ماثيو ثوماس كليمنت ـ مراجعة شهرية: تشرين أول/ أكتوبر 2012
ستيفن غراهام ، مدن تحت الحصار: التمدن العسكري الجديد ( لندن: Verso، 2010).
في خاتمة 'كوكب الأحياء الفقيرة'، يقدم لنا مايك ديفيس لمحة عن عسكرة المناطق الحضرية وما الذي تفعله النخبة العسكرية بشأن مدن العالم. ويستشهد ديفيس بمقالة نُشرت في مجلة ' الكلية الحربية للجيش الأميركي' (ascii85S Army War College): إن مستقبل الحرب يكمن في الشوارع، مجاري الصرف الصحي، المباني الشاهقة، المجمعات الصناعية، الامتداد العمراني من منازل، أكواخ، ملاجئ ومآوٍ، والتي تشكل المدن المهمشة والمسحوقة من عالمنا... إن تاريخنا العسكري الأخير تتخلله أسماء مدن ـ توزلا، موقاديشو، لوس أنجلس، بيروت، مدينة باناما، هو، سايغون، سانتو دومينغو ـ لكن هذه المعارك والصدامات ما هي إلا فاتحة، والدراما الحقيقية المثيرة لم تأت بعد'. من المهم الإشارة إلى أن ديفيس يدخل في كتابه علامة التعجب بعد ' لوس أنجلس'، ربما للتأكيد على الكيفية التي ترسم بها النخب العسكرية المقارنات بين الصراعات الحضرية في دول العالم المتقدم ودول العالم الثالث.
في هذه الأثناء، فإن عسكرة المدن حول العالم، قلبها ومحيطها الخارجي، هي بؤرة التركيز الرئيسة في كتاب ستيفن غراهام ' مدن تحت الحصار' (Cities ascii85nder Siege) المثير والموجود في متناول الجميع. فبالنسبة لغراهام، الأكاديمي، يمثل هذا الكتاب تتويجاً وتوليفاً لقسم كبير من الأبحاث حول الكيفية التي يتم فيها دمج القضايا المدنية الحضرية في العقيدة العسكرية والكيفية التي تغزو بها القوات العسكرية والقوى الأمنية المدنية أفق المدينة. أما البحث في هذا الكتاب فقد نظم حول مواضيع مفاهيمية وتجريبية: الجزء الأول من الكتاب يدرس الأبعاد النظرية لما يدعوه الكاتب التمدن العسكري الجديد، ويقدم الجزء الثاني دراسات أكثر تفصيلاً للقضية التي تساعد على تجسيد هذه القضايا المفاهيمية. أما النتيجة النهائية فهي دراسة غنية نظرياً وتجريبياً للكيفية التي وصل بها العنف، التحكم، والرصد إلى ' استعمار مشهد المدينة ومجالات الحياة اليومية في كل من أوطان الغرب ومدنه الداخلية إضافة إلى الحدود الاستعمارية الجديدة للعالم'.
يستشهد غراهام ببحث كلاسيكي ومعاصر يصف فيه الكيفية التي لطالما كانت فيها العمليات الحضرية مسيَّرة ومتأثرة بالهواجس العسكرية (مثلاً، توسيع الضواحي العمرانية الأميركية كطريقة لتخفيض مستوى التعرض لهجوم نووي). مع ذلك فإنه يقدم بحثاً مفصلاً عن سبب كون الصيغة المعاصرة للعسكرة الحضرية أمراً جديداً. هناك سبع خصائص تميِّز ' التمدن العسكري الجديد' عن القديم:
1. يعمل في الجيوش الغربية، وإلى حد كبير، جنود ريفيون منتشرون في ساحات حضرية.
2. إن التكنولوجيات العسكرية والمدنية ضبابية وغير واضحة في خلفية البيئات الحضرية، والبنى التحتية الحضرية و'الحياة المدينية'.
3. بنت الشركات الإعلامية حرباً حضرية كمشهد للاستهلاك في الغرب.
4. هناك سوق متصاعدة للأمن والرصد.
5. إن حركة رأس المال، والإعلام، والناس من وإلى خارج المدن هي حركة عابرة للحدود الوطنية، ويتم عسكرتها لحماية مصالح النخب الخاصة.
