطن للصيانة. وفي حين أن لدى تركيا واليونان أعداداً كبيرة من الدبابات، فإن معظمها زائل، حيث إن غالبيتها تعود بتاريخها إلى الستينات - وحيث إن الدافع لوجودها، بالتأكيد، مهمات أخرى في المقام الأول وليس من بينها الهجوم على روسيا أو حلفائها. كما أن حلف شمال الاطلسي ( الناتو) ليس تحالفاً مستعداً أو معداً للقيام بهجوم بري واسع النطاق في أوروبا.
وبالمثل، إن قدرة روسيا على استعراض قوتها غرباً قد تضاءلت إلى حد كبير منذ ذروة الحرب الباردة. لقد كانت "مجموعة القوات السوفيتية في ألمانيا" تتألف ذات مرة من 24 فرقة، وأكثر من 4000 دبابة. أما المعهد الدولي لبحوث السلام في ستوكهولم والمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية فيقدران ميزانية الدفاع لروسيا في المنطقة بـ 60 مليار دولار، أي نحو 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة ضئيلة من ميزانية الدفاع الاميركية. وفي حين تحتفظ روسيا بوجودها العسكري في بعض دول الاتحاد السوفياتي السابق، فإن هذه الدول ليست كلها قادرة على استعراض القوة. وقد كُلف بعضها بصيانة وتشغيل رادارات الإنذار المبكر للصواريخ الباليستية، وتفتقر دول أخرى للقدرات الجوية.
حققت روسيا أهدافها بسرعة نسبياً في حرب آب/ أغسطس عام 2008 مع جورجيا، إلا أن هذا الصراع كشف نقاط الضعف أيضاً التي نوقشت علنا في موسكو، بما في ذلك الأسلحة الزائلة والعتاد، الاخفاقات في هيكلية القيادة والسيطرة والتنسيق بين الأجهزة، والانهيارات في الاستخبارات. وكانت كل هذه الأمور لتكون أكثر خطورة ضد خصم أكثر قدرة من الجيش الجورجي. فالفشل في قمع الدفاعات الجوية المتواضعة لجورجيا ـ الذي أسفر عن إسقاط طائرة قاذفة من نوع توبوليف 22M3 - وعدم القدرة على إدماج العمليات القتالية الجوية والبرية كان ليشكل مشكلة كبيرة بالنسبة للقوات الروسية لو أنها واجهت خصماً أكثر مساواة لها.
وهكذا، وفي حين أن لدى روسيا القدرة على إبراز القوة ضد جيرانها الضعفاء، فإنها لا تشكل تهديداً خطيراً تقليدياً لمنظمة حلف شمال الأطلسي، تماماً كما أن حلف شمال الاطلسي اليوم لا يشكل تهديداً تقليدياً خطيراً لروسيا.
3. لماذا استمر الردع؟
إذن ما الذي يسبب استمرار الردع ؟ فكما هو منتظر في العلاقات المعقدة بين الدول الكبرى، من المرجح أن تكون الجذور اتاريخية ومتعددة الأوجه، على حد سواء.
أ. الخلافات حول القضايا الإقليمية والدولية
أولاً، لا تزال هناك خلافات حقيقية في وجهات النظر والمصالح بين الولايات المتحدة وروسيا. هذه الخلافات لها صلة بالمناطق القريبة من روسيا، كما لها صلة بإمكانية وكيفية وجوب مواجهة المجتمع الدولي للتحديات التي تفرضها الأحداث في دول مثل ليبيا، سوريا، وإيران. وأكدت موسكو، ورفضت واشنطن، المطالبة بنطاق نفوذ روسي متميز بخصوص قضايا اقليمية. إن هدف روسيا احاطة نفسها بدول صديقة تهيمن عليها جزئياً سوف يبدو متضارباً مع السياسات الأميركية الساعية لتعزيز الديمقراطية، السيادة والاستقلال في تلك الدول. وتعتبر روسيا هذا الأمر " تطويقاً "، وترى فيه الولايات المتحدة – المسكونة بهاجس " شبح يالطا "، زحفاً لإعادة تأسيس الإمبراطورية الروسية.
بدأت هذه الخلافات بعد وقت قصير من انهيار الاتحاد السوفياتي، مع مجموعة واسعة من القضايا في العلاقات بين روسيا وجيرانها من دول الاتحاد السوفياتي السابق. وشرعت روسيا بما اعتبرته عمليات حفظ السلام في مناطق النزاع في الاتحاد السوفياتي السابق، وذلك بالتصرف سواء بنفسها أو من خلال آلية رابطة الدول المستقلة الكومنولث ( CIS). واعتبرت الولايات المتحدة بعض إجراءات موسكو بمثابة جهود ترمي إلى السيطرة على دول الجوار السيادية، الأمر الذي لا يمكن لواشنطن ان تتغاضى عنه ولا أن تشرعنه. بل دعمت الولايات المتحدة مبادئ الديمقراطية وتقرير المصير .
وترى روسيا في السياسة الأميركية محاولة لتشجيع القوى المناهضة لروسيا ( والترويج لـ " الثورات الملونة " ضد الحكومات الموالية لروسيا ) على حدودها. وحتى اليوم ، يقول المحللون الروس إن لدى موسكو مصلحة واهتماماً أقوى في التنمية السلمية للدول المجاورة وسلامة أراضيها من أي بلد آخر، وإن التنمية الاقتصادية لهذه الدول تتطلب تكاملاً أقوى مع روسيا، أكبر اقتصاد في المنطقة .
