أوراق إستراتيجية » التكيف الاستراتيجي: نحو استراتيجية أميركية جديدة في الشرق الأوسط

بروس و.جنتلسون ( بروفسور السياسة العامة والعلوم السياسية في" جامعة Duke ")
أندرو م. إكسام ( زميل كبير في "مركز الأمن الأميركي الجديد")
ميليسا ج. دالتون ( زميل زائر في " مركز الأمن الأميركي الجديد")
ج. دانا ستاستر ( باحثة في " مركز الأمن الأميركي الجديد")
Center for a New American Security
حزيران، 2012

موجز تنفيذي
ينبغي على الولايات المتحدة إعادة تقويم استراتيجياتها للإنكباب على معالجة التغييرات الكاسحة الجارية عبر الشرق الأوسط. ستركز مقاربة " التكيف الاستراتيجي"على الأزمات في المدى القريب والتي تعتبر الأكثر بروزاً بالنسبة للمصالح الأميركية، كما ينبغي لها أن تجعل من الإصلاح السياسي في المنطقة أولوية وأن تنكب على معالجة التوجهات على المدى الطويل في الوقت الذي تعمل فيه على التخفيف من حدة المخاطر. إن الأزمة الحادة في الشرق الأوسط اليوم تهدد المصالح الأميركية. لكن إذا ما استطاعت الولايات المتحدة معالجة توجهات المدى الطويل بمرونة استراتيجية ودهاء ديبلوماسي، فإنها قد تصبح بمرور الوقت أقل عرضة للتهديدات في المنطقة بشكل هام.
هذا التقرير يستكشف تفاعل وتداخل المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، كما يستكشف الكيفية التي تغير فيها السياق الاستراتيجي في المنطقة والتأثيرات المرافقة لذلك على المصالح الأميركية. وينتهي التقرير بتقديم إطار عمل لتوجيه عملية رسم وصنع السياسات الأميركية. ويحدد إطار العمل هذا الأولويات، بالتركيز على التهديدات الموجودة في المدى القريب كما يركز على التوجهات للمدى البعيد، لمساعدة صناع القرار الأميركيين على خدمة مصالح الأمة وجعلها تسير قدماً.
إن الخطر الحقيقي بالنسبة للاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط هو عدم الاستعداد للاعتراف بمدى عمق التغيير الذي حصل في السياق الاستراتيجي ومدى الحاجة لإستراتيجيات تعكس هذا السياق المتغير. لقد استثمرت الولايات المتحدة بشكل مفرط في أكثر الأنظمة اللا ديمقراطية في المنطقة. فقد كانت هذه الاستراتيجية، لسنوات، الاستراتيجية " الآمنة"، لكنها تضع المصالح الأميركية في خطر على المدى الطويل. هذه ليست ملاحظة جديدة، لكن الربيع العربي يجعل هذا الواقع أكثر وضوحاً عن قبل.
وفي حين لا تزال بعض المصالح الأميركية منسجمة وبعضها قد تغير من حيث الأهمية، فإن هناك مصالح أخرى في حال من التوتر والتأزم للمرة الأولى. إذ هناك خمس تطورات إقليمية حصلت تميز السياق الاستراتيجي المتغير: تحول التهديدات الإقليمية، السياسات التحولية للربيع العربي، التغييرات في نطاق وحجم خطر الإرهاب، خليط التعاون والتوترات في العلاقات الأميركية- الإسرائيلية والتوجهات المؤثرة على أمن الطاقة.
نظراً لهذا السياق الإستراتيجي المتطور، نقترح هنا مجموعة من الأولويات لصناع القرار السياسي الأميركيين. إذ ينبغي على الولايات المتحدة، في المدى القريب الإنكباب على معالجة الأزمات التي تهدد، مباشرة وآنياً، مصالح البلاد. هذه الأزمات تشتمل على:

برنامج السلاح النووي الإيراني.
الحروب الأهلية في سوريا واليمن.
التوترات الحديثة بين إسرائيل ومصر، والتي تعرض السلام بينهما للخطر.

في نفس الوقت، ينبغي على صناع القرار السياسي معالجة ثلاث توجهات بحيث يمكنها، بمرور الوقت، إما التوصل إلى تسوية حول المصالح الأميركية وإما التقليل من تعرض أميركا للمخاطر في المنطقة. ينبغي للولايات المتحدة البدء بتكييف سياساتها الآن لتسخير الإمكانات والتخفيف من حدة مخاطر هذه التوجهات على المدى الطويل:

عودة الحياة السياسية للعالم العربي والحاجة الناجمة عن ذلك لإشراك الشعوب العربية، وليس الأنظمة فقط، لمواصلة العمل على إستراتيجية مختلفة ومتمايزة تجاه الإسلام السياسي وجعل الإصلاح السياسي أولوية، إضافة إلى دعم الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي.

التقليل من الاعتماد الأميركي على دول الخليج الفارسي بسبب ثلاث عوامل: الانسحاب الوشيك للجيوش الأميركية في المنطقة، الطلب المخفض على موارد الطاقة الإقليمية والانتقال من توفير متطلبات الأمن الإقليمي إلى تمكين الحكومات المحلية من تولي زمام القيادة للأمن الإقليمي. بإمكان الولايات المتحدة استخدام هذه الفرصة لتكييف العلاقات الأمنية ووضع القوات الأميركية، والضغط على الأنظمة الخليجية للقيام بالإصلاح، في الوقت الذي تستمر فيه بالتخطيط لحالات طارئة تتعلق بإيران وحماية الممرات البحرية لضمان وصول النفط إلى أسواق الطاقة العالمية.

التوترات الأساسية الموجودة في العلاقة الأميركية مع إسرائيل والحاجة المستمرة لإنعاش عملية السلام العربية ـ الإسرائيلية.

إذا ما تم تولي معالجة هذه التوجهات جيداً، فإن المستقبل قد يبدو أقل تهديداً وخطراً بالنسبة لصناع القرار الأميركيين مما هو عليه في الوقت الحاضر.