6. إن الخطاب الأمني المعاصر متناقض، بتأكيده على المفاهيم الحدودية ' للوطن' التي تنطوي على مكافحة التمدن ومكافحة الكونية برغم السكان المتنوعين والمختلفين، أكثر فأكثر، حضرياً وعرقياً. ويسأل غراهام ببلاغة: هل مدينة نيويورك وطن؟
7. يُستخدم العنف من قبل الدولة لإجلاء الناس من مجتمعات ريفية ومستوطنات حضرية غير رسمية لإفساح المجال لتجميع وتراكم مستقبلي.
وفي حين أن هذه هي الخصائص السبع للتمدن العسكري الجديد، يقول غراهام بأن الليبرالية الجديدة والإمبريالية تلعبان أدوراً مركزية في عسكرة المساحات الحضرية. لقد حولت هذه القوى عدداً من المدن في مناطق الجنوب العالمية إلى مساحات ' ضارية ومتوحشة' خائفة ومستهدفة، على نحو متزايد، من قبل جيوش غربية ( أنظر البحث في ' كوكب الأحياء الفقيرة' حول ' سحرة كينشاسا الصغار'). مع ذلك، فإن عسكرة المدن، قلبها وأطرافها، عبارة عن عملية مترابطة. وفي إشارة إلى ' فوكولت'، يصور غراهام نظرياً هذا الترابط على أنه ' تأثير المفعول الارتدادي'، الذي يمثل التقاسم المتعدد الاتجاهات للمعلومات من قبل إدارات الشرطة والجيوش حول العالم. للاستعداد بشكل أفضل لحرب في مشهد المدينة. فعلى سبيل المثال، وكما يشير غراهام، لقد انتهت الصراعات المدينية المنفصلة في الولايات المتحدة وإسرائيل بالتعاون بين هذين البلدين على تطوير ' أسلحة غير مميتة'، بعضها الآن يتم نشره في كلا البلدين. ونحن نرى مثالاً على ذلك في استخدام ' الأسلحة الصوتية' التي تبث موجات صوتية عالية لدرجة تجعل الوجود المستمر في المنطقة المستهدفة لا يطاق لجهة الشعور بالدوار والغثيان. لقد استعملت هذه الأسلحة الصوتية في التظاهرات ضد الرأسمالية؛ وقد أخذت المؤسسات الإخبارية علماً باستخدامها حتى في قمة العشرين في بيتسبورغ في أيلول 2009.
لكن غالباً ما لا تكون الآثار والعواقب المقصودة للتمدن العسكري الجديد 'غير قاتلة' كالأسلحة الصوتية؛ تأمل فحسب في بحث غراهام حول بروز سياسات ' صوِّب بهدف القتل' ( &lsqascii117o;shoot-to-kill&rsqascii117o;) من قبل دوائر الشرطة حول العالم للتعامل مع مفجرين انتحاريين. ولا تعتبر أي من هذه النتائج والآثار مباشرة وفورية بقدر استخدام الأسلحة. على سبيل المثال، يربط غراهام ما بين نسب السَّجن المتصاعدة في الولايات المتحدة وبين الحرب على الإرهاب. وفي حين أسست دائرة شرطة نيويورك مكاتب لها حول العالم، فإن نظام السجن والاحتجاز الأميركي، يقابله من الجانب الآخر، عموماً، البناء لنظام عالمي من التسليم السري الإستثنائي (الترحيل السري الاستثنائي)... مع استخدام كلا النظامين لتقنيات مشابهة، شركات أمنية خاصة، وسائل الإيذاء، و'التعليقات القانونية'. إن حقوق المواطنين وغير المواطنين يتم تقويضها بما يسمى حرب ' secascii117rocratic war ' : معركة المقصود بها حماية الأمن العام من أعداء مبهمين يكمنون داخل فجوات الحياة المدينية والاجتماعية، ممتزجين بخفاء بها '.