لذا، يعتقد معظم الخبراء والسياسيين الروس بأن رفض الولايات المتحدة الاعتراف بالحقوق التمييزية لروسيا بالحفاظ على نفوذها في دول الاتحاد السوفياتي السابق رفض غير مبرر ويناقض المصالح الروسية ومصالح الدول المجاورة لروسيا على المدى الطويل.
مع ذلك، إن هذه الصراعات قابلة للذوبان. فمع الإقرار بأن الخلافات حول القضايا الإقليمية تمثل " ألغاماً أرضية " يمكن أن " تنفجر"، فإن دراسة أخيرة أميركية - روسية للتفاصيل ترفض الفرضية القائلة بأن المصالح المختلفة والمتباينة هي مصالح " اساسية وجوهرية، وبالتالي لا يمكن التوفيق فيما بينها ".
بدلاً من ذلك، خلص الباحثون إلى أن " خطورة هذه المسألة في علاقة ثنائية لا يمكن أن تعزى إلى عوامل غير قابلة للتغيير ومتأصلة في أي من البلدين أو في النظام الدولي" .
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن كلا البلدين يتقاسمان مصلحة أسمى في الحفاظ على الاستقرار الشامل في مناطق ما بعد الاتحاد السوفياتي، وفي ضمان ألا تصبح أيا من دول الجوار هذه فاشلة، مع ما ينطوي عليه ذلك من احتمال حصول كوارث إنسانية، تدفق اللاجئين، والإرهاب.
الأهم من ذلك، هو الخلافات بشأن السياسات المتعلقة بأوراسيا، ففي حين أنها خلافات حقيقية وغالباً ما تكون كبيرة وهامة، فإنها لا تؤثر على بقاء البلد سواء بالنسبة للولايات المتحدة أو لروسيا، وبالتالي فإن لها طابعاً مختلفاً كلياً عن الخلافات التي قادت الحرب الباردة، وأدت إلى حالة الردع النووي المتبادل .
أما المجموعة الثانية من الخلافات المتكررة بين الولايات المتحدة وروسيا فلها علاقة بالاستجابة الدولية المناسبة إزاء حقوق الإنسان وهواجس منع الانتشار النووي التي أثارتها الأزمات في الدول. وكانت الولايات المتحدة ترى أن روسيا تحاول إبطاء ومنع أو تخفيف العمل الدولي للتصدي لهذه الأزمات؛ ورأت روسيا أن الولايات المتحدة تسعى إلى استخدام قوتها لفرض عقوبات أو الإطاحة بحكومات أجنبية وبسط نفوذها، وغالبا على حساب حلفاء روسيا وأصدقائها. ولهذه القضايا نتائج كبيرة. فعلى سبيل المثال، وسواء حققت إيران قدرات السلاح النووي أم لا فسوف يكون لها تأثير عميق على أمن الولايات المتحدة، وروسيا، والأمن الدولي. لكن من المستحيل أن نتخيل هذه القضايا ترتفع إلى مستوى يستدعي استخدام السلاح النووي الأميركي والروسي.
في كل الأحوال، يرى العديد من الخبراء الروس أن صداما دولياً أوسع مع الولايات المتحدة يبرر استمرار الاعتماد على الردع النووي. وهم يعتقدون بأنه من دون رصيد السلاح النووي الروسي، فإن الولايات المتحدة سوف تستغل قوتها العسكرية والاقتصادية للهيمنة على الشؤون العالمية وأن تحقيق ذلك من شأنه أن يقوض مصالح روسيا. وأعرب بعض المحللين حتى عن القلق من أن تدخلاً عسكرياً بقيادة الولايات المتحدة من النوع الذي شوهد في العراق أو ليبيا يمكن أن يشكل تهديداً لروسيا نفسها. هذا الاعتقاد بخصوص اشتباك دولي أوسع نطاقاً يستند إلى فرضية نظرية، ولكنه يبرز أيضاً رداً على إجراءات وسياسات أميركية معينة منذ عام 1991 .
إن الفرضية النظرية الروسية هي أن الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة التي تهيمن على الساحة الدولية اقتصادياً وعسكرياً، وأن ما يسيِّر السياسة الأميركية، والى حد كبير، هو جهد الحفاظ على هذا الموقع لها. ويزعم هؤلاء المحللون أن هدف الهيمنة هذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تأمين وتوسيع منطقة النفوذ، والحد من التنمية في البلدان الأخرى التي هي دول منافسة محتملة، والتشجيع على تغيير النظام في البلدان بسياسات أميركية.
يستشهد الروس بسياسات الولايات المتحدة كدليل على هذا الرأي. فعلى سبيل المثال، بدأت الولايات المتحدة بعملية توسيع حلف شمال الاطلسي الى الشرق بعد انسحاب القوات الروسية من شرق أوروبا والشروع في "الشراكة من أجل السلام" (PfP). وخلافا لفهم موسكو لالتزام شفهي بعدم توسيع حدود حلف الناتو باتجاه روسيا، لم يقبل الحلف جميع بلدان أوروبا الشرقية فحسب، وإنما قبل أيضاً بعض الدول التي كانت جمهوريات في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابقة (الاتحاد السوفياتي). وكانت كل من أوكرانيا و جورجيا ناشطتين في هذه العملية قبيل آب/ أغسطس 2008، على الرغم من أن آفاق انضمامهما الى حلف شمال الاطلسي لا تزال غير واضحة. ويعتقد البعض في روسيا بأن الولايات المتحدة تصرفت باعتبارها الفائز في الحرب الباردة، وقامت بالاستيلاء على عجل على المساحة التي أصبحت خالية من النفوذ السوفياتي، وتهجير روسيا منها رغم أن هذه الأخيرة اختارت سبيل التطور الديمقراطي.