مقدمة: استراتيجية أميركية جديدة.. لماذا؟

إن الشرق الأوسط في حالة تحول، والوقت مناسب لإجراء إعادة تقييم أساسي للتوجهات الأساسية هناك، إضافة إلى إعادة تقييم المصالح الأميركية في المنطقة والخيارات السياسية المناسبة لمواصلة هذه المصالح.
لقد سبق للقادة الأميركيين وأن أشاروا، أساساً، إلى نيتهم بتحويل الموارد إلى شرق آسيا، بسحبهم آخر الجنود المتبقين من العراق والخطط المعلنة بسحب الالتزام العسكري الأميركي بأفغانستان بحلول عام 2015. لقد قامت الولايات المتحدة بهذه التغييرات بعد سلسلة من الثورات التي كان يعتقد عدد من العلماء السياسيين والمحللين السياسيين بأنها غير محتملة، لكنها، وفي استعادة للماضي، تبدو أمراً حتمياً.
بعد مرور أكثر من عام من الثورة في المنطقة، يمكننا أن نرى بوضوح بعض الفرضيات الخاطئة التي اعتمدت عليها السياسة الأميركية لسنوات عديدة. وتتضمن هذه الفرضيات الأمور التالية:

أن بإمكان الولايات المتحدة الاعتماد على الأنظمة العربية لأجل التعاون الأمني وإستقرار أسواق النفط والغاز الطبيعي من دون التشديد على الإصلاحات السياسية والاقتصادية.

أن عملية السلام العربية - الإسلامية، حتى لو توقفت، فإنها ستتقدم باتجاه حل الدولتين.

أن العلاقات مع إسرائيل، وبرغم جدليتها، مستمرة بناءً على استشراف استراتيجي موحد.

أن الولايات المتحدة فاعل رئيس في المنطقة ويمكنها محاربة الخصوم والأعداء بشكل فعال.

إن كل هذه الفرضيات بحاجة للمراجعة. فالاضطرابات في البحرين توضح الصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة عندما يشن حكم استبدادي هي متحالفة معه حملة على الطموحات الديمقراطية لشعبه. أما عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين فتحتضر، في الوقت الذي كانت العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل تتعرض لضغوطات بسبب المفاهيم والنظرة المختلفة للتهديدات والأولويات. أما إيران ووكلائها فمستمرون بتحديهم للولايات المتحدة.

هذا التقرير يعيد، وبشكل منهجي، درس السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بدءاً بالمصالح الأميركية وانتهاءً بالتوصيات السياسية التي تعكس تلك المصالح إضافة إلى الطرق التي تغيرت بها المنطقة في السنوات الأخيرة. ونبني تحليلنا حول ثلاث تساؤلات جوهرية:

ما هي المصالح الأميركية في المنطقة؟
ما هي القوة القوى المحركة والدافعة في المنطقة التي تشكل السياق الذي تواصل فيه الولايات المتحدة العمل على مصالحها فيها؟
نظراً لهذه المصالح والسياق الاستراتيجي، ما هي الأولويات والخيارات بالنسبة لصناع القرار السياسي الأميركي؟

إننا نقترح مقاربة " التكيف الاستراتيجي". ففي حين لا يزال عدد من السياسات الأميركية القديمة مناسباً، فإننا نشدد على التكيف إزاء بيئة إستراتيجية تغيرت بشكل كبير ومن المرجح أن تستمر بذلك. إذ هناك، تحديداً، عدد من التهديدات والتحديات المنبثقة من إيران، سوريا واليمن إضافة إلى العلاقات الإسرائيلية- المصرية، التي تتطلب اهتماماً مباشراً من قبل صناع القرار الأميركي. لكن ما هو بنفس القدر من الأهمية هو أن قيام الولايات المتحدة بتكييف سياساتها لتسخير إمكاناتها والتخفيف من مخاطر التوجهات على المدى الطويل في المنطقة، بتوظيفها درجة عالية من المرونة الاستراتيجية والدهاء الديبلوماسي.
قد يصدم مفهوم التكيف نفسه البعض بصفته مفهوم " انحداري"، بما أننا أوصينا في بعض الحالات أن تخفض الولايات المتحدة من التزاماتها في المنطقة. برغم ذلك، إن الفخ الحقيقي بالنسبة للاستراتيجية الأميركية في المنطقة ليس الانحدارية وإنما الإنكار ـ عدم الاستعداد للاعتراف بمدى عمق تغير السياق الاستراتيجي الحاصل. فعندما تتغير الظروف أو عندما تكون السياسات لا تعمل وتؤدي الغرض منها، فإن البقاء على المسار يعتبر أقل أهمية من الاستعداد للتكيف والقيام بذلك بطرق تعزز الفعالية السياسية. وكما كان هانز مورغينتو، الواقعي البارز، قد حذر مرة قائلاً بأن "مخلفات وسائط الفكر والعمل التي كانت مناسبة سابقاً قد عفا عليها الزمن الآن بسبب واقع اجتماعي جديد يقوض فحسب قوة الأمم العظيمة".

طرق البحث
لقد وظفنا مختلف الطرق والأساليب لاختبار الفرضيات. بدأنا بحثنا هذا في تشرين الثاني 2011 بممارسة تحليل تنافسي لتحديد المصالح الأميركية في المنطقة بشكل أفضل وتحديد الكيفية التي ينبغي فيها للولايات المتحدة وضع الأولويات لتلك المصالح. لقد جندنا فريقين من كبار الباحثين والعاملين وطرح كل من الفريقين نفس الأسئلة. ومن ثم قمنا بحصد الأجوبة المقدمة، مع الإشارة أين تداخلت الإجابات وأين اختلفت.
وفي كانون الثاني وشباط 2012، جمعنا عدداً أكبر من الخبراء لمساعدتنا على التفكير في ثلاث مجالات من مراكز النشاط: أنشطة الجيش الأميركي والاستخبارات الأميركية في الشرق الأوسط، المبادرات الديبلوماسية الأميركية والمقاربات هناك، والفرص الاقتصادية وفرص التنمية في المنطقة. وبسبب الأسئلة ذات الصلة بوضع القوات الأميركية في الخليج الفارسي التي لاحت في الأفق في كل البحث الذي أجريناه، دعونا مجموعة عمل منفصلة في آذار 2012 لاطلاعنا والتفكير بشكل أفضل حول ذلك الموضوع. لقد أشركنا عدداً من الخبراء في المجال الأكاديمي، الحكومة الأميركية، والمنظمات غير الحكومية ( NGOs ) وأكملنا هذه الجهود ببحث وثائقي مكثف ومقابلات مع خبراء وصناع قرار أساسيين.
هذا التقرير لا يحاول الإجابة على كل سؤال سياسي يربك المسؤولين الأميركيين في الشرق الأوسط. رغم ذلك فإن ما نحاول القيام به هو تحديد أهم المخاطر والفرص المنتظرة بالنسبة للولايات المتحدة وصنع توصيات حول الكيفية التي يمكن فيها للولايات المتحدة التخفيف من حدة المخاطر والاستفادة من التوصيات.

