في مقابل الانقسامات: صراعات ليبيا الدائمة
( تقرير الشرق الأوسط / شمال أفريقيا رقم 130- 14 أيلول 2012)
International Crisis Groascii117p
موجز تنفيذي وتوصيات
إن قتل السفير الأميركي وثلاثة من رفاقه في11 أيلول هو تذكير حاد بالتحديات الأمنية الليبية. ينبغي أيضاً أن يكون بمثابة جرس إنذار. هناك، بالطبع، أكثر من طريقة للنظر إلى البلد اليوم: كإحدى أكثر الثورات العربية المشجعة، المتعافية بأسرع مما هو متوقع؛ أو كبلد مناطق ومواقع تتجاذبه مختلف الاتجاهات، يُحدق به نزاع طائفي وبلد تجول فيه المجموعات المسلحة بكل حرية فعلاً. الدليل موجود للطريقتين: انتخابات ناجحة من جهة، والهجمات العنيفة من جهة أخرى. بالحقيقة، إن أقصى السمات الواعدة وأقلها في ليبيا ما بعد القذافي نابعة من واقع واحد. فلأن البلد يفتقر لدولة فاعلة تقوم بوظيفتها بشكل كامل ولأنه يفتقر لشرطة وجيش فاعليْن، فقد تدخلت جهات محلية فاعلة – وجهاء، مجالس مدنية وعسكرية، ألوية ثورية- لتوفير الأمن والتوسط في النزاعات وفرض اتفاقيات الهدنة. لن يكون الأمر سهلاً وينبغي أن يتم ذلك بحذر شديد، لقد آن الآوان للسير بعكس التيار، إصلاح الجيش والشرطة وتأسيس هيكلية دولة فاعلة تؤدي وظيفتها ويمكنها ضمان تنفيذ اتفاقيات الهدنة ومعالجة أسباب الصراع.
إن نهاية القذافي الدموية وانهيار الشرطة الليبية وجيشها ترك وراءه شعباً مسلحاً يحمل في نفسه مظالم مكبوتة دامت 42 عاماً. فاستراتيجية القذافي ' فرِّق تسُد' القديمة، وضعت المجتمعات الليبية في مواجهة بعضها، تتنافس كل منها للحصول على حصة من الموارد ورضا النظام. وأصبحت بعض البلدات غنية بفضل اتصالاتها الجيدة مع النخبة الحاكمة؛ أما البلدات الأخرى فتعاني بشكل سيء. في هذه الأثناء، غذت الأجهزة الأمنية، الصراعات المجتمعية مباشرة وأدارتها وتلاعبت بها. وما أن نزع الغطاء، حتى كان هناك سبب للخوف من الخلافات العامة، حيث سعى العدد الضخم من المجموعات المسلحة التي انتشرت خلال فترة التمرد إلى الاستفادة المادية والحصول على النفوذ السياسي أو الانتقام، ببساطة. وكان كل ذلك وأكثر نظراً للفراغ الأمني الناتج عن سقوط النظام المتهور.
نجم عن هذا السقوط قدر من الفوضى، لكن إلى حد ما فقط. إذ اندلعت الصدامات المجتمعية عبر البلد إبان حرب 2011 وبعده. فالتوترات التي تُركت طويلاً تغلي تحت السطح وصلت إلى درجة الغليان وتفاقمت بسبب المواقف المختلفة التي تناولتها المجتمعات المتنوعة في مواجهة نظام القذافي. وحيث أن القتال، بمعظمه، انتهى بسرعة نسبياً فإن ذلك يعود الفضل به، وبنسبة لا بأس بها، إلى جهود القادة المحليين، الألوية الثورية، ومختلف المجالس المدنية والعسكرية التي أخذت على عاتقها الحفاظ على البلد ككل. فقد سجل الخليط الأمني اللزج نجاحاً هاماً وحتى مفاجئاً. لكنه ليس نموذجاً؛ فحتى لو تمكنت هذه الجهات من احتواء الصراعات، فإنها تغذيها في آن معاً. إذ أن بعض الجماعات المسلحة لا تستطيع مقاومة إغراء استهداف الخصوم وتسجيل أهداف في مرماهم إضافة إلى العراك حول النفوذ السياسي والاقتصادي، التهرب من المسؤولية، و ترسيخ المنافسات الجغرافية والمجتمعية.
حتى الآن، تصرفت السلطات المركزية، وبشكل رئيس، وكأنها غير معنية، وذلك بالتعاقد من الباطن فعلاً، مع الجماعات المسلحة والمستقلة إلى حد كبير لاستلام الموضوع الأمني. وكان لديه سبب لذلك: الجيش والشرطة في حالة من الفوضى، فهما يعانيان من عجز في مجموع العاملين والتجهيزات؛ فالضباط والجنود إما انشقوا، أو فروا وإما قتلوا أو سجنوا. وكان المتمردون الذين نهضوا ضد القذافي أفضل تسليحاً بكثير وكانوا – بسبب شكوكهم ببقايا النظام القديم وسرورهم بقوتهم الجديدة- غير مستعدين للتخلي عن استقلالهم الذاتي ولا الانضواء تحت سلطة وسيطرة الدولة. مع ذلك، قد يكون من الخطأ النظر إلى قوات الجيش والشرطة الموازية التي برزت على أنها قامت بذلك ضد رغبة السلطات المركزية. بالأحرى، ورغم أن الألوية الثورية نفسها هي التي أسستها، فقد كانت ' قوات درع ليبيا' و ' اللجنة الأمنية العليا' – الأولى تعمل بالتوازي مع الجيش، والأخيرة تعمل بالتوازي مع الشرطة – مفوضة بالتصرف بتشجيع من ' المجلس الانتقالي الوطني'، الذي يعتبرهما بمثابة قوات احتياط من دونها لا يمكن للدولة، وببساطة، أن تضمن الأمن في البلاد.