وفي الآونة الأخيرة يرى بعض المحللين الروس غزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 والاطاحة بحكومة القذافي في ليبيا دليلاً إضافياً على جهد الولايات المتحدة لتعزيز قوتها ونفوذها تؤثر في جميع أنحاء العالم.
ورغم أن هذه المخاوف الروسية صادقة، فإن من الضروري وضعها في نصابها. وقد عدد السناتور الاميركي السابق بيل برادلي مجدداً ما يعتقد أنه أصل سوء الفهم بين وزير الخارجية الأميركية جيمس بيكر والرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف. وبعدما تحدث مع بعض المشاركين، يقول برادلي بأن بيكر ملتزم بعدم تحريك قوات حلف شمال الاطلسي باتجاه شرق ألمانيا، إذا ما سمح باعادة التوحيد، لكنه لم يقل شيئا عن الدول الأخرى.
أما غورباتشوف نفسه فقد أدرك في أيار/ مايو 1990، عندما وافق على انضمام ألمانيا الموحدة إلى حلف الناتو، أن لا أحد يفكر في مسألة الدول الأخرى في الكتلة السوفياتية السابقة. ووفقاً لغورباتشوف، إن "مجرد التفكير بأن الناتو قد يتوسع ليشمل دولاً في هذا التحالف بدت سخيفة تماماً في ذلك الوقت". وعندما تم التوصل إلى اتفاق، لم يكن الاتحاد السوفياتي ولا حلف وارسو قد حُلا بعد. أما الولايات المتحدة فينبغي لها، عند تشكيل سياستها تجاه روسيا، أن تأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر موسكو بشأن توسيع حلف شمال الاطلسي. في نفس الوقت، ينبغي على موسكو أن تدرك أن منظمة حلف شمال الأطلسي مختلفة إلى حد كبير في طابعها وقدراتها عما كانت عليه في عام 1990، وأن هذا التوسيع لا يمثل أي تهديد عسكري خطير للأراضي الروسية.
وفي حين أن هذه القضايا مهمة، وهي لن تختفي غداً، فإن حجم الخلافات بين الولايات المتحدة وروسيا لا يرقى بالتأكيد إلى أهمية انقسامات الحرب الباردة. عموماً، ليس هناك شك في أن التهديدات الأمنية التي تواجهها روسيا والولايات المتحدة – قلة منها فقط ناشئ من سياسات الواحدة تجاه الأخرى - سوف تتطلب من البلدين، على حد سواء، الحفاظ على قوات عسكرية تقليدية قادرة لسنوات عديدة مقبلة. لكن ليس هناك من احتمال واقعي كبير أن تشكل القوات التقليدية لأي من البلدين تهديداً خطيرا لأراضي الطرف الآخر. إن ردع أي تهديد أميركي لمصالح روسيا، أو أي تهديد روسي لمصالح الولايات المتحدة، لا يحتاج لأن يكون ردعاً نووياً.
ب. العزوف عن المخاطرة والزخم المؤسساتي
هناك مجموعة واسعة ثانية من أسباب استمرار الردع هو العزوف عن المخاطرة والزخم المؤسساتي. ووفقاً لمنطق العزوف عن المخاطرة، حافظ الردع على السلام خلال أيام الحرب الباردة القاتمة. ونظراً لضخامة الرهانات، والشكوك في كيفية تطور العلاقة الأميركية ت الروسية ( من ذا الذي كان يمكنه التنبؤ في عام 1986 بالكيفية التي ستكون عليها العلاقات في عام 1991؟) فإن التمسك بالوضع الراهن يمكن أن يبدو عقلانياً وحكيماً. فضلاً عن ذلك، يتعزز العزوف عن المخاطرة بالغرائز المهنية والعادات الممارسة لدى المخططين العسكريين، الذين يتقاضون رواتبهم للإعداد للأسوأ. وعلى مدى عقود، كان الأميركيون والروس يراقبون بعضهم بعضا بحذر بخصوص مخابئ الصواريخ، وأسطح الغواصات، وغرف التحكم برادارات الإنذار المبكر للصواريخ البالستية. وتحافظ روسيا والولايات المتحدة، على حد سواء، على قدرات أسلحة نووية رهيبة، حتى بعد التخفيضات الكبيرة جداً في ترسانات كلا الدولتين. فمن غير المنطقي ألا تركز سياسة الأمن القومي على أقوى خصم محتمل للدولة .
فضلاً عن ذلك، إن المؤسسات التي أنشئت لبناء الترسانات النووية للحرب الباردة والحفاظ عليها تحمل زخماً كبيراً خاصاً بها. ففي كل من الولايات المتحدة وروسيا، هناك مختبرات، مصانع، ووحدات عسكرية كبيرة تضم عشرات أو مئات الآلاف من الناس وتصرف فيها مليارات أو عشرات المليارات من الدولارات كل عام والمكرسة لبناء وتشغيل وصيانة الأسلحة النووية ووسائل قذفها. هذه المؤسسات لديها مصالحها وأولوياتها الخاصة ومعايير إجراءات التشغيل الموحدة الخاصة بها، وتوفر جزءاً كبيراً من الخبرة التي تستند إليها قرارات السياسة النووية. وكناقلة عملاقة، يتطلب الأمر بعض الوقت لتغيير مسارها.
في الوقت نفسه، لا بد من فهم المخاطر الكبيرة المرتبطة بعدم التغيير. فالبشر والنظم التي يحدثونها غير معصومة عن الخطأ بطبيعتها. فالحفاظ على وضع مستعد صراحة لإطلاق الآلاف من الأسلحة النووية على بعضهما البعض، واحتمال ازهاق مئات الملايين من الأرواح، عندما لا يكون هناك صراع كامن يبرر ذلك، فإن ذلك يعتبر خطراً لا يتناسب، وبعمق، مع القضايا المطروحة.