المصالح الأميركية في الشرق الأوسط: الاستمرارية والتغيير

إن المصالح الجوهرية للولايات المتحدة محددة، نمطياً، كالتالي:

حماية أمن وسلامة أراضي الولايات المتحدة وحلفائها الرئيسيين ضد هجوم خارجي.
ضمان الازدهار الاقتصادي الأميركي ( المرتبط عادة بالحفاظ على اقتصاد دولي مفتوح).
الحفاظ على " طريقة الحياة الأميركية" ـ مصلحة تتضمن تعزيز القيم الأميركية والعالمية.

كل هذه المصالح الثلاث تطلعنا على الاهتمامات الأميركية الخمس الرئيسة في الشرق الأوسط، معظمها شكل السياسة الأميركية لعقود.
أما اليوم، فينبغي على الولايات المتحدة إعادة تقييم هذه المصالح في المنطقة في ضوء الديناميكيات المتطورة في الشرق الأوسط.

الردع ، الاحتواء والدفاع إزاء التهديدات الإقليمية: إن التهديدات الجيوسياسية المنبثقة عن الشرق الأوسط، وفي الوقت الذي لا تزال تعتبر هامة، فإنها تعتبر أقل بروزاً مما كانت عليه في فترات سابقة. إن إيران هي الدولة الوحيدة التي تتحدى الولايات المتحدة في المنطقة. نحن نؤكد على أن التهديد الذي تعرضه إيران يتضاءل ويبهت مقارنة بذاك الذي كان للإتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، ويمكن القول بأنه أقل بشكل هام من تهديد عراق صدام حسين.
أنظمة عربية مستقرة: لقد جعلت الولايات المتحدة التعاون الأمني واستقرار أنظمة صديقة في المنطقة، إنما استبدادية، أولوية لها وسيلة لغايات أخرى، كمحاربة الإرهاب واستقرار أسعار النفط في السوق العالمية. هذه الأولويات فاقت هواجس أخرى، كتعزيز الديمقراطية أو حقوق الإنسان، إلى درجة أصبح الاستقرار غاية بحد ذاته. في كل الأحوال، إن الثمن المرتبط بأولوية التعاون الأمني، عبر المنطقة، على حساب الإصلاح السياسي أكبر بكثير اليوم مما كان عليه تقليدياً بالنسبة لصناع القرار السياسي الأميركي. لقد مكنت الحياة السياسية التحولية للربيع العربي الناس وأحزاباً جديدة من المطالبة بأن تسمع الولايات المتحدة وأنظمتهم أصواتهم. أما في المدى الطويل، فإن الاستقرار الإقليمي لن يجد طريقه على حساب الإصلاح السياسي وإنما من خلاله.
مكافحة الإرهاب: وفي حين لم تبدأ جهود مكافحة الإرهاب الأميركية مع هجمات 11 أيلول، فقد تناول صناع السياسة المسألة بداية الهجمات على أن لا تهديد أكثر إلحاحاً من التهديد الذي تشكله القاعدة والمنظمات الإرهابية المتصلة بها العابرة للحدود. وقد تطلبت الجهود المبذولة لتعطيل القاعدة وتفكيكها وإلحاق الهزيمة بها موارد عسكرية واستخبارية هائلة ودفعت الولايات المتحدة إلى تعميق علاقاتها أمع أنظمة متصلبة، كنظام علي عبد الله صالح في اليمن ونظام حسني مبارك في مصر، اللذان أثبتا عدم استقرارهما لاحقاً. أما اليوم، فإن الإرهاب في المنطقة لا يزال يمثل تهديداً جدياً وخطيراً لكنه انخفض نطاقاً وحجماً. فالقاعدة والتابعين لها يشكلون اليوم تهديداً أقل بسبب عوامل مختلفة، بما فيها جهود مكافحة الإرهاب الأميركية، الربيع العربي والأخطاء المرتكبة من قبل القاعدة.

الأمن الإسرائيلي والسلام العربي- الإسرائيلي: ضمنت الولايات المتحدة أمن إسرائيل وبقائها منذ تأسيس إسرائيل، وهي مصلحة تعززت خلال الحرب الباردة حيث سعى كل من البلدين إلى محاربة وكلاء الإتحاد السوفياتي. وقد تقاسمت الولايات المتحدة وإسرائيل بعد الحرب الباردة أعداء جدد حيث حارب البلدان تنظيمات إسلامية تستخدم العنف إضافة إلى أنظمة معادية في طهران ودمشق. ومنذ حرب أكتوبر 1973، كانت مسألة صنع تقدم باتجاه العملية العربية- الإسرائيلية جزءاً لا يتجزأ من الجهود الأميركية لضمان أمن إسرائيل. فقد رعت الولايات المتحدة اتفاقيات السلام بين إسرائيل وكل من الأردن ومصر وقادت، منذ التسعينات، جهوداً دولية لرعاية سلام بين إسرائيل والفلسطينيين. كما كانت الولايات المتحدة، وبشكل دوري، على طرفي نقيض مع حليفتها الإسرائيلية بخصوص الوسائل المناسبة لتحقيق السلام. رغم ذلك، وفي الآونة الأخيرة، وبينما لا تزال المصالح المشتركة والتعاون قوياً في عدد من المجالات، فقد تزايدت التوترات الأميركية- الإسرائيلية وأصبحت أكثر جوهرية. أما بما يتخطى الافتقار للدفء على المستوى الشخصي بين الرئيس باراك أوباما ورئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، فإن التباين الموجود في المفهوم للتهديدات والاستراتيجيات إضافة إلى التغيير السياسي في كلا البلدين، مسألتان تضغطان على العلاقة.
امكانية الوصول المستقر إلى النفط بأسعار معقولة:حتى أوائل السبعينات، كان النفط يتدفق بحرية. ومنذ حرب أكتوبر 1973 والحظر الذي قامت به منظمة الدول المصدرة للنفط ( أوبك)، والولايات المتحدة تكرس موارد عسكرية وجهوداً ديبلوماسية أكبر باتجاه ضمان الوصول إلى موارد الهايدروكربون في المنطقة.

أما اليوم ، فإن الولايات المتحدة تصبح أقل اعتماداً أكثر فأكثر على تلك الإمكانية وذلك بفضل الاستهلاك الأميركي المخفض وموارد الطاقة المحلية الجديدة. ومع أن الخليج الفارسي يظل مهماً، لأن الاقتصاد العالمي لا يزال عرضة لانقطاع تدفق النفط والغاز، هذا من جانب ومن جانب آخر لأن النفط يتم تسعيره كسلعة عالمية. في هذه الأثناء، تبع الأزمة المالية التي بدأت في العام 2007 تعافي هش معرض للخطر من جراء أي عجز جدي باستجلاب موارد النفط والغاز من الخليج الفارسي إلى السوق.