وكما أبقت الجماعات المسلحة الأفرقاء المتحاربين بعيداً عن بعضهم، كذلك قاد الوجهاء المحليون المفاوضات المصمَّمة لتحقيق اتفاقيات هدنة تدوم مدة أطول. فبإلتماسهم الإسلام ومثاليات الهوية الليبية واللجوء إلى الضغط الاجتماعي أيضاً إضافة إلى القوانين العرفية، أثبت هؤلاء عن فعاليتهم كوسطاء بشكل لافت.
في كل الأحوال، لا تقدم أي من هذه الأمور حلاً مستداماً. اتفاقيات الهدنة هشة، فالصراعات المحلية مجمدة وغير محلولة بصورة دائمة. وعند الخوض في خرق الهدنة، كانت الجماعات المسلحة ووجهاء المناطق يقومون بما لا يمكن للحكومة القيام به. إلا أن تنفيذ اتفاقيات الهدنة يعتمد، في جزء كبير منه، على سلطة نزيهة غير متحيزة قادرة على توفير الخدمات وفرض القرارات. إن انخراط الألوية الثورية والجماعات المسلحة المحلية في جهود إنهاء الأعمال العدائية يجعل الخط الفاصل بين الوساطة الحيادية والتوسط الحزبي ضبابياً. ففي بعض الأمثلة، ساعدت محاولات لعب دور الجيش، الشرطة، الوسيط، الحكم والقضاء، في آن معاً، على إحياء العداء المجتمعي القديم أو التنافس على السيطرة على طرق التهريب. إن الأمل هو بتمكن الدولة المركزية من تأسيس قوات وطنية حقاً مجهزة للتعامل مع النزاعات المحلية، خاصة سلك الدرك وفيالق الاحتياط النخبوية الموجودة في الجيش. وحتى ذلك الحين، سيظل الاعتماد على الألوية الثورية والقوات المسلحة المحلية رهاناً غامضاً.
ربما الأمر الأخطر في الموضوع في واقع الأمر، مع غياب وجود دولة قوية، هو أن الاتفاقيات ظلت، غالب الأحيان، مجرد حروف وكلمات ميتة. فالنزاعات متجذرة في مزاعم متضاربة ومتنافسة حول الأراضي، الأملاك والسلطة التي كانت موجودة في زمن ما قبل القذافي والتي تفاقمت لأول مرة بسبب محسوبية وشبكات المحاباة في نظامه، وتالياً، بسبب المواقف المختلفة للمجتمعات خلال الثورة، وأخيراً بسبب أعمال الانتقام وما أعقبها. ولحل هذه النزاعات يتطلب الأمر تفاهمات واضحة ومكتوبة، متابعة حكومية، تطبيق حقيقي ومحاسبة. كما أن الضرورة تفرض أيضاً تسيير دوريات للشرطة على الحدود، تحديد عادل ونزيه لملكية الأراضي التي لجأ النظام القديم إلى مصادرتها؛ إضافة إلى شكل ما من أشكال القضاء الانتقالي. وكلها أمور يوجد حاجة ماسة لها. ورغم أن الوجهاء المحليين يجرون مفاوضات حول اتفاقيات ما، فإن هذه الاتفاقيات نادراً ما تكون غير ملتبسة أو ملتزمة بورقة أو منسقة مع السلطات المركزية. إذ من دون حكومة فاعلة، ومن دون مؤسسات دولة قوية أو قوات الشرطة، تكون المتابعة غير معقولة. فالنظام القضائي غارق ومسألة التأسيس للقضاء وتسوية المسائل أمور تنتظر. أما اتفاقيات المصالحة المكتسبة بصعوبة فإنها تنهار.
هناك الكثير من الأمور التي يحتفل بها في ليبيا ما بعد القذافي لكنها أيضاً بدورها سبباً للقلق. فالمعركة بين الحكومة المركزية والجماعات المسلحة لم يتم الفوز بها حتى الآن، رغم أن الأخيرة كانت تتصرف وكأنها تتمتع باليد العليا. وإذا لم يتم اتخاذ خطوات، وبسرعة، فإن قلب هذا التوجه سيكون أصعب فحسب – والأخبار التي كانت تعتبر جيدة نسبياً، يمكن أن تتحول إلى مريرة بشكل يثير اليأس والإحباط.
توصيات
لمعالجة الحاجات الأمنية المباشرة والفورية بالنسبة للحكومة الليبية و 'المجلس الوطني العام':
1. تأسيس وحدة مؤقتة لإدارة الأزمات تتشكل من رئيس الوزراء، وزير الداخلية، والدفاع، ورئيس أركان القوات المسلحة، إضافة إلى رؤساء ' قوات درع ليبيا' و ' اللجنة الأمنية العليا'، لتكون مهمتهم كالتالي:
&bascii117ll; تنسيق الردود الطارئة إزاء الصراعات المجتمعية وتهديدات مسلحة أخرى.
&bascii117ll; الإشراف على حكم مناطق من البلد معلنةً ' مناطق عسكرية'.
&bascii117ll; التفويض لقوة مهمات خاصة مشتركة بين الوزارات مسؤولة أمام رئيس الوزراء وذلك لتنفيذ أية قرارات ذات صلة بتسويات سلمية أو قضايا حكم استثنائية تبرز ضمن 'مناطق عسكرية'.
2. إنشاء قوات مهمة خاصة مشتركة بين الوزارات مسؤولة أمام رئيس الوزراء، مع ممثلين من وزارتيْ الداخلية والدفاع والتي سوف:
&bascii117ll; ترسل ممثلين من الوزارتين المذكورتين آنفاً إلى مجالس الوجهاء ( لجان الحكماء) لمراقبة مفاوضات السلام وتشغيل خط اتصالات مباشر مع الوزارات ذات الصلة والممثلين عن ' المجلس الوطني العام ' خلال هذه المفاوضات.
&bascii117ll; ضمان أن تكون اتفاقيات السلام مكتوبة ومحددة بشكل خاص لتنفيذها.
&bascii117ll; مراقبة تنفيذ تسويات السلام والإشراف عليها من خلال نظام عدلي أو وزارات ذات صلة وضمان أن يكون الوجهاء المحليون والمجتمعات المتأثرة مدركين لما يتم فعله.