تتضمن أمثلة أخرى، غريبة أحياناً، عن انتشار التمدن العسكري الجديد ما يشير إليه غراهام على أنه تطور 'نقاط مرور' ( ضمن مدن مثل مانهاتن)، ' تصليب الجيوب الحضرية'، ونجاح 'سياحة الحاميات'. ففي الولايات المتحدة، هناك قسم كبير من مجموع الإسكان الجديد مبني في مجتمعات خاصة مغلقة. كما يمكن رؤية إنشاء نقاط مرور وتصليب الجيوب الحضرية أيضاً في تنمية الضواحي وتطوير سيارات الدفع الرباعي. فهذه السيارات يتم تسويقها للمستهلكين ' كمدرعات مصفحة' تسمح للسائقين بالتمتع في الهواء الطلق ' في الوقت الذي يحافظون فيه على السيطرة التامة على محيطهم الشخصي' . وسنبدأ هنا برؤية أمثلة عن النمو المثير للفضول لسياحة الحاميات. وبشكل مشابه، إن سفن التجوال، (سفينة الحرية، على سبيل المثال) مصمَّمة للسماح للمسافرين الأغنياء والموسرين بالتمتع بجمال دول العالم الثالث الفقيرة من دون التعرض لحشود الناس في المناطق الحضرية ' المتوحشة' على الأرض. كل هذا يوحي بأن الحاجة إلى الأمن تتزايد في الوقت الذي يؤدي التحسين والتأهيل إلى إنشاء المساحات لاستهلاك الأثرياء.
اشار آندي ميريفيلد أيضاً إلى التأثير المتزايد للسياحة على التحسينات والتأهيل في كتابه 'جدلية التمدن'، وهو كتاب ممتاز ومصاحب جيد لكتاب ' مدن تحت الحصار'. مع ذلك، يقول غراهام بأن القضايا الأمنية تعتبر مركزية بالنسبة لتجارب المستهلكين المدينيين الأثرياء. فضلاً عن ذلك، إن سلامة وأمن المستهلكين الأثرياء متصلان بشكل غير مباشر بتمدين الصراع العسكري. ويقدم غراهام بعض الأمثلة الغريبة عن الكيفية التي يتم بها تمدين الصراع العسكري . فهناك مدن زائفة بالحجم الطبيعي ، مثل المجمع الهدف 'Yodaville' في أريزونا، الذي يتم بناؤه من قبل الجيش الأميركي لتقديم التدريب على الصراعات الحضرية. هذا مثال لما يسميه غراهام عموماً ' موضوع مجمع الأرخبيلات'. هذه المدن المزيفة، بحسب ما يقول في كتابه، هي ' مجمعات لممارسة التدمير الحضري، المحو والشطب والعنف الاستعماري'. إن تطور فكرة مجمع الأرخبيلات يتضمن أيضاً الطرق الخيالية على ما يبدو التي تسربت بها عقيدة النخبة العسكرية إلى حياة السكان الحضريين العاديين في الغرب. إذ يتم تحويل الحرب إلى وسائل إعلام غير مادية وإلى تجارب ألعاب، بحيث يصبح المستهلكون العاديون ' مواطنين- جنوداً إفتراضيين' ممن ' علقوا في فخ ثقافة شبكية لا حدود لها من الحرب الدائمة حيث كل شيء يتغير ويتحول إلى ساحة معركة'. أما عنصر الخيال الذي يتم الكشف عنه في سياحة الحاميات، موضوع مجمع الأرخبيلات، والمواطنين ـ الجنود الافتراضيين فيستحضر في الذهن 'مجتمع المشهد' لـغي ديبورد، رغم أن غراهام لا يذكر ديبورد. ويصف ميريفيلد رؤية ديبورد للطريقة التي يختبر فيها مستهلكون غربيون أثرياء صراعات حضرية عسكرية بأنها: 'عالم زائف بعيد'، عالم حيث الصور المتخصصة، والشبكات الفضائية العالمية، وأدوات التكنولوجيا المتطورة والوسائط الإعلامية المتعددة تهيمن وتتحد كـ ' صورة مستقلة'.
في نفس الوقت، غالباً ما تعكس التدريبات العسكرية في مدن زائفة والمعارك الافتراضية لصناعة الألعاب الالكترونية أهمية البنية التحتية المادية كهدف في صراع حضري. في الواقع، وخاصة في الغرب، لقد جعل التمدين وكتلة التوسع العمراني للمجتمع الناس أكثر عرضة للهجمات على أنظمة تقنية، كشبكات الطاقة التي تعتبر حاسمة لسير عمل الحياة الحضرية العصرية. وللمفارقة، يشير غراهام، تتطلب هذه الأنظمة التقنية المعقدة حركة سلسلة للمعلومات والمواد، الأمر الذي يتعارض ويتناقض مع ممارسة التمدن العسكري الجديد لضمان الحدود وحماية الناس من أعداء غرباء.