السياق الاستراتجي المتطور: التهديدات الإقليمية

هناك عوامل مختلفة ومتنوعة تجعل من الشرق الأوسط أقل أهمية بالنسبة للولايات المتحدة من السنوات الماضية. وبما أن الولايات المتحدة تقلص عملياتها العسكرية في العراق وأفغانستان، وبما أن تهديد الإرهاب الدولي ينحسر، فإنها تعتمد بشكل أقل على الأنظمة الإقليمية لأجل التعاون الديبلوماسي، العسكري والاستخباري. فالتحديات العديدة على المدى القصير ستعيق قدرة الولايات المتحدة على إعادة توازن اهتماماتها للتركيز بشكل أكبر على آسيا ومناطق أخرى ذات أولوية: إيران، التداعيات المحتملة للصراعات في اليمن وسوريا، والقلق بشأن اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر.

إيران
إن إيران هي الدولة الوحيدة التي تشكل تهديداً للمصالح الأميركية في المنطقة. إن عدم استعدادها للإذعان لالتزاماتها بخصوص عدم الانتشار النووي يهدد المصالح الأميركية في الاستقرار الإقليمي، أمن إسرائيل ونظام عدم الانتشار الشامل. في هذه الأثناء، يسهل الدعم الإيراني لمنظمات التطرف والعنف في العراق، لبنان وغزة الإرهاب ويساهم في وجود حالة أكبر من عدم الاستقرار في المنطقة. وتستمر إيران، محلياً، في خنق حركة الاحتجاج اللا عنفية في الوقت الذي تتآمر للقيام بهجمات إرهابية في الخارج. وتسمح القدرات البحرية المحتملة لإيران بتعطيل حركة مرور النفط والغاز عبر مضيق هرمز.
لم يؤد شبح التهديد النووي الإيراني إلى زيادة الهواجس الإسرائيلية فحسب وإنما رفع تلك التي لدى حلفاء أميركا في الخليج الفارسي. إذ تعبِّر الأنظمة الخليجية السنية عن هواجسها بخصوص الدعم الإيراني لجماعات المقاومة العربية الشيعية وكان لدى هذه الأنظمة مخاوف قديمة حول ما تعتبره طموحات الهيمنة لطهران. ونظراً للدعم الإيراني الذي تقدمه لوكلائها في لبنان، العراق واليمن، فإن هناك سبباً وجيهاً للقلق لدى الأنظمة الخليجية. وقد زاد احتمال إمكانية تمكن إيران من تطوير قنبلة نووية بغضون عام من هذه المخاوف بما أن إيران ووكلائها قد يصبحون أكثر جرأة لو حصلت إيران على السلاح النووي. رغم ذلك، وفي بعض الحالات، صوَّرت دول الخليج مجموعات المعارضة المحلية - التي يصدف أنها شيعية بغالبيتها الساحقة ـ بأنها عميلة لإيران لنزع الشرعية عن دعواتها.
هناك احتمالان طارئان يشملان إيران يمكن أن يزيدا التهديد للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط. الأول سيكون نووية المنطقة وتأثيراتها المزعزعة للاستقرار. فبدفع من البرنامج النووي الإيراني ، يمكن لبلدان أخرى ـ خاصة السعودية ـ أن تسعى للحصول على أسلحة نووية، ما يؤدي، وهذا محتمل، إلى سلسلة انتشارات نووية متعاقبة في المنطقة. ويمكن لحرية العمل الأميركية والإسرائيلية أن تصبح مقيدة بسبب منطقة نووية متعددة الأقطاب. إضافة لذلك، إن الافتقار للتواصل والتفاهم بين اللاعبين الأساسيين في المنطقة يمكن أن يزيد من احتمال سوء الحسابات والتصعيد غير المتعمد وصولاً إلى أزمة نووية.
أما الاحتمال الطارئ الثاني فيمكن أن يكون ضربة إسرائيلية أو أميركية لإيران بقصد تأخير وإعاقة تطور البرنامج النووي الإيراني. إن التأثيران الثاني والثالث لضربة كهذه، بالترتيب، وفي الوقت الذي يعتبر الموضوع خاضعاً لتكهنات كثيرة، يمكن أن يعرضا المصالح الأميركية في المنطقة للخطر. فإيران، على سبيل المثال، يمكنها إطلاق صواريخ على السفن الحربية في الخليج الفارسي كما يمكنها استهداف الموظفين الأميركيين العاملين في أفغانستان، الخليج أو الشرق عبر هجمات إرهابية، ما سيثير رد فعل أميركي. بإمكان إيران دعم وزيادة علاقاتها مع حزب الله والمقاتلين الفلسطينيين في الشرق للقيام بضربات ضد إسرائيل ـ رغم أن لدى كل من هذه الجماعات قيودها المحلية، مما قد يؤثر على الدرجة التي ستتصرف بها لصالح إيران. مع ذلك، فإن هجمات من هذا النوع يمكن أن تثير رد فعل انتقامي إسرائيلي وحتى أميركي. وفي أي حال من الحالين، يمكن أن تتصاعد الظروف من صراع صغير إلى حرب إقليمية أوسع.
تشكل إيران التهديد الأكثر آنية للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، إلا أن عوامل أخرى ستمثل فرصاً ومخاطر جديدة أيضاً بالنسبة للمصالح الأميركية في المنطقة. ومن بين هذه العوامل هناك مسارات لثلاث دول رئيسة هي: سوريا، العراق ومصر.