بالنسبة للحكومة الليبية والقادة الاجتماعيين والقبليين ( الحكماء)، الوجهاء، الأعيان وكبار العائلات المشاركين في ' لجان الحكماء':
3. ضمان مراقبة فعالة ومنسقة لمناطق الصراع، إرسال التقارير لبعضهم البعض ولقوة المهمات الخاصة المشتركة بين الوزارات عند أولى إشارات الإنذار لصراع متجدد محتمل.
4. التشاور مع كل الأفرقاء ذوي الصلة بما يتعلق بجدوى التنفيذ عند درس المطالب المقدمة للجان التسوية.
5. الالتزام بكتابة التسويات السلمية.
6. السعي للحصول على دعم خبراء تقنيين دوليين في حل الصراعات، حيث يكون الأمر مناسباً.
بالنسبة لوزارة الدفاع، بما في ذلك رئيس الأركان للقوات المسلحة الليبية:
7. تعيين مراقبين مسؤولين مباشرة أمام رئيس أركان القوات المسلحة للاتصال والتنسيق مع ' قوات درع ليبيا'، وحدات حرس الحدود، والمجالس العسكرية في مناطق الصراع.
8. ضم 'قوات درع ليبيا'، طالما أن عقودها مع الدولة لا تزال فاعلة، في برامج التدريب الغير قتالية ذات الصلة التي يقدمها المجتمع الدولي.
بالنسبة لقوات درع ليبيا، اللجنة الأمنية العليا، وائتلافات أقاليم الألوية الثورية:
9. دعم عمل ' وحدة إدارة الأزمات' و' قوات المهمات الخاصة المشتركة بين الوزارات' المكرستين لتنفيذ التسويات السلمية في مناطق الصراع.
بالنسبة لـ ' بعثة الدعم الدولية في ليبيا' ( ascii85NSMIL) و الإتحاد الأوروبي:
10. الاضطلاع بقضية التركيز على أدائهم، بموافقة الحكومة وتعاونها، إضافة إلى 'قوات درع ليبيا' ووحدات حرس الحدود؛وضع مخازن السلاح ومصادره؛مصادر التجنيد، إضافة إلى العلاقات مع المجتمعات والجماعات المسلحة المحلية؛ ونشاطات إدارة الحدود.
11. بعثات مهمة المراقبة لمراقبة تقدم وتنفيذ اتفاقيات الهدنة في مناطق الصراع المجتمعية.
للانكباب على معالجة القضايا الأمنية المؤسساتية للمدى الطويل
بالنسبة لوزارة الدفاع، بما في ذلك رئيس هيئة الأركان للقوات المسلحة:
12. إنشاء سلك احتياطي في الجيش مسؤول عن عمليات الانتشار الداخلية في مناطق عسكرية، بإمرة ضباط في الجيش مدقق بحالاتهم جيداً وغير منتمين سياسياً ومشكلين نت مقاتلين مدربين بالكامل من ' قوات الدرع الليبية' والجيش.
13. تقديم حوافز للمتقاعدين من كبار الموظفين العسكريين.
بالنسبة لوزارة الداخلية:
14. إنشاء سلك جديد للدرك يتحمل مسؤولية عن الجيش إضافة إلى لجان محلية لواجبات حفظ الأمن في الخط الأمامي، بما فيه مراقبة أنشطة الجماعات المسلحة، السيطرة على تدفق المخدرات ومكافحة النشاطات غير القانونية الأخرى.
15. تشكيل وحدات على أساس مختلط جغرافيا ، تدريجياً، وتعيين وحدات كهذه ذات سجل ومسار جيد في مناطق صراع أكثر تحدياً وصعوبة.
16. إغلاق' اللجنة الأمنية العليا'، وذلك بالتخلص من مجنديها – الذين خضعوا لتدريب مكتمل مرض – للدخول في قوى الدرك الجديدة.
بالنسبة لقوات الدرع الليبية، اللجنة الأمنية العليا، والائتلافات المحلية للألوية الثورية:
17. التعاون في اختيار الضباط والمقاتلين المناسبين لضمهم في سلك جديد للجيش والدرك، تحضير قادة الوحدات للدمج النهائي.
بالنسبة لـ ' بعثة الدعم الدولية في ليبيا'( ascii85NSMIL)والاتحاد الأوروبي:
18. دعم إنشاء سلك للدرك، يحل محل اللجنة الأمنية العليا، وإنشاء قوة احتياط جديدة ضمن الجيش، تحل محل ' قوات درع ليبيا'.
طرابلس/ بروكسل، 14 أيلول 2012
المقدمة
بعد سقوط طرابلس في 20 آب 2011 وبداية انتهاء الأعمال العدائية في 23 تشرين أول، اندلعت الصراعات المجتمعية عبر ليبيا. وانبثق بعضها مباشرة من صراع 2011 ونشاطات الألوية الثورية المشكلة حديثاً التي أفضت إلى ظهورها؛ ونشأ بعضها من الخصومة والتنافس المكبوت القديم بين المجتمعات، البلدات، والأحياء والتي تلاعب بها العقيد القذافي بتكتيكه ' فرق تسد' وغذاها في كل مساره في السلطة الممتد 42 عاماً. ولم يخرج أي شيء عن مساره في الانتخابات الأولى للبلاد ما بعد القذافي في 7 تموز2012. مع ذلك، فإن الطبيعة الضعيفة والمنقسمة للبلد – خاصة انهيار قوات الجيش والشرطة التابعة للنظام السابق- ترك المجتمعات المحلية مسؤولة، وإلى حد كبير، عن تولي مسائل الدفاع ، الأمن، وحفظ السلم.