4. تعزيز تطور ما بعد الردع
إن علاقة الردع النووي المتبادل الاميركي ـ الروسي الحالية تعتمد على المسار. فلو لم يكن الأمر متعلقاً بندوب الحرب الباردة الكبيرة جداً، لكان من غير المحتمل أن يختار أي من البلدين العلاقة القائمة الآن. تلك الندوب لا يمكن تجاهلها. مع ذلك، من الممكن أن ندرك أن علاقة الردع الحالية لا تتناسب مع الخلافات التي لا تزال قائمة بين البلدين، وأن نضع في تصورنا سبل التحرك نحو علاقة استراتيجية مختلفة ووضعية استراتيجية مختلفة.
إن الواقع البسيط بشأن القدرة على إلحاق أضرار جسيمة في بلد آخر ليس كافياً لأجل مطلب الحصول على الردع المتبادل. إذ لدى الولايات المتحدة وفرنسا القدرة على تدمير بعضهما البعض بواسطة الأسلحة النووية، إلا أن أيا من البلدين لا تقلقه كثيراً هذه الحقيقة، أو يبني قواعد التخطيط الدفاعي بناء على ذلك. ففي حين أنهما حليفان، ولديهما العديد من القيم والأهداف المشتركة، فإنها لا يتفقان دائماً، وقد كانت بعض خلافاتهما حادة. مع ذلك، فإن استخدام الأسلحة النووية، أو حتى التلويح بها، بين البلدين أمر لا يمكن تصوره لأن مثل هذا الإجراء سيكون غير متناسب تماماً مع رهانات أي خلاف من الخلافات. فما هي الإجراءات التي قد تدفع بالعلاقة الأميركية ـ الروسية باتجاه مثل هذه الحالة؟
من المثير للاهتمام، أن بعض أقوى الوسائل لتغيير التصورات حول طبيعة العلاقة تكمن خارج النطاق الاستراتيجي. فتحسين التعاون السياسي والاقتصادي، فضلاً عن مزيد من الشفافية في الخطط والعقيدة العسكرية أمر ضروري لتجاوز علاقة مبنية على الردع النووي المتبادل. وفي الوقت نفسه، يتعين على الجانبين التفكير في الكيفية الأفضل للانتقال إلى أوضاع نووية أكثر استقراراً. إذ يمكن أن يساهم كل من زيادة التعاون غير الاستراتيجي وخفض التهديدات النووية مع بعضهما في دورة الحد من التوتر، تماما كما كان اجتماع العداء الإيديولوجي مع الترسانات النووية يزيد التوتر أثناء الحرب الباردة. ونبدأ مع التوصيات التي تركز على التعاون السياسي، الاقتصادي، والاستخبارات، ثم نتحول إلى توصيات بشأن الأوضاع النووية والدفاعات الصاروخية.
أ. توسيع التعاون خارج المجال النووي
• تنسيق سياسي أفضل
يجب على الولايات المتحدة وروسيا توسيع جهودهما لفهم وجهات النظر السياسية لبعضهما البعض، للعمل معاً حيث تتطابق مصالحهما، وإيجاد سبل لتجاوز الخلافات حيث تتضارب.
فعلى وجه الخصوص، يمكن لآليات عقد اجتماعات منتظمة رفيعة المستوى، الإشراف على مجموعة واسعة من التعاون المشترك، ودفع البيروقراطية لانتاج تسليمات وفق جداول محددة وبناء علاقات شخصية وعادات التعاون بين كبار المسؤولين. ( ومن الأمثلة البارزة عن النجاح في ظل نظام كهذا كان العمل المشترك لتحسين الأمن المادي للأسلحة والمواد النووية الروسية، ما استتبع المساءلة الشخصية، المقاييس، والمواعيد النهائية ). ينبغي للجنة الرئاسية الثنائية الأميركية- الروسية التي أسسها الرئيسان أوباما وميدفيديف أن تستمر، ويتعين على الجانبين التفكير في العودة إلى ممارسة التسعينات لجهة اجتماع نائب الرئيس الامريكي ورئيس الوزراء الروسي مرتين سنوياً للإشراف على عمل مثل هذه اللجنة ودفع كل مجموعة موجودة في داخلها لتحقيق نتائج تعاونية حقيقية.
• تكامل اقتصادي أفضل
يجب على الولايات المتحدة وروسيا توسيع التجارة المتبادلة بينهما وتعاونهما الاقتصادي.
إذ يتذكر الروس جيداً الأمثلة حول تعاون كهذا والتأثير الذي يمكن أن يكون له. فالإيديولوجية المتعارضة في الثلاثينات لم تمنع حصول التعاون الاقتصادي بين الولايات المتحدة وروسيا السوفيتية. وكان الاتحاد السوفياتي قادراً، جزئياً بفضل هذا التعاون، على تنفيذ سياسة التصنيع. إذ بنيت محطة دنيبر الكهرومائية في أوكرانيا، مصنع لينين للسيارات في موسكو، مصنع غوركي للسيارات في نيجني نوفغورود الحديث، مصنع جرارات ستالينغراد وغيرها من مصانع الجرارات، ومصنع مانايتاغورسك لدمج المعادن، بنيت كلها بدعم أميركي. ففي بداية الحرب العالمية الثانية، أقرت الولايات المتحدة قانون الإقراض ـ الإيجار التمويلي في آذار/ مارس 1941 الذي افتتح في تشرين الثاني/ نوفمبر تدفق المساعدات إلى الاتحاد السوفييتي. وكان القانون بعنوان رسمي هو " قانون لتشجيع المزيد من الدفاع عن الولايات المتحدة" وقد مكن حكومة الولايات المتحدة من الدفاع عن مصالحها من خلال مساعدة منافس أيديولوجي للمضي قدما بالهدف المشترك المتمثل في هزيمة ألمانيا النازية .