التهديد الإيراني المنظور
إن احتمال أن تصبح إيران نووية أمر يشكل تهديداً هاماً للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط وينبغي مقابلته برد قوي ومجدِ من قبل الولايات المتحدة وحلفائها. في كل الأحوال، لا ينبغي للمحللين المبالغة بآنية حصول إيران على قنبلة أو بالتهديد الذي تشكله على الأمن والاقتصادي الحسي للولايات المتحدة. وكانت تقارير إخبارية عديدة قد ضخمت هذا التهديد، عن طريق التركيز، بشكل رئيس، على مدى السرعة التي يمكن فيها لإيران الحصول على قنبلة نووية أو التعامل مع تلك النتيجة على أنها حتمية.
بالواقع، يبدو بأن إيران تواصل العمل على إستراتيجية " التحوط النووي" التي تهدف إلى تطوير قدرة تقنية محلية لإنتاج أسلحة نووية في مرحلة ما وبسرعة إذا ما قرر القائد الأعلى آية الله الخامنئي القيام بذلك. وبحسب رؤساء وكالة الاستخبارات الأميركية، فإنه لم يقرر بعد.
تشتمل استراتيجية التحوط النووي لإيران على جهود معروفة جداً للسيطرة على دورة الوقود النووي، وهي بحوث سرية ذات صلة بالاستخدام المزدوج المتعلق باستخدام السلاح وتطوير صواريخ بالستية متطورة. ونظراً للوقت الذي سيستغرقه إنتاج مادة انشطارية وتخطي العقبات التقنية المرتبطة بالتسلح، ربما يكون لدى إيران القدرة على إنتاج جهاز نووي خام قابل للاختبار في غضون عام تقريباً من قرار القائد الأعلى القيام بذلك.
إن تصميم جهاز يمكن إلقاؤه بفعالية ضد أعداء إيران سيأخذ وقتاً أطول على الأرجح. " إن "اختراقاً" نووياً سوف يتطلب تحويل مخزون اليورانيوم المتدني التخصيب كما سيتطلب تخصيباً أكبر ليورانيوم الأسلحة في " ناتانز" أو " فوردو" (موقعان معلن عنهما)، اللذان يخضعان للمراقبة من قبل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة. وسيقوم المفتشون، على الأرجح، بالتقصي حول برنامج التخصيب ـ أو سيكون على إيران إخراج المفتشين أولاً. وبما أن هكذا عمل وقح يحمل في طياته مخاطر إثارة رد فعل دولي أقوى وتشكيل ائتلاف دولي أوسع حتى، بما في ذلك عمل عسكري محتمل، فمن غير المرجح أن يتصرف الخامنئي إلى حين امتلاك إيران القدرة على بناء عدة أجهزة بسرعة كبيرة أو القيام بذلك بسرية.- الأمر الذي قد يكون على مسافة سنوات من الآن. وقد يحسب الخامنئي بأنه إذا ما طورت إيران عدداً من الأجهزة بسرعة كبيرة أو بسرية ، فإنها قد تزيد من احتمال امتلاكها لقدرة" الضربة الثانية" أو لمخبأ للأسلحة النووية لا يمكن اكتشافه، الأمر الذي يمكن، بدوره، أن يجعل المجتمع الدولي يعيد التفكير بماهية الإجراءات الإضافية التي قد يتخذها ضد إيران.
رغم ذلك، فإن تضخيم التهديد الإيراني يمتد إلى ما هو أبعد بكثير من القنبلة، وقد أكدت المقالات والافتتاحيات على الزوارق البحرية الإيرانية الصغيرة، تهديدات بمحاولة إيران إغلاق مضيق هرمز، علاقات إيران المحرجة والخطرة مع القاعدة، وعلى كشافة إيرانيون يقومون برصد ومراقبة معالم مدينة نيويورك، كما أكدت تلك الاقتتاحيات على الخطاب السياسي حول رد الفعل الانتقامي وجهود عامة " لتهدئة الغرب" لدعم وجهة النظر القائلة بأن التهديد القادم من إيران واسع ولا يمكن إيقافه. بعض هذه المزاعم يستدعي وجود هواجس مشروعة، تحديداً في وقت قد تزيد فيه القدرات اللا متماثلة المتنامية لإيران الرهانات بما يتعلق بسوء الحسابات وسوء الفهم بين سلاح البحرية الأميركية والإيرانية. في كل الأحوال، ينبغي للمحللين وصناع السياسة الحفاظ على معنى مفهوم بما يتعلق بقدرة إيران على تهديد الأمن المادي والاقتصادي للولايات المتحدة ـ إضافة إلى أمن الشركاء والحلفاء الإقليميين لأميركا.
وفي الوقت الذي تحافظ فيه الولايات المتحدة على معنى لمفهوم بما يتعلق بالتهديد الإيراني ، ينبغي لصناع السياسة أن يظلوا مدركين بأن حليفتهم الإسرائيلية قد يكون لديها تقييم مختلف. فإيران، في نظر بعض الإسرائيليين، تشكل تهديداً آنياً ووجودياً لإسرائيل. مع ذلك، فإن هجوماً إسرائيلياً على إيران سيكون مضراً ومؤذياً للمصالح الأميركية وكذلك الإسرائيلية. وفي حين أنه ينبغي أن تظل القوة العسكرية الملجأ الأخير، فإن الولايات المتحدة فقط، العاملة بظل الظروف الصحيحة، ستكون قادرة على توظيف استخدام القوة ومعالجة المخاطر المرتبطة بذلك بفعالية.

سوريا
سوريا وسط حرب أهلية، ومن الغامض جداً معرفة ما هو الاتجاه النهائي الذي سيكون عليه الوضع هناك. فمن جهة، بإمكان نظام جديد في دمشق قلب توازن القوى الإقليمي بطرق هي لصالح المصالح الأميركية، أي إزالة حليف إيران الأساسي وقطع المزود الأساسي لحزب الله وشريكه. بإمكان نظام جديد أكثر انفتاحاً على مناقشة الخيارات السياسية مع إسرائيل إعادة إحياء عملية السلام الإسرائيلية- العربية، ربما بتشجيع من تركيا. إن تغييراً في قيادة سوريا يمكن أن يساعد أيضاً في التقليل من عودة ظهور العنف في الآونة الأخيرة وربما حتى يحل المأزق السياسي في لبنان. ففي داخل سوريا نفسها، يمكن أن يؤدي تغيير النظام أيضاً إلى وجود عنف وقمع أقل وحرية أكبر للشعب السوري.
من جهة أخرى، إن استمرار الحرب الأهلية أو حتى الاضطرابات الحالية يمكن أن ينتشر أو يجر إليه أجزاء أخرى من الشرق، تحديداً الفئات المذهبية، العشائرية والعائلية. أما مصير المخزون الأساسي للأسلحة الكيميائية فأمر مثير للقلق تحديداً، بما أن النظام الحالي يمكن أن يفقد السيطرة على هذه المادة، وقد تنتهي في أيدي جهات فاعلة غير حكومية مستعدة لاستخدامها في الأزمة الداخلية السورية أو نشرها في أماكن أخرى.لقد بدأت الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين تخطيطاً طارئاً لهذا التهديد. يمكن للنظام الجديد في دمشق أن يكون أكثر عدائية حتى تجاه إسرائيل، بزيادة الدعم للجماعات المسلحة أو التنافس حول مرتفعات الجولان بما يتخطى مجرد الكلام. ليس هناك أيضاً ضمانة بألا يكون النظام الجديد قاسياً وقمعياً كنظام بشار الأسد. في هذه اللحظة ورغم أن المعارضة السورية لا تزال ضعيفة ومنقسمة، فإن هناك سبباً كبيراً للاعتقاد بأن الصراع سوف يستمر لأشهر عديدة أخرى إن لم يكن لسنوات.