وقع عبء الدفاع والأمن، وإلى حد كبير، على الألوية الثورية، التي تجمعت في ائتلافات كبيرة موازية للشرطة والجيش المهلهليْن. فالجماعات المسلحة المؤلفة من ولاءات ملتبسة وغامضة ملأت الفراغ الأمني، البعض بنية الانتقام للإساءات الماضية، والبعض الآخر لانتهاز الفرصة وتعزيز مصالح محلية. وقد حاولت الحكومة جمع وترتيب تلك القوات، بالتركيز أولاً على أولئك الذين تقبلوا سلطة ' المجلس الانتقالي الوطني'. فقد ألحقت وزارة الداخلية البعض في ' لجنة أمنية عليا'، للعمل كوحدات شرطة مسلحة؛ ودعا الجيش آخرين لدعمه في فرض اتفاقيات الهدنة على المجتمعات المتحاربة، وذلك بالعمل، وبشكل أساسي، كقوات احتياط للرد السريع. حتى الآن، ومع التوترات العميقة الموجودة في أوساط الحكومة الانتقالية وبسبب البيروقراطية القديمة والمقاتلين الثوار، فقد أجهضت عملية الاندماج في البنى الرسمية للدولة. لقد فضلت الألوية البقاء منفصلة، ومسؤولة أمام قادتها المحليين فقط. ومع حلول الانتخابات، كان القادة المحليون يفتقرون لرؤية واضحة حول كيفية كسر استقلال الألوية ودمجها في الدولة.
بالتوازي مع ذلك، وبغياب المؤسسات المركزية القوية، وقع عبء صنع السلام ، بشكل أساسي، على الحكماء المحليين – شخصيات بارزة ووجهاء وأعيان العائلات. ويشتمل قسم كبير من عملهم على التوسط بين المجتمعات المتحاربة؛ إذ يعقد الوجهاء اجتماعاً للجان مصالحة تشكلت بعد نزاعات اجتماعية ودينية تقليدية – هيئات حل للتفاوض حول الهدنة والتسويات السلمية. وتعتمد معظم المجتمعات في نهاية المطاف عليها وتثق بقدراتها أكثر من تلك التي للحكومة المركزية الوليدة أو للخبراء الدوليين.
إن الاعتماد على تقاليد اجتماعية موروثة وعلى شعور ناشط حديثاً بالهوية الوطنية للحفاظ على الهدوء خلال فترة انتقالية مهزوزة استتبع قفزة إيمانية ضخمة. ما يعني بأن العملية نجحت إلى حد لافت، لكن المشاكل الهائلة مستمرة. إذ لا يزال عدد من الصراعات الطائفية غير محلول، فأسبابها لم تتم معالجتها من قبل الحكومة الانتقالية. إن الدولة قادرة، بالعمل إلى جانب وجهاء محليين والألوية الثورية، على الرد على الأزمات المباشرة، لكن مع مؤسسات ضعيفة ومنقسمة غالباً ما تكون عاجزة عن تنفيذ التسويات السلمية التي تلي الأزمات.
الخلفية: الصراعات الطائفية الليبية
إرث القذافي وثورة 17 فبراير
بعد سقوط طرابلس في 20 آب 2011، أذعنت معظم البلدات والمدن في المناطق التي لم تنهض ضد النظام للنظام الجديد عملياً. فحجم الألوية الثورية الغربية، بقيادة الزنتانيين والمصراتيين بشكل رئيس، لم تكن ترغب كثيراً بدخول المجتمعات والبلدات المجاورة بالقوة، التي كان عدداً منها قد سلحت نفسها توقعاً بحدوث صراع أكبر. فقد كان المدنيون في كل من المناطق التي يسيطر عليها القذافي والمتمردون يحصلون على السلاح وينظمون قوات دفاع محلية استعداداً لأي حالات عنف طارئة. وقد أشار كثيرون برعب إلى الكيفية التي مارست فيها الألوية الثورية عمليات الثأر والانتقام ضد بلدة ' مشاشية' العزلاء إلى حد كبير ( وهي بلدة قريبة من الزنتن) و ' طوارغة' (قرب مصراتة)، وهما مجتمعان محليان دعما القذافي في الصراع إلى حد كبير.
بالواقع، ورغم أن ألوية مصراتة أثبتت فعاليتها، وحياديتها كمنفذة لعمليات الهدنة في سياقات أخرى، فإنها استمرت في العام 2012 بقيامها بهجمات متكررة على ' طوارغة'، وتهجير جيرانها السابقين أينما وجدوا واستخدام منازلهم السابقة للتدرب على الأهداف. كذلك الأمر، ظل الزنتانيون، صناع السلام في أماكن أخرى، في حالة صراع ساخن أو بارد مع ' ماشاشية'.
في الفترة المتوترة والقاسية بعد سقوط طرابلس، قام المجلس الانتقالي الوطني، المدرك بأنه غير موثوق به من قبل الليبيين الغربيين، إلا جزئياً فحسب، بصفته هيئة يهيمن عليها الليبيون الشرقيون، بدعوة كل البلدات لتشكيل مجالسها العسكرية الخاصة بها. كما دعا المجلس الوجهاء المحليين لتشكيل مجالس مدنية محلية. وقال عضو في المجلس الوطني الانتقالي بأن ' الدرس الموجود في أذهاننا هو العراق. لقد أردنا للعملية الانتقالية أن تكون هادئة، وكنا متحمسين لتجنب الاقتتال الداخلي (الفتنة) – أو ما حدث في العراق في مسألة ' الاستئصال البعثي'. بهذا المعنى، لم يكن الليبيون محتلين أبداً من قبل قوى ثورية. بدلاً من ذلك، طُلب فجأة من المجتمعات المسلحة بشدة، التي كانت قبل أسابيع تتقاتل بين بعضها تحت علمين مختلفين – علم النظام وعلم المتمردين - أن تتوقف عن القتال وتضع خلافاتها جانباً.