أما اليوم، وعلى النقيض من ذلك، فإن التجارة بين الولايات المتحدة وروسيا ضئيلة جداً. إذ تمثل تلك التجارة فقط حوالي الثلث من 1 في المئة من الصادرات الأميركية وما يزيد قليلا عن 1 في المئة من الواردات الأميركية في عام 2011. واعتبارا من تلك السنة كانت روسيا سابع أكبر اقتصاد في العالم، ولكنها كانت في أميركا في المرتبة 37 كأكبر سوق للصادرات. ( انظر الملحق للحصول على لمحة إحصائية للعلاقة الثنائية ). إذ تزداد نسب النمو على الجانب الروسي بسبب اقتصاده الأصغر حجماً، إنما ليس بما فيه الكفاية لجعل الولايات المتحدة شريكاً تجارياً هاماً.
اسأل شخصاً أميركياً ما إذا كان يمتلك منتجا كورياً ( سامسونج )، ألمانياً ( فولكس واجن )، (فرنسياً Bic)، أو حتى فنلندياً ( نوكيا )، والجواب سيكون على الارجح " نعم". وهناك قلة من الأميركيين ممن يمكنهم تسمية اسم منتج روسي يمتلكونه، أو حتى سمعوا به. وفي حين أن الروس أكثر دراية بالمنتجات الأميركية، فإنهم لا يشترون الكثير منها؛ فالعجز التجاري يشير إلى 4-1 لصالح الصادرات الروسية. وشكلت الولايات المتحدة أقل من أربعة في المئة من التجارة الخارجية لروسيا في عام 2011. ببساطة، لا ليس لدى الولايات المتحدة وروسيا الكثير من الرهانات على النجاح الاقتصادي لبعضهما البعض.
ما الذي يمكن عمله للتشجيع على المزيد من التعاون الاقتصادي؟ هناك حاجة لرفع الحواجز التي تعترض التجارة لدى الجانبين. ونتيجة للجهود الروسية والأميركية، على حد سواء، أصبحت روسيا في منتصف عام 2012 أحدث عضو في منظمة التجارة العالمية. لكن في رفع قيود جاكسون فانيك في حقبة الحرب الباردة، كان الكونغرس الأميركي قد وافق على قانون ماغنيتسكي، الهادف إلى معاقبة المسؤولين الروس الذين تعتقد الولايات المتحدة بأنهم قد شاركوا في انتهاكات حقوق الإنسان. وردت روسيا بغضب. وأقر البرلمان الروسي قانوناً يعاقب فيه ليس فقط المسؤولين الاميركيين، وإنما يحظر أيضاً تبني الأيتام الروس من قبل مواطنين أميركيين. وقد قدر الإقتصاديون الأميركيون، إذا كان بالإمكان تجاوز هذه العقبة وغيرها من العقبات، امكانية تضاعف الصادرات من البضائع والخدمات الأميركية إلى روسيا.
إن تحسين حقوق الإنسان هدف جدير بالثناء، وينبغي للولايات المتحدة التحدث والتعبير علناً لأجل القيام بذلك كلما كان ذلك ممكناً. في كل الأحوال، إن زيادة التجارة والتفاعل يمكن أن يكون وسيلة أيضاً للضغط من أجل حقوق إنسان أفضل. فضلاً عن ذلك، إن روسيا بحاجة إلى الاعتراف بأن غياب الالتزام بحماية الملكية الخاصة وسيادة القانون، أمر سيبقي الاستثمارات الغربية تعاني من التقزم، كما أن آفاق وفرص تجاوز اقتصاد الهيدروكربون ستظل قاتمة. إن إزالة القيود التجارية من قبل الولايات المتحدة، وزيادة احترام سيادة القانون من جانب روسيا هو السبيل العملي الوحيد لزيادة التفاعل الاقتصادي، والمرجح أيضاً أن يؤدي إلى تحسينات في وضع حقوق الإنسان.
إن التكامل الاقتصادي لا يمنع احتمال نشوب نزاع (كما أظهرت الحرب العالمية الأولى بوضوح )، ولكنه يميل إلى تحقيق التوازن بين الاعتبارات، ووضعها في منظور الخلافات الحتمية التي تنشأ. أما حالياً، فإن الجانب الاقتصادي لمقياس التكامل الاقتصادي بين الولايات المتحدة وروسيا فارغ تقريباً، مما يجعل أهمية الخلافات القائمة بين البلدين في مجالات أخرى مبالغاً بها .
في عصر العولمة، تغيَّر دور العلاقات الاقتصادية. فالمصالح المشتركة في اقتصاد عالمي سليم ومتنامي يلغي الاختلافات في النظم الاقتصادية. إن الشركات العابرة للأوطان في قطاعيْ الصناعات التحويلية والمالية قد ربطت معظم البلدان في العالم بروابط اقتصادية. إن أي صراع عسكري يعطل هذه الروابط ويتسبب بأضرار اقتصادية هامة. في الواقع، لقد أصبح الحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمي عاملاً مقيداً في الصراعات العسكرية. كما أن العلاقات الاقتصادية بين روسيا والاتحاد الأوروبي تتطور أيضاً باتجاه إيجابي. إن ذلك الأساس الاقتصادي يجعل الصراع العسكري بين حلف شمال الأطلسي و روسيا أمراً لا يمكن تصوره تقريباً.