العراق
إن العراق، جار سوريا، هو أيضاً على مفترق طرق. فمن غير الواضح كيف ستوجه هذه الدولة الغنية بالنفط ذات الموقع الجيد في الوسط سياساتها أو ما نوع الحكومة التي ستتبناها. فالتوجه الإستراتيجي للعراق ـ بما فيه ما إذا كان سيصطف مع الولايات المتحدة، دول الخليج الفارسي، إيران أم أنه لن ينحاز لأي منها ـ سيكون له تأثيرات جيوسياسية ومخاطر هامة وبارزة على المنطقة، الأمر الذي يمثل فرصاً ومخاطر بالنسبة للمصالح الأميركية. إن جغرافية العراق، المتموضع بين الدول العربية، تركيا وإيران، إضافة إلى موارده النفطية الهائلة، قدراته العسكرية المتزايدة والشعور القوي بالعزة والكرامة الوطنية أمور تعرض إلى أنه سيعاود البروز كبلد فاعل وهام.
مع ذلك هناك سبب للقلق بشأن المنحى والاتجاه الذي سيتخذه العراق محلياً ودولياً. فالتوجهات المناهضة للديمقراطية في العراق، بما فيه تزايد الفساد عبر الوزارات وتدخل الحكومة في قضايا محاربة الفساد، إضافة إلى تفاقم التوترات المذهبية أكثر، أمور ينبغي أن تقلق صناع القرار السياسي الأميركي وترفع لديهم مسألة أهمية الإصلاح. إضافة لذلك، انتهت الحرب الأهلية العراقية التي دامت من 2005 ـ 2007 بنصر حاسم بالنسبة للفئات الشيعية العراقية، لكن التوترات المذهبية لا تزال موجودة. وفي الوقت الذي يتزايد فيه إنتاج النفط العراقي، فإن هذا سيساعد على تنويع المصادر المتوفرة في سوق النفط العالمي، ما يوفر فرصاً مساعدة لتخفيف الضغط على الطلب العالمي على الهايدروكربون. لكن التوترات العربية ـ الكردية والطموحات الانفصالية الكردية تعيق هذه العملية. كما أن النفط العراقي سيظل عرضة للتهديدات بما يتصل بنقاط الدخول المقيدة إلى الخليج الفارسي.
وفي حين أن بإمكان العراق القوي المساعدة على كبح الهيمنة الإقليمية الإيرانية المتنامية، فإن فشل الولايات المتحدة بعدم تشجيع إعادة التأكيد على الحكم الاستبدادي في العراق سيؤدي إلى التشكيك بجهود الإصلاح الأميركية في أماكن أخرى. وتحتفظ الولايات المتحدة ببعض النفوذ في العراق. فحتى بعد رحيل الجيش الأميركي من العراق، فإن الولايات المتحدة تحتفظ بعلاقات أساسية على كل مستوى في الصفين السياسي والعسكري، الأمر الذي بإمكانها استخدامه لفرض الضغوط لأجل حوار بناء.

التدخل في ليبيا عام 2011 وآثاره
كان تدخل الناتو في ليبيا في آذار 2011 المثال الوحيد الذي وظفت فيه الولايات المتحدة القوة العسكرية كرد سياسي على الربيع العربي. فالولايات المتحدة لم يكن لديها مصالح حيوية في ليبيا، لكن التقاء أربع عوامل دعم قضية التورط العسكري الأميركي. وكان العامل الأول سجل معمر القذافي الوحشي والمؤشرات الموثوقة عن نيته القيام بجزرة تطال 700000 ليبي في مدينة بنغازي التي كانت بيد المتمردين ـ بما فيه تهديده بأن أي " صرصور" ليبي يحمل السلاح ضد ليبيا سيتم إعدامه". وبدا بأن أعمالاً وحشية على وشك أن ترتكب. العامل الثاني، كان لدى إدارة أوباما هواجس بأنه قد تكون للثورة الليبية، التي حصلت مباشرة بعد ثورتيْ تونس ومصر، تأثيراً سلبياً على الربيع العربي إذا ما فشلت. العامل الثالث، كان لدى إدارة أوباما الدعم الإقليمي والدولي للقيام بتدخل: الدعوة للعمل من قبل الجامعة العربية، قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973، التأييد القوي من قبل الحلفاء الأوروبيين ومشاركة دول عربية في العملية العسكرية وفرا تغطية دولية للمهمة. الرابع، وبرغم الاستخفاف وسوء التقدير حول توقيت ومستوى القوة الضروريان لإنهاء المهمة ، فقد كان لدى المجتمع الدولي استراتيجية عسكرية قابلة للتطبيق بعن طريق العمل بالتعاون مع معارضة ليبية ذات مصداقية، التي استطاعت السيطرة على النصف الشرقي من البلاد إضافة إلى السيطرة على مدينة مصراتة. ولم تتقارب عوامل كهذه بالكامل في حالات أخرى، على الأخص في سوريا.