إذا كانت النزاعات الطائفية قد اتصلت، حصرياً، بدعم المرء للقذافي من عدمه، فإن الإعلان الرسمي عن انتهاء الأعمال العدائية قد يكون هو ما ميز انتهاء الصراع. إلا أن الانقسامات التي قسمت البلاد إبان الثورة لم تكن تتعلق مطلقاً بالولاء للقائد أو بعزله. فعلى مدى 42 عاماً، كان القذافي قد استغل وغذى التنافس وعدم الثقة بين المجتمعات، ضامناً بذلك تنافسهم على الموارد وعلى نيل استحسان ورضا السلطات المركزية. وقام النظام، وبشكل ناشط وفاعل، بنقل بعض السكان المحليين وتشجيع آخرين على إعادة الاستيطان، مولداً بذلك علاقة الاعتماد على السلطات- وبعض الدعم لها. كانت المحسوبية شائعة. إن إلغاء القنوات الرسمية والإفساد الروتيني لها من قبل وزراء القذافي، والمحافظين وبعض المسؤولين المكلفين بإنفاذ القانون أدى إلى رفع مكانة أفراد معينين وجعلهم فوق الحكومة. هذا الأمر قاد الليبيين إلى الاستفادة من الاتصالات الشخصية لديهم أينما كان ذلك ممكناً؛ وأصبح عدد من البلدات غنياً بسبب روابطها بالدائرة الداخلية للقذافي أو بكبار الوزراء، الذين كان بإمكانهم تقديم المكاسب لدوائرهم الشعبية، كالمستشفيات، الملاعب الرياضية أو الوظائف.
وبأسلوب مماثل، ضمن النظام بقاء قواته المسلحة مجزأة، مقسمة وفق خطوط طائفية ومجتمعية ومنفصلة فعلياً في حاميات على امتداد البلد. فالمحسوبية والمحاباة كانتا طاغيتين في الأجهزة الأمنية، مع توفير بلدات كبني وليد وترحونة وحدات هامة من المجندين. بالمقابل، ضعفت مجتمعات أخرى. وشملت هذه المجتمعات طبقة رجال الأعمال في طرابلس وبنغازي، الذين جُرِّدوا من ثرواتهم وأملاكهم، إضافة إلى أقليات عرقية مثل ' التيبو' و ' الطوارق'، الذين منحوا أو حرموا، بالتناوب، من الجنسية الليبية أو انتقال الحقوق إلى المناطق الجنوبية المجاورة لليبيا اعتماداً على المواقف المتحولة للقذافي تجاه أفريقيا وأوروبا.
نتيجة لذلك، ظلت التوترات المجتمعية والطائفية على سطح ساخن، لكنها كانت تجيش وتغلي على نار هادئة. وعادت للبروز مع التوترات المتجددة عندما تصرفت هذه الجماعات المختلفة بشكل متفاوت ومختلف إبان الثورة وبعدها. وفي حين فضلت قلة منها، كان القذافي قد اختارها في السابق، الوقوف إلى جانب الحركة الثورية الناشئة في بنغازي ومواجهة النظام، فإن معظم هذه الجماعات فضلت، ضمنياً، دعم النظام أو الوقوف على الحياد. وظهرت النقمة والعداوات الموجودة من قبل على السطح بشكل مباشر أكثر عندما سعى كثيرون، بداية سقوط النظام، وممن ظلوا على الحياد، إلى الانضمام لمجالس ولجان عسكرية إضافة إلى الحكومة الانتقالية. وشعر هؤلاء الذين شاركوا في الثورة بأنهم قد تعرضوا للغش والخداع وأحسوا بعدم الأمان. فمصطلح ' الطحالب' – المستنقع أو حثالة المجتمع- وجد طريقه في أسلوب التعبير كطريقة لوصف الميول ' 'الخضراء' ( أي الموالية للقذافي) لأولئك الذين نجوا من النظام القديم بانتظار وقتهم ومن ثم تغيير اصطفافاتهم ما أن يتحول اتجاه الريح. وكذلك الأمر مع مصطلح ' أزلام النظام السابق' – تسمية تثيرها بعض البلدات لتبرير الهجمات ضد جيرانها.
بعد سقوط طرابلس في آب 2011، كان عدد من الصراعات بتحريض من الجماعات المسلحة الذين جاؤوا من بلدات غربية موالية للثورة والتي كانت قد تحررت لاحقاً إبان الثورة. وتشمل هذه البلدات زوارة والزاوية الساحليتين قرب تونس، سوق الجمعة في ضاحية طرابلس وغريان البلدة الجبلية غرب ليبيا. ولاحقت هذه الجماعات المسلحة بحماسة، والمؤلفة من الشباب غير المنظمين والذين يفتقرون إلى الخبرة القتالية عادة، أفراداً مطلوبين في بلدات مجاورة ممن اعتبروهم موالين للقذافي – بسبب أعمالهم خلال الحرب وبسبب مشاعر الضغينة الطائفية والمجتمعية الكامنة على مدى 42 عاماً. وقال أحد الوجهاء من منطقة سوق الجمعة عن المقاتلين من بلدته، ' كنا لا نزال نخطو خطوات حرب، مما أثر على حكمنا. لا زلنا نرى أعداءً لنا في كل مكان'. وعندما دخل مقاتلو سوق الجمعة بني وليد في 24 تشرين الثاني 2011 لاعتقال مطلوبين أشعل الصدام الناتج عن ذلك مع السكان المحليين صراعاً بين تلك البلدتين لا يزال من دون حل حتى الآن.
أثار التنظيم المتسرع للمجالس المدنية العسكرية صراعات أيضاً في مناطق تنافست فيها شرائح متنافسة من المجتمع – بدعم من جماعاتهم المسلحة الخاصة- لأجل السلطة والسيطرة على هذه الهيئات والأجهزة المؤقتة. ففي ' غدامس'، البلدة الصحراوية المتاخمة التي تلتقي فيها الحدود الليبية- الجزائرية- التونسية في أقصى الغرب الليبي، عارض الطوارق المحليون، الذين استفادوا من نظام القذافي الذي منحهم الجنسية وحق التملك، المجالس التي نظمها سكان غدامس المؤيدين للثورة، الذين شكلوا أيضاً مجموعتهم المسلحة في الجبال الغربية. وبادعائهم أن سكان غدامس دمروا الأملاك وقاموا بعمليات اعتقال عشوائية عندما استولوا على البلدة بعد فرار الجيش القذافي، هاجم الطوارق رجال بلدة غدامس في 25 أيلول 2011. وفي القتال الذي حدث لاحقاً قتل 7 أو 8 أشخاص، واتهم كل جانب الجانب الآخر بالانتهاكات والإساءات. وفشلت مفاوضات التسوية لاحقاً بحل وضع المجالس أو قضية الأفراد المطلوبين، واستمرت الصدامات على امتداد النصف الأول من العام 2012.