إذا ما استثمرت الولايات المتحدة في الجهود الروسية الرامية إلى تنويع اقتصادها بعيداً عن النفط والغاز، وإجابة دعوة رئيس الوزراء دميتري ميدفيديف لتحالفات التحديث الاقتصادي مع الدول الغربية، عندها يمكن للشركات الأميركية أن تشارك في المجالات التالية التي تعتقد الحكومة الروسية بأنها واعدة من أجل التنمية: تكنولوجيا النانو، المستحضرات الصيدلانية، الطاقة النووية، التكنولوجيا الحيوية، والحفاظ على الطاقة. ومن شأن كل قطاع من هذه القطاعات الاستفادة من التعاون مع الولايات المتحدة. ويمكن لمبيعات المعدات والتكنولوجيات الأميركية للشركات الروسية العاملة في هذه القطاعات أن يصل مجموعها الإجمالي إلى مليارات الدولارات. أما في مجال الطاقة النووية على وجه الخصوص، فيمكن للتعاون الروسي- الأميركي الموسع أن يتيح فرصاً لمكاسب وأرباح كبيرة لكلا البلدين، مع تعزيز أهداف السلامة، الأمن، وحظر الانتشار النووي.
• التعاون الاستخباراتي حول الأهداف المشتركةج. اتعاون الاستخباراتي حول التحديات المشتركة
أحد المجالات التي يمكن أن تحسن بشكل كبير العلاقة الشاملة بين الولايات المتحدة وروسيا هو توسيع وتعميق التعاون الاستخباراتي. لقد قضت أجهزة المخابرات الأميركية والروسية عقوداً من العمل ضد بعضها البعض. إلا أن لدى الولايات المتحدة وروسيا مصالح مشتركة في التعامل مع العديد من أعظم التحديات الأمنية التي تواجه بلداننا، بدءاً من الانتشار النووي إلى الإرهاب وتجارة المخدرات وصولاً إلى الدول الفاشلة. إذ يمكن للمعلومات المتاحة لأجهزة المخابرات الأميركية والمخابرات الروسية، إذا ما جمعت معاً في النقاط الحرجة، أن تحدث فرقاً كبيراً في معالجة هذه القضايا. كما نقول، على سبيل المثال، إن لدى كل من الولايات المتحدة وروسيا مصلحة حاسمة في السيطرة على الأسلحة الكيماوية السورية، ومنع الجهاديين المتطرفين من الاستيلاء على أجزاء كبيرة من الأراضي السورية – موضوعان حيث يمكن لجمع المعلومات الاستخبارية والعمليات أن تحدث فرقاً كبيراً - على الرغم من خلافاتهما حول الكيفية التي يمكن فيها للمجتمع الدولي أن يستجيب للأزمة السورية.
ب. تغييرات في الأوضاع النووية والدفاعات
• المزيد من الشفافية
كخطوة مبكرة ومنخفضة المخاطر، ينبغي على الولايات المتحدة وروسيا جعل أسلحتهما ومخزوناتهما النووية أكثر شفافية لبعضهما البعض. إذ أن مزيداً من الشفافية في كل من عمليات الانتشار الحالية والتخطيط النووي من شأنه أن يساعد على بناء الثقة المتبادلة واقتراب الجانبين أكثر من نوع جديد من العلاقة.
وفي حين طورت اتفاقية "ستارت " الجديدة مراقبة الأسلحة الثنائية، فإن هناك حدوداً للشفافية المطلوبة بموجب المعاهدة. إذ ينبغي أن تكشف كل من موسكو وواشنطن عن المزيد من البيانات في الجولة القادمة من مباحثات الحد من الأسلحة النووية، بما في ذلك تبادل البيانات بشأن الأسلحة النووية غير الاستراتيجية.
يجب على الولايات المتحدة وروسيا، أخيراً، إنشاء "مركز تبادل البيانات المشتركة" ( JDEC )، الذي اتفق الرئيسان الروسي والأميركي على انشائه منذ أكثر من عقد من الزمان. فحتى لو كانت وظائف المركز تقتصر على ما تم الاتفاق عليه في الأصل، وتركز على تبادل الإخطارات عن عمليات الإطلاق وبيانات الحد من التسلح، فإن من شأنه مع ذلك أن يقدم مساهمة هائلة جداً في بناء الثقة بين الولايات المتحدة وروسيا. إن مزيداً من تطوير " مركز تبادل البيانات المشتركة " ( JDEC) - بما في ذلك التبادل في الوقت الحقيقي لمعلومات الإنذار المبكر عن طريق أجهزة الاستشعار لدى كل منهما- سيكون خطوة كبيرة نحو إنهاء سوء الفهم في هذا المجال. وفي هذا الصدد، يجدر ذكر مقترحات الرئيس بوتين عام 2007 لفتح مراكز تبادل البيانات في موسكو وبروكسل. إن الحقيقة بأن الاتفاق الاصلي الروسي- الأميركي ينص على مشاركة ممثلي البلدان الأخرى في عمل المركز أمر مهم للغاية أيضاً. وإن تطبيق ذلك البند سيكون خطوة نحو التحول من المفاوضات الثنائية بشأن تخفيضات الأسلحة النووية إلى مفاوضات متعددة الأطراف. كما أن نشر ضباط ارتباط لدى القيادات الاستراتيجية لكل بلد سيكون أمراً مفيداً، كذلك التدريبات المشتركة.