مصر
في الوقت الذي تختبر فيه مصر تجربة الحكم الديمقراطي، فإنها ستعيد تقييم دورها أيضاً في المنطقة. لقد كانت مصر ريادية في التغيير السياسي والاجتماعي في العالم الناطق بالعربية. فتاريخياً، كانت مصر، بلد الـ 90 مليون نسمة، المركز الفكري والسياسي للشرق الأوسط.
أما الأمر المخيِّم على كل شيء في مصر فهي حالة الاقتصاد الهشة في البلاد. إذ يهبط الاحتياط النقدي لمصر من العملات الأجنبية كل شهر بعد الثورة التي حصلت في شباط 2011، كما هبط الناتج المحلي القومي من 5 بالمئة سنوياً إلى أقل من 2 بالمئة في العام 2011. ومن المتوقع أن يهبط إلى أقل من 1 بالمئة هذا العام. وسوف تتفاقم الظروف الاقتصادية التي سبقت الثورة المصرية، والتي شملت كلفة المعيشة المرتفعة، في حال تخلف مصر عن الدفع أو في حال انخفاض قيمة العملة المصرية.
ويتخوف صناع القرار السياسي الأميركي من أن الضغط كثيراً جداً على المجلس الأعلى للقوات المسلحة وعناصر أخرى في القيادة العسكرية قد يعرض إمكانية الوصول إلى قناة السويس أو أمن إسرائيل للخطر. في هذه الأثناء، تضاربت بعض أعمال المجلس الأعلى للقوات المسلحة مع المصالح الأميركية، كاعتقال أميركيين عاملين مع منظمات غير حكومية. أما الأعمال الأخرى، كتأخير الانتخابات وإعلان عدم أهلية مرشحين رئاسيين شعبيين، فقد وضعت المجلس العسكري على طرفيْ نقيض مع الشعب المصري المفوض الصلاحيات حديثاً. ورغم أن الانتخابات النيابية والرئاسية الأخيرة قد تجعل نفوذ الجيش المصري يتضاءل ويتلاشى ويمكن أن ترفع دور الخصوم الإسلاميين، كالإخوان المسلمين، فإن الدور الراسخ للمجلس الأعلى للقوات المسلحة في كل جوانب الدولة والاقتصاد المصري سيجعل منه قوة سياسية في المستقبل المنظور. إذ سيكون من إحدى مهام الحكومة المنتخبة حديثاً التأكيد على السيطرة المدنية على البلاد. إن مصر القوية والديمقراطية ستكون مثالاً قوياً للبلدان الأخرى في المنطقة.
إن مصير معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل هو ما ينبغي أن يقلق صناع السياسة الأميركيين أكثر من أي شيء آخر. فما بين عاميْ 1948 و 1973، خاضت مصر وإسرائيل أربع حروب كبرى كانت لها آثار جيواستراتيجية على الولايات المتحدة. إن معاهدة كامب ديفيد التي جلبت السلام بين الدولتين هي حجر الزاوية للاستقرار الإقليمي كما أنها انتصار للديبلوماسية الأميركية أيضاً. فللمرة الأولى منذ أكثر من 30 عاماً، هناك احتمال قوي بتصدع هذا الاتفاق وفي حين ينظر كثيرون إلى الثورة المصرية نظرة أمل وإعجاب بما يخص المتظاهرين المصريين فإن الإسرائيليين ينظرون إليها بعين الشك. ورغم أن العلاقات بين حكومتيْ حسني ومبارك وإسرائيل كانت، في بعض الأحيان، مجرد سلام بارد، فإنها سمحت بوجود تعاون هام خدم مصالحهما الأمنية المتبادلة. إلا أن الشعبين المصري والإسرائيلي لم يشكلا رابطة أبداً، ولم يُحل مأزق الشعب الفلسطيني على الإطلاق. نتيجة لذلك، فإن معاهدة السلام مع إسرائيل لا شعبية لها أبداً في أوساط المصريين. بالواقع، وفي الخريف الماضي، اقتحم مشاغبون السفارة الإسرائيلية في القاهرة ونهبوها. ولولا تدخل كل من قوات الأمن المصرية والسفارة الأميركية في النهاية، لكان تم قتل أو جرح الديبلوماسيين الإسرائيليين.
ينبغي لصناع السياسة الأميركيين أن يكونوا قلقين بسبب احتمال حصول توتر أكبر في العلاقات بين إسرائيل وحكومة مصرية جديدة حيث أن الأخيرة تحاول أن تكون أكثر تجاوباً مع الشعب المصري العدائي عموماً تجاه إسرائيل. فعقب الهجمات الصاروخية في نيسان 2012 التي أطلقها مسلحون في سيناء على منتجع مدينة إيلات السياحية الإسرائيلية، يشعر الإسرائيليون بقلق متزايد بشأن حدودهم الجنوبية الخطيرة المفاجئة، المتاخمة لكل من قطاع غزة وصحراء سيناء شبه المستقلة. وقبل بضع أسابيع من أعمال الشغب ضد السفارة الإسرائيلية في القاهرة، قتل الجنود الإسرائيليون عدداً من حرس الحدود المصريين بعد هجوم في إسرائيل نفذه مسلحون فلسطينيون تسللوا عبر الحدود. وثار غضب المصريين كما كان متوقعاً. ويصور المراقبون لمصر الآن سيناريو يمكن فيه لإسرائيل القيام بعمليات عسكرية في سيناء ضد المسلحين. أما التأثيرات الاستراتيجية السيئة لدخول عسكري إسرائيلي إلى سيناء فستفوق، بالتأكيد، أية نجاحات تكتيكية قد تحققها إسرائيل.