في ضوء المشاكل التي تم تناولها أعلاه، يخلص كتاب 'مدن تحت الحصار' إلى تقييم مشاريع حضرية تواجه التمدن العسكري الجديد. ويتمحور قسم كبير من المناقشة الختامية حول ثقافة التشويش، التي غالباً ما تشمل مشاريع فنية يقصد بها كشف وتعقيد مسألتيْ التناقضات وعدم المساواة الكامنتين في الأمن والرصد المعسكرَيْن لمشهد المدينة. ففي الصفحات الأخيرة فقط من الكتاب يشدد غراهام بالفعل على استكمال هذه 'المكافحة الفنية للجغرافيات' بمشاريع سياسية ـ اقتصادية جذرية، بما فيها نهاية سياسات الليبرالية الجديدة، وإعادة توزيع الثروة، والاستدامة البيئية (الحفاظ على البيئة).
هناك عيبان متصلان بالموضوع يشوبان 'مدن تحت الحصار'. الأول، أن تأكيد غراهام على مكافحة الجغرافيات الفنية يتجاهل الصراع الأكثر أهمية وجوهرية بين قيمة الاستخدام وقيمة التبادل للمساحة الحضرية بظل الرأسمالية ـ أمر كتاب' جدلية التمدن' يتناوله ويعالجه مباشرة. بالواقع، إن مناقشة ميريفيلد لهنري لفيبفير يقدم مقاربة لتكوينات بديلة أكثر جذرية للمساحة الحضرية من مفهوم مكافحة الجغرافيات لغراهام. وبحسب ما يشير لفيبفير، فإن إنتاج المساحة الاشتراكية يعني نهاية الملكية الخاصة والهيمنة السياسية للدولة على المساحة، ما ينطوي على الانتقال من الهيمنة والسيطرة إلى الاستيلاء وأولوية الاستخدام على حساب التبادل. بالطبع، يعترف غراهام بأن تصميم المدن الحديثة كان بدافع قوى عسكرية وقوى اقتصادية ويقول 'نحن بحاجة إلى سياسة أمنية جذرية' للتعامل مع 'انعدام المساواة المفرط' ومع العنف في المدن الحديثة. مع ذلك، يخفق مفهومه عن مكافحة الجغرافية بتضمين رؤىً حول الصراع بين استخدام القيمة واستخدام التبادل للمساحة الحضرية. بناء على ذلك، إذا ما كنا نرغب بتحدي ومعارضة التمدن العسكري الجديد، فعلينا أيضاً عرض تحد ومعارضة للملكية الخاصة وإنتاج المساحة الرأسمالية عموماً.
ثانياُ، يقدم غراهام نقداً شاملاً لأنصار نظرية التحضر السائدة الذين يمجدون الفضائل الاقتصادية للمدن الرأسمالية ولا يروا مع ذلك صلاتها بالعنف (ريتشارد فلوريدا مثلاً). مع ذلك، وبرغم تركيزه على العنف الحضري، فإنه مع ذلك يقدم حجة مؤيدة للحضرية لمكافحة التمدن العسكري الجديد من دون التشديد على أن نصف سكان العالم يعيشون خارج المدن. بالطبع، إن غراهام ليس وحده في نزعته الحضرية (ascii117rbanophilia) إنها سمة ضمنية لكثير من الأدبيات الحضرية. مع ذلك إن تطوير نقد جذري لنتاج المساحة الرأسمالية لن يحتم فحسب وجود تصورات مختلفة للمساحات الحضرية في الموقع الطبيعي، وإنما سيحتم أيضاً وجود تحد عام أكبر لعملية التوسع الحضري ككل.
في كل الأحوال، إن مناقشة غراهام المحدودة لمكافحة الجغرافيات وموقفه المؤيد للحضرية هما وجهان ثانويان فقط من أوجه القصور لتحليل تحفيزي وتنشيطي. إضافة إلى تقديم بحث نظري وتجريبي غني حول التمدين والصراع، يقدم كتاب 'مدن تحت الحصار' رسالة قوية نحتاجها فعلاً لإعادة التفكير بشكل جذري بالكيفية التي ينبغي أن تحيا بها البشرية في مساحات حضرية.