وعلى الرغم من السجل الطيب للمكاشفات بينهما بظل بيانات اتفاق الحد من التسلح، لا يزال هناك الكثير حول الأسلحة النووية الروسية والامريكية التي لا تزال سرية من دون داع لذلك. ففي حين دعت الاتفاقيات السابقة على المستوى الرئاسي إلى تبادل البيانات حول كمية الأسلحة النووية التي يمتلكها كل جانب من الجانبين ، فإنه لم يتم أبداً مثل هذا التبادل (على الرغم من قيام الولايات المتحدة مؤخراً برفع السرية عن معلومات حول عدد الأسلحة النووية الموجودة في مخازنها). وبالمثل، وعلى الرغم من عقد اتفاقيات لشراء 500 ألف طن متري من اليورانيوم عالي التخصيب من روسيا واتفاق آخر بتخلص كل منهما من 34 طن متري من البلوتونيوم المصنف للأسلحة، لم تتبادل الولايات المتحدة وروسيا التصريحات والبيانات حول مجموع مخزوناتهما من المواد الانشطارية. ( تعلن الولايات المتحدة هذه الأرقام علناً، وقد قامت بتوها بتحديث تقرير عن مخزونها من البلوتونيوم). كما أن أياً من البلدين لم يؤكد أبداً صحة تفكيك رأس حربي نووي واحد من قبل البلد الآخر، رغم أن من المحتمل أن يكون كلا البلدين قد تخلص من الآلاف من هذه الأسلحة. ينبغي للولايات المتحدة وروسيا العمل معاً لبناء بنية الشفافية في الأسلحة النووية ومخزونات المواد الانشطارية مما يساعد على بناء الثقة الثنائية والدولية ويزيل عقبات السرية وصولاً إلى التعاون المشترك للحد من هذه المخزونات، تأمينها، ودمجها.
انتهت صلاحية الاتفاق الشامل لعام 1992 بشأن خفض التهديد التعاوني (CTR) واستعيض عنه باتفاق ينص على نطاق أنشطة أكثر محدودية داخل روسيا، لكنه يسمح بتعاون مشترك أوسع نطاقا مع بلدان ثالثة. ينبغي للروس والولايات المتحدة العمل معاً لضمان استمرار وثبات التحسينات الهامة للأمن النووي التي جرت على مدى العقدين الماضيين في كلا البلدين وذلك من خلال الصيانة الفعالة والتحديث، التمويل المتين، والإشراف التنظيمي القوي. فضلاً عن ذلك،وبالاعتماد على خبرة " خفض التهديد النووي" CTR))، يمكن للبلدين تسهيل إدخال التحسينات في الأمن النووي في بلدان أخرى. وهذا من شأنه التمكين من العمل المهم وبناء الثقة بين الولايات المتحدة وروسيا.
يمكن للولايات المتحدة وروسيا أيضاً مناقشة خططهم المتعلقة بنشر منظومات استراتيجية بعيدة المدى. وهذا يمكن أن يساعد في تقليل الشكوك الموجودة لدى أي منهما تجاه الآخر لجهة محاولة "سرقة تقدم" في المجال الاستراتيجي.
• تعديل العقيدة والتدريب
أما حالياً، فقد أعلنت كل من الولايات المتحدة وروسيا بأن الصواريخ ليست موجهة ضد بعضهما يومياً. وهذا يعتبر تغييراً عن الممارسات التي كانت سائدة أيام الحرب الباردة، ما يمثل الطبيعة المتغيرة للعلاقة. مع ذلك، يمكن تزويد الصواريخ بالأهداف في دقائق، وتواصل عقيدة والتدريب التأكيد على أن البلدين خصمان محتملان. ويتعين على الجانبين مناقشة النظريات والخطط النووية الخاصة بهما بانتظام. إن أي بند من بنود العقيدة أو الخطة المقترحة يراها الجانب الآخر بأنها مثيرة للقلق بشكل خاص ينبغي أن يكون مفتوحة للنقاش والتوضيح وإمكانية التعديل .
تواصل القوات المسلحة في البلدين تدريباتها لحرب تخوضها ضد بعضها البعض. على سبيل المثال، ترسل روسيا، وبشكل روتيني، قاذفات طويلة المدى في مهمات تدريبية تستهدف الولايات المتحدة، إضافة إلى الاستخدام المحاكي المتكرر للأسلحة النووية في حرب مع حلف شمال الاطلسي. وقد أجرت الولايات المتحدة مهمات مماثلة في الماضي. هذه إشارات قوية بين الجيشين تدل بأنهما لا زالا ينظران إلى بعضهما على أنهما خصمين وبأنهما يتدربان من أجل احتمال أنهما قد يصبحا يوماً ما عدوين مجدداً. ينبغي لكل من الولايات المتحدة وروسيا أن تأخذا في الاعتبار في تحليلهما للمكسب والخسارة الداخلية لمهمات تدريبية كهذه ما إذا كانت الخبرة المكتسبة تستحق الاحتكاك التي تحدثها هذه التدريبات في العلاقة - وربما ينبغي على الجيشين مناقشة تفكيرهما مع بعضهما. فضلاً عن ذلك، ينبغي على القادة المدنيين إجراء تقييم ما إذا كانت هذه التدريبات تتماشى، على حد سواء، مع المصالح والسياسات الوطنية الخاصة.
ينبغي الشروع بمهمات تدريبية أكثر تعاوناً. فالجيشان الروسي والأميركي ينفذان بالفعل تدريبات معاً، والتي تحاكي عمليات مكافحة الإرهاب وسيناريوهات أخرى قد يحتاج الجيشان فيها إلى العمل معاً. ومن الناحية المثالية، ينبغي للولايات المتحدة وروسيا الوصول إلى النقطة التي تكون فيها هذه المناورات المشتركة جزءاً أكثر أهمية من أي تدريب للخدمة العسكرية للفرد لأي تمارين متبقية تركز على احتمال نشوب حرب بين روسيا والولايات المتحدة، والتي من شأنها أن تعكس العلاقة الضمنية بين الدولتين.