كان هناك نزاع مشابه يختمر حول الجالس المحلية والعسكرية في بلدة بني وليد المركزية، حيث نصبت أقلية موالية للثورة نفسها قائدة للمجلس. ودخلوا الصراع مع سكان محليين حول قيادة المجلس ومصير ' أفراد مطلوبين' إضافة إلى مزاعم تتعلق بانتهاكات وأعمال نهب وسرقة. وسيطرت الأقلية على بني وليد التي يعد سكانها بالمئات فقط؛ فقد جاء هؤلاء من مجموعة صغيرة من عائلات انشقت عن قادة البلدة ودعموا ثورة 17 فبراير. إلا أن الأكثرية الساحقة من سكان البلدة كانوا عبارة عن موظفين في الدولة، واستفادوا، برغم فقرهم، من نظام المحسوبية والمحاباة من قبل أقارب لهم داخل الحكومة.
كان معظم الوجهاء المحليين مشككين، وبعمق، بفكرة الثورة ومشروعيتها. ولعبت الذكريات جزءاً لا بأس به في هذا الموضوع. إذ أثارت محاولة الانقلاب عام 1993 التي قام بها ضباط من البلدة عقاباً جماعياً وحشياً، ما جعل الوجهاء ينقلبون على بعضهم البعض. كما أن النظام جعل البلدات المجاورة تنقلب ضد بني الوليد. نتيجة لذلك، كان معظم أهالي بلدة بني الوليد إما معارضين لحركة الثورة وإما حياديين؛ فقد تطوع كثير من شبان البلدة لصالح قوات القذافي في برقة ومصراتة. وفي 28 أيار 2011، نظمت الأقلية الموالية للثورة تظاهرة صغيرة في سوق الخضار الرئيس؛ فتم طردهم وإخلاء البلدة منهم على يد الأهالي الآخرين. وبحسب بعض التقديرات، تم إعدام 12 من المتظاهرين في مدرسة مجاورة للسوق.
عند العودة، سجلت الأقلية الموالية لثورة ' 28 مايو' نقاطاً، باعتقالها واحتجازها ' مطلوبين' ونقلهم إلى سجون ( معظمها غير شرعية) في مصراته، الزاوية أو طرابلس بناء على طلب ألوية ثورية أخرى. وفي 24 تشرين الثاني، استدعى هؤلاء الدعم من سوق الجمعة، البلدة المجاورة، التي وقعت كتيبتها في كمين نصبه أهالي بني وليد على مدخل البلدة. وقتل أربعة، ما أثار صراعاً لا يزال من دون حل بين المجتمعين. أما بما يتعلق بـ 'غدامس'، فقد فشلت المفاوضات حول تركيبة المجالس المحلية، التي توسطت فيها الزنتن، لأن التفاهم الذي تم التوصل إليه كان غامضاً وملتبساً كلياً، ولأن بني وليد لن تسلم ' مطلوبين'، بعضهم من كبار وجهاء وأعيان البلدة. وفي 23 كانون الثاني 2012، تم إخلاء مجموعة 28 مايو من البلدة عل يد أهالي بني وليد، بدعم من بلدات مجاورة شعرت بتهديد وخطر هذه المجموعة بنفس القدر. ودام القتال ثمان ساعات، قتل فيه أربعة وجرح عشرون، لكن القتال كان مدعوماً من الأهالي إلى حد كبير. أما أولئك الذين فروا فقد استمروا بإثارة الرأي العام ضد قيادة البلدة من طرابلس ومصراتة البعيدتين.
المناطق الحدودية المضطربة: زوارة، كُفرا، وسبها
كانت شبكات المحسوبيات وتكتيكات ' فرق تسد' للقذافي واضحة وجلية في بلدات حدودية في الجنوب والغرب. فزوارة، وهي بلدة كبيرة على الطريق الساحلي وصولاً إلى الحدود التونسية التي تتقاطع عند رأس جدير، كانت من بين تلك البلدات التي عانت من معاملة غير منصفة. فقد كتمت الكثير من المظالم والشكاوى من جاراتها في الجميل، ريغدالين، زليتن، وهي ثلاث مجتمعات استفادت من نواح مختلفة من نظام القذافي. فقد استفادت هذه البلدات من استثمارها لعدد أكبر من الوظائف، ويعزى ذلك، جزئياً، إلى الصلات مع وزير الصحة ورئيس الوزراء آنذاك عمر البغدادي المحمودي، ابن بلدة الجميل. في هذه الأثناء، رزح أهالي زوارة تحت وطأة الظلم، فقد كانوا يفتقرون لأمور كثيرة كالمستشفى مثلاً وأجبروا على العيش قرب محطة إيثيلين الملوثة بشدة والتي كان الفريق العامل فيها من أهالي الجميل وريغدالين إضافة إلى مجتمعات أخرى متاخمة لزوارة. هذا الوضع جعل التوترات الموجودة سابقاً وذات الصلة بالأراضي بين زوارة وجاراتها تزداد سوءاً، حيث زعم سكان زوارة بأن أهالي جميل وريغدالين هم من المهاجرين إلى المنطقة في الآونة الأخيرة والذين استوطنوا واستولوا على أراضٍ تابعة لزوارة.
إبان صراع 2011، كانت قوات القذافي الحامية للمعبر الحدودي في رأس جدير متمركزة في الجميل وريغدالين واستخدمت تلك البلدتين كقواعد لها لقصف زوارة بشكل دوري. ولم تحوِّل الجميل وريغدالين اصطفافها وتنحاز إلى قضية المتمردين علناً إلا بعد سقوط طرابلس مباشرة، عندئذ بدأت الجماعات المسلحة الزوارية بمهاجمتهما - كشكل من أشكال الانتقام وبسبب المخاوف من أن تقديمهما المساعدة للمتحزبين للقذافي للفرار من البلد. وبين 26 آب و4 تشرين أول، تحرش الزواريون بالبلدتين وهاجموا سكانهما، مهددين بتنفيذ ' طوارغة ثانية' – رمز للعنف العشوائي والطرد والإخلاء على صعيد ضخم- قبل فرض لواء مصراتة هدنة في النهاية.
شهد فراغ السلطة الذي أعقب سقوط النظام محاولات لتصفية حسابات قديمة إنما كانت محاولات أيضاً أحيت النزاعات للسيطرة على طرق التهريب – يمكن القول بأن هذا الأمر هو الدافع الهام والبارز للصراع على امتداد الأراضي الحدودية. هنا، أثبت بناء التحالف الموجود بين القوى الأمنية للدولة الحديثة العهد والجماعات المحلية المسلحة بأنه مؤذ ومضر بشكل خاص. وبعد أيلول 2011، صاغت القوى الأمنية للسلطات المركزية الانتقالية تحالفاً مع المجلس العسكري لزوارة والجماعات المسلحة لإدارة المعبر عند راس جدير. وانتهزت ألوية زوارة الفرصة للتحرش بأهالي الجميل وريغدالين واحتجازهم؛ ففي جنوب راس جدير، توغل لواء زوارة وألوية ثورية أخرى في طرق التهريب المؤدية من وإلى تونس والتي كانت تمر عبر أراضي الجميل وريغدالين.
في 26 آذار 2012، ضمن الزواريون تفويض وزارة الدفاع لتشكيل وحدة ' حرس الحدود' الجديدة، خليط من الألوية الثورية والجماعات المسلحة المحلية التي سعت إلى السيطرة العسكرية على الحدود ( أو استولت عليها أحياناً). وكجزء من هذه الجهود انضمت الوحدات الزوارية إلى بعضها مع مقاتلين غربيين آخرين ( من الزاوية والنالوتي) لتأسيس نقطة تفتيش عند العصا، قرب ريغدالين. بعد خمسة أيام من القتال، تم القبض على 29 من الزواريين على يد المقاتلين الجميليين، مما أشعل قتالاً دام ثلاثة أيام أخرى؛ وقصفت الجماعتان بعضها البعض بالأسلحة الثقيلة، ما أسفر عن مقتل 48 شخصاً.
تكرر نفس خليط النزاعات القديمة والمعارك المعاصرة للسيطرة على طرق التهريب في الجنوب. فقد كان هذا هو الحال في كُفرا، البلدة الجنوبية الشرقية التي طالما خبرت صدامات بين ' الزوي'، وهي قبيلة عربية، و' التيبو'، وهي جماعة اثنية أهلية من شبه الصحراء تسكن جنوب ليبيا، التشاد، والنيجر. ففي فراغ السلطة الحاصل بعد الإطاحة بالقذافي، سيطر عبد المجيد عيسى، القائد العسكري للتيبو الذي أخذ جانب الثورة هناك، على طرق التهريب الحدودية وأخذها من جماعة 'الزوي'. هذا الأمر أدى إلا اضطراب في توازن القوى بين المهربين التيبو وجامعي التعرفة من قبيلة الزوي، الذين يدبرون بيوتاً آمنة للمهربين ويجمعون رسوماً أخرى على المواد المهربة. وعلى مدى الأسبوعين الأولين من شباط 2012، أصبحت البلدة ساحة صراع كامل اندلع بسبب حادث إطلاق نار أدى إلى موت رجل من قبيلة الزوي على أيدي ميليشيا للتيبو؛ وسرعان ما قتل شاب من التيبو أيضاً.
هذه الحوادث أثارت قتالاً ضارياً على نطاق المجتمع المحلي، رغم أنه بدأ بأسلحة صغيرة، وتصاعد بسرعة ليشمل القاذفات الصاروخية والأسلحة المضادة للطائرات. وغذت الأحكام المسبقة القديمة والمبنية على أساس عرقي ضد قبيلة التيبو تلك النار. فقد عزلت الصدامات الوحشية بعض مناطق التيبو بالكامل عن العالم الخارجي واستقطبت أهالي كُفرا بعمق. وقام الوجهاء المحليون بمفاوضات حول الهدنة، بدعم من الجيش ووحدة من المقاتلين الثوريين الشرقيين، لكن ، وفي تصوير حاد للتحديات التي تواجه استمرار وقف إطلاق النار وثباته، انهار التفاهم، تكراراً، في نيسان ومن ثم في حزيران 2012.
أما في سبها، العاصمة الإدارية الرئيسة لجنوب غرب ليبيا ( فزان)، فقد اندلع صراع مجتمعي مشابه بين الجماعتين العرقيتين، العرب والتيبو، بسبب سرقة سيارة. ففي 26 آذار 2012، اندلع قتال في البلدة عندما أتهم أفراد من المجتمع الإثني العربي أولاد بو سيف، شاباً من التيبو بسرقة سيارة. في ذلك الحين، كانت مجموعة إثنية عربية أخرى هي أولاد سليمان، تسيطر على المجلس العسكري المحلي؛ وجعل قرارها بالتدخل في النزاع - برغم العداء العريق بين الجماعة والتيبو- المسائل أكثر سوءاً. كما تحوَّل اجتماع للمصالحة في ' قاعة الشعب' ( مبنى البلدية في حقبة القذافي) وتدهور إلى اشتباك، مع الهجوم على فريق التفاوض وسط الاجتماع. تلا ذلك خمسة أيام من القتال الضاري، مع تقارب وتلاقي أهالي سبها من مختلف المجتمعات العربية – بمن فيهم أولاد سليمان- وقصفهم العشوائي لمدن الصفيح للتيبو؛ ولاقى 148 شخصاً على الأقل حتفهم وجرح 500. وكما في كفرا، اقترنت مشاعر الضغينة والأحقاد حول طرق التهريب مع التمييز التقليدي ضد التيبو، وغذت الصراع وعقدت مهمة المفاوضين حول حل سلمي.