نحن نوصي، على وجه الخصوص، بقيام الجانبين بتدريبات مشتركة تهدف إلى منع والرد على هجمات محتملة بواسطة شبكات إرهابية ـ سايبرية ضد منظومات القيادة والتحكم النووية أو منظومات الإنذار المبكر، بقصد إحداث حالة من الصراع النووي. أما محتوى هذه التمارين فيمكن تحقيقها بنجاح بواسطة الأفراد المشاركين في "مركز تبادل البيانات المشتركة" ( JDEC).
يمكن لهذه التغيرات أن يكون لها تأثير على المستوى الإنساني. فإذا ما لُقن الجنود والبحارة والطيارين عن طريق التدريب بأن روسيا والولايات المتحدة عدوتان، فإن ذلك سوف يؤثر حتماً على قرارتهم التشغيلية وأحكامهم السياسية الخاصة. بإمكان حوار عسكري- عسكري أكبر مع تعليم وتدريب محترف، معاً، المساعدة على التغلب على العدوانية التي لا تزال قائمة في ظل غياب المنطق الاستراتيجي.
• التعاون الدفاعي الصاروخي
حالياً، يبدو أن موسكو وواشنطن غارقتان في الخلاف حول الدفاعات الصاروخية ـ خلاف يقوض العلاقات السياسية والتعاون حول المسائل الأخرى. وترى روسيا في خطط الدفاع الصاروخي الاميركي تهديداً لردعها، و تطالب بضمانات ملزمة قانونياً بأن لا يكون لدى الدفاعات الصاروخية في أوروبا القدرة على استهداف الأسلحة النووية الروسية. ولا ترى الولايات المتحدة بدفاعاتها الصاروخية تهديداً لقوة الردع الروسية، وعرضت التعاون في مجال الدفاع الصاروخي ، ولكنها استبعدت حتى الآن تقاسم تكنولوجيا الدفاع الصاروخي أو التحكم بالدفاعات، على حد سواء. مع ذلك، هناك فرص لنهج تعاوني حقيقي أكثر في مجال الدفاع الصاروخي، بدلاً من تقويضه، يمكن أن يؤدي إلى تحسين التعاون الاستراتيجي الأميركي - الروسي. فضلاً عن ذلك، إن تحولاً في الذهنية بعيداً عن الإصرار لدى الجانبين على وجود قدرة غير مقيدة باستهداف بعضهما بالأسلحة النووية من شأنه أن يفتح مجالات جديدة وممكنة أمام عقد اتفاق ما بينهما.
تعتبر روسيا التهديد الصاروخي من دول ناشرة ( للاسلحة) محدود ويقتصر على عدد قليل من المنظومات القصيرة والمتوسطة المدى. بالتالي، تتساءل موسكو حول ضرورة نشر الدفاعات الاستراتيجية ضد الصواريخ الباليستية. وتشعر الولايات المتحدة بالقلق من تمكن كوريا الشمالية إثبات قدرتها على القيام بتفجير نووي ومواصلتها توسيع نطاق وأعداد صواريخها الباليستية- بما في ذلك عمليات الإطلاق الفضائية الأخيرة. فضلاً عن ذلك، تقوم إيران بعمل مكثف في مجال الصواريخ البالستية، بما في ذلك التعاون مع كوريا الشمالية.
وفي حين أن من المرجح جداً بقاء الدفاعات الصاروخية تحت سيطرة سيادة كل من الدولتين، فإنه ينبغي على الولايات المتحدة وروسيا التوصل إلى تفاهم مشترك بشأن التعاون للتصدي للتهديدات الصاروخية الحقيقية من الدول الناشرة للاسلحة، استنادا إلى مبادئ ( أ) قابلية التشغيل التكميلية للدفاعات الصاروخية الأميركية والروسية لصد هجمات محدودة من قبل البلدان الناشرة و(ب ) تقاسم الإنذار المبكر وتقصي المعلومات المتاحة لدى كل من البلدين.
سوف يتم تحقيق التقدم في مصالح كلا البلدين من خلال التعاون في المشاريع التالية :
• تقييم التهديد. ينبغي تنفيذ تدابير للحد من مخاطر استخدام الصواريخ النووية إلى جانب إنشاء مركز تبادل البيانات المذكور سابقا الذي سوف يصهر البيانات التي تقدمها منظومات الإنذار الصاروخي. يجب على الحكومتين درس الخطوات للتخطيط لكيفية وصف التهديدات وتمييزها لتجنب سوء الفهم أو سوء التقدير. .
• قابلية التشغيل التكميلية لأنظمة الدفاع الصاروخي الوطني. من غير المرجح أن تتوافق كل من روسيا والولايات المتحدة على إنشاء نظام دفاع صاروخي مشترك. مثل هذا النظام لا يمكن أن يكون له " مفتاح مزدوج ". إن مستوى الثقة بين موسكو وواشنطن ليس كافياً لكي يثق أحد الجانبين بالآخر ويعهد إليه بالدفاع ضد هجوم صاروخي ما. في الوقت نفسه، يمكننا ضمان توافق منظومات الدفاع الصاروخي الوطني، وهذا من شأنه أن يضاعف من قدرات منظومتيْ الدفاع الصاروخي لدى كل منهما. على سبيل المثال، وإذا ما فشلت منظومة حلف شمال الاطلسي في بعض المسارات باعتراض الصواريخ، يمكن أن يكون لدى المنظومات الروسية