أما بالنسبة للمجلس الوطني الانتقالي، الألوية الثورية، الجيش، أجهزة أمن الدولة، والوجهاء المحليين، فقد كانت التحديات متشعبة ومعقدة. إذ كانت مهمتهم فرض وقف لإطلاق النار بأسرع وقت ممكن، صياغة تسويات سلمية بين المجتمعات المتضررة والمحاصرة وتنفيذ تلك التفاهمات أو المخاطرة بحصول حوادث عنف أكبر. ومع كل أزمة من الأزمات ومع الممارسات المتراكمة، تحسن تجاوبهم الجماعي، رغم عدم حل الصراعات المجتمعية بشكل كاف أو بالكامل. وبحلول نيسان- أيار 2012، اعترف كبار المسؤولين الحكوميين والأمنيين بأن حلول ' الجذر والفرع' كانت لتعزز وتدعم بالواقع الهدنة اللزجة، التي كانت تنهار، في حالات معينة مثل كُفرا.
افتقرت الاتفاقيات التي كان يتوصل إليها الوجهاء المحليون إلى أسنان القوة لأن غياب السلطة المركزية والقضاء الموثوق جعلها غير قابلة للتنفيذ عملياً؛ لقد كان من الصعوبة بمكان رفع دعاوى تتعلق بالأراضي المتداخلة والمتشابكة، أو بالملكية، وقضايا الجنسية والقضاء الانتقالي من دون حكومة فاعلة وذات مصداقية. فضلاً عن ذلك، ونظراً للساحة الأمنية المنقسمة وللتوترات السياسية العميقة المصاحبة الموجودة بين الثوار والقوى الأمنية الحكومية إضافة إلى المجالس العسكرية المحلية، كان الدافع للجيش ومجموعات أخرى مرسلة لفرض الأمن وإدارة عمليات الهدنة هو بناء تحالفات مع مجموعات مسلحة محلية، و أحياناً تجنيدهم بكل بساطة. هذا الأمر قوَّض، وبشكل حاسم، حياديتهم، إضافة إلى تقويض إيمان الليبيين بالنظام الجديد.
تعبئة الفراغ الأمني
خلال الفترة الانتقالية، كان رد المجلس الوطني الانتقالي والحكومة التنفيذية التي عينها المجلس على الصراعات المجتمعية رداً اعتباطياً. إذ قال مسؤول من مكتب رئيس الوزراء، ' كنا نعلم، عموماً، بأن هذه التوترات والقضايا موجودة، لكن كان من المستحيل المعرفة سلفاً أياً من هذه التوترات هي التي ستنتشر وتتحول إلى عنف'. وقد بارك المجلس الوطني الانتقالي ودعم الوجهاء المحليين في مسعاهم لقيادة لجان المصالحة؛ وشارك بعض الأعضاء لصالح المجلس الوطني الانتقالي. إلا أن 'مجالس المتابعة' الخاصة بالمجلس الانتقالي الوطني المصممة لمراقبة تنفيذ الهدنة لم تدم أكثر من بضعة أيام أو أسابيع غالب الأحيان، إلى حين فرض ألوية ثورية الهدنة لصالح الجيش واجبار الوجهاء المحليون المجتمعات المتحاربة على عدم استئناف إطلاق النار. وبالتالي لا يكون لجهود المجلس الوطني الانتقالي سوى تأثير محدود فقط؛ فقد عملت هذه الجهود، في الحد الأقصى، على التواصل مع مصالح المجلس الوطني الانتقالي وخلق شعور مؤقت بالنشاط.
أما بالنسبة لمعظم الطبقة السياسية البارزة – المجلس الوطني الانتقالي ومستشاريه إضافة إلى الأحزاب السياسية الحديثة العهد – فلم يكن ذلك كافياً. لقد اعتقدوا بأن دور الحكومة، وبشكل رئيس، هو وجوب استخدام الوسائل العسكرية لجعل الجماعات المسلحة تحت السيطرة. وقد عكس هذا الشعور شوقاً أوسع لوجود عسكري قوي امتد عبر الطيفين الاجتماعي والسياسي. واعترف الناطق باسم رئيس الوزراء بهذا قائلاً:' نحن نعلم بأنه كان هناك قتال في زوارة، سبها، وكُفرا لسنوات. فمع وجود الثورة، تكون سيطرة الدولة أضعف ويزداد العنف، وهذا طبيعي. نحن بحاجة إلى جيش قوي وموحد لإعادة فرض السيطرة'.
إن كان هناك من شيء، فهو أن خطوات المجلس الوطني الانتقالي كانت متوجهة بالاتجاه المعاكس. فإلى جانب الألوية الثورية، فقد ترأس، وعن غير قصد، عدد كبير من المجالس العسكرية المحلية والجماعات المسلحة الموجودة تحت سلطة وزارتي الداخلية والدفاع، ظاهرياً فقط. كان الجيش والشرطة في حالة فوضى. فالضباط والجنود الذين لم ينشقوا إما فروا من الخدمة، أو قتلوا أو سجنوا؛ فالجيش الجديد، الذي نهبت أسلحته ومعداته، كان لديه عجز في العديد والعدة. أما الأمر المثير للاستياء فهو أن الثوار المسلحين بشكل أفضل قاموا بإنشاء تنظيماتهم الخاصة الموازية للجيش، والتي وصلت ذروتها في ' قوات درع ليبيا'، التي لم يكن للجيش أية سيطرة عليها – رغم أنها، تقنياً، تعتبر مسؤولة أمام رئيس الأركان في القوات المسلحة. فقد تواصل وزير الداخلية مع أولئك الذين نسقوا المقاومة المدنية المسلحة إبان الثورة، ما أدى إلى إنشاء ' اللجنة الأمنية العليا' التي عملت بالتوازي مع الشرطة. وما أن سعى الوزراء وقادة الثورة إلى طريقة للخروج من إرباك المؤسسات وسلسلة القيادة الموازية، حتى واجهتهم موروثات الثورة وتداعياتها.
المقدمة: http://www.rsgleb.org/modascii117les.php?name=News&file=article&sid=358
الجزء: الأول: http://www.rsgleb.org/modascii117les.php?name=News&file=article&sid=357
الجزء الأخير: http://www.rsgleb.org/modascii117les.php?name=News&file=article&sid=356