الحياة السياسية المحلية العربية التحولية
هناك أربع توجهات تشكل الحياة السياسية العربية: استمرار عدم الاستقرار السياسي، تزايد علاقة الإسلام السياسي بالموضوع، الشعوب العربية المتمكنة حديثاً والعوائق الاقتصادية الحادة وهي كلها مسائل تختبر قدرات الديبلوماسيين ومسؤولي الدفاع الأميركيين. إن كل هذه التطورات ستؤثر على المصالح الأميركية.
من المرجح أن تنتشر حالة عدم الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط وتشتد حدتها في المستقبل المنظور. ففي الأشهر الثمانية عشر الماضية، سقطت الأنظمة في تونس، مصر، ليبيا واليمن، في حين يستمر العنف والثورات اللا عنفية بهز سوريا والبحرين. إن التحديات التي تواجه كل دولة من هذه الدول هي تحديات هائلة. وقد شهد عدد آخر من الأنظمة، بما فيها تلك التي في السعودية، الأردن، المغرب، الإمارات العربية المتحدة والكويت، تظاهرات شعبية. أما الأردن، الحليف الأساسي للولايات المتحدة وإسرائيل، فيبدو معداً ومعبئاً لحالة أكبر من عدم الاستقرار السياسي في العام 2012، مع تغييره لثلاث رؤساء حكومة في أقل من عام ونصف. إن تناوب رؤساء الحكومات هو من أعراض عجز الملك عن تحقيق توازن بين الحفاظ على سلطته وتعزيز الإصلاح.
تواجه الدول الثورية الجديدة في المنطقة صعوبات متشعبة ومتنوعة، إلا أن التحديات تختلف وتتنوع من بلد لآخر. ففي بعض الدول، كما هو الحال في مصر وتونس، فإن بيت القصيد للمشكلة في المستقبل هو في عودة السياسات الانتخابية وإصلاح مؤسسات الدولة. في هذه الأثناء، في ليبيا، حيث لم ينشئ القذافي مؤسسات متينة عمداً، فإن التحدي موجود في تشكيل الدولة. أما التحديات التي تواجه اليمن فتتخطى بكثير التحول السياسي وتمتد لتطال تحديات ديمغرافية على الأمد الطويل، نظراً لأن 45 بالمئة من سكانها هم تحت سن الـ 15 عاماً، إضافة إلى نذير الكوارث البيئية كمصادر المياه المستنفدة. إذ من المرجح أن يصبح اليمن بلداً غير قابل للحكم أكثر فأكثر، حتى في الوقت الذي يبذل فيه قادته المزيد من الجهد لحكمه، الأمر الذي سيطرح شكوكاً أكبر حول قدرة اليمن على أن يكون شريكاً في جهود مكافحة الإرهاب الأميركية. أخيراً، يذكرنا علماء السياسة بأن " الأنوكراسيات" ـ الحكومات التي لا هي بالديمقراطية ولا بالأتوقراطية بالكامل ـ تعتبر نموذجاً للنظام الأقل استقراراً والأكثر احتمالاً بالعودة للانزلاق في صراع أهلي. وفي الوقت الذي تنتشر فيه الحكومات "الأنوكراسية" عبر الشرق الأوسط، ينبغي لصناع القرار السياسي التفكير بهذه الحقائق.
أما التوجه الثاني فيتعلق باستمرار قوى الإسلام السياسي بالصعود والبروز عبر المنطقة. ففي تونس ومصر، الأحزاب الإسلامية مهيمنة في البرلمانات الأخيرة المنتخبة. أما في ليبيا وسوريا أيضاً، فهناك بعض الميليشيات الناشطة في مقاومة نظاميْ القذافي والأسد وهي ذات دوافع دينية. وفي المغرب، لبنان، الأردن، والعراق، تعتبر الأحزاب السياسية الإسلامية سمة واضحة للعيان بشدة في المشهد السياسي. ولا يظهر هذا التوجه أي إشارة إلى أنه سيكون معكوساً. بالواقع، وفي نظر بعض الخبراء، فإن " الحركات الإسلامية هي القوة السياسية الأكثر ديناميكية اليوم عبر العالم العربي ـ وقد تظل كذلك بالفعل في العقد المقبل أو أطول من ذلك". وبالتالي، فإن حماية المصالح الأميركية تتطلب من الولايات المتحدة التفاعل مع أحزاب وقادة كانوا قبل سنوات، فقط، مهملين بصفتهم راديكاليين. في كل الأحوال، لا يزال صناع القرار السياسي حذرين من إشراك قادة سياسيين وقادة رأي على امتداد كامل الطيف الإيديولوجي.
أما التوجه الثالث فيتعلق بالشعوب العربية المفوضة والمتمكنة حديثاً. لقد كان هناك نطاق عربي عام جديد يتطور في الشرق الأوسط منذ منتصف التسعينات على الأقل. وفي حين لا تزال المنطقة مقسمة بالحدود الفاصلة بينها، برز حوار سياسي مشترك ـ مكنت منه وسائل الإعلام المتنوعة، بدءاً من الجزيرة وصولاً إلى التويتر ـ بحيث أن شعوب المنطقة تملك حرية التعبير عن رغباتها وإحباطها بطرق لم تعبَّر بها قبل عقدين مضيا. ويأتي قسم كبير من هذا الشعور من الشباب العربي، الذين توسعت الهوة الموجودة بين طموحاتهم ووقائع حياتهم القاتمة المحبطة. فاحتكار الإعلام الذي كانت الأنظمة تتمتع به ذات مرة فقدته لصالح التكنولوجيا ووسائل الاعلام. لم يعد بإمكان وزارات الإعلام أن تشكل ما ينبغي للشعوب معرفته وما لا ينبغي معرفته عن العالم وظروف هذه الشعوب قياساً لشعوب أخرى. إنه أحد العوامل الأساسية الذي جعل الأسد، على سبيل المثال، غير قادر على تكرار " قوانين حماه" من القمع الوحشي الذي قام به والده. لقد استلزم الأمر شهوراً للصحافيين الغربيين وجماعات حقوق الإنسان ليحصلوا على بعض المعلومات حتى حول مجزرة حماه عام 1982. أما اليوم، بالمقابل، فإن المجازر المرتكبة تبث عبر كاميرات الهواتف الخلوية، ما يشعل جدلاً عاماً فورياً ـ بما فيه داخل الولايات المتحدة ـ حول الكيفية التي ينبغي أن يرد بها القادة على الصراع.
أما التوجه الرابع فهو أن التحديات الاقتصادية تعزز عدم الاستقرار السياسي ولا يزال الأمر كذلك. فنقاط الضعف الاجتماعية- الاقتصادية المثيرة للقلق التي حُددت قبل عقد مضى من الزمن في "تقرير التنمية البشرية" لا تزال حاضرة في معظم الحالات، لا بل هي أسوأ في حالات أخرى. إذ تستمر " ديناميكيات التهميش المشؤومة" ـ التي تتوسع فيها اللا مساواة، تتعمق حالة البطالة، يتفشى الفساد، يتراجع الإبداع والابتكار ويتم حرمان المرأة من حقوقها الأساسية والمشاركة الاقتصادية ذات المعنى.
إن عدم الاستقرار السياسي يعطل الاقتصادات الإقليمية أكثر. ففي تونس، وبرغم الانتخابات الناجحة، فقد هبط الاستثمار الأجنبي المباشر 20 بالمئة في خلال الشهور الإثني عشر من بعد الثورة. لقد رحلت 80 شركة من البلد، انحدرت السياحة بنسبة 50 بالمئة ولم يحصل سوى تقدم طفيف جداً في نسبة الـ 20 بالمئة من البطالة في أوساط الخريجين الجامعيين. أما في المغرب، فقد تشكلت مجموعة تطلق على نفسها إسم "الخريجين العاطلين عن العمل"، ما يعكس نسبة بطالة في أوساط الخريجين الجامعيين والتي هي بنسبة مضاعفة عن تلك التي تتبناها الدولة. وفي البحرين، فاقم الانقسام السياسي السني ـ الشيعي من الانقسام الاقتصادي السني ـ الشيعي. وفي السعودية والحكومات الملكية الأخرى في أوبك، تم استخدام المكاسب النفطية لتمويل إعانات مالية لشراء هدوء الشعب على المدى القصير. في كل الأحوال، إن بعض المشاريع تطرح تساؤلات حول الاستدامة المالية لهذه الاستراتيجية، مع عجز موازنة محتمل اعتباراً من العام 2014 وحصول اضطرابات سياسية كاحتمالات حقيقية إذا لم تستمر السعودية بشراء سكوت الشعب. ومن المرجح أن تساهم ضغوط كهذه بحصول حالة أكبر من عدم الاستقرار السياسي، ما يعقد أكثر السياق الاستراتيجي الذي تعمل فيه السياسة الأميركية.

الإرهاب
لم تعد القاعدة تشكل لاعباً استراتيجياً في الشرق الأوسط، ما يستدعي التساؤل عن أولوية مصالح مكافحة الإرهاب الأميركية نسبة إلى مصالحها الأخرى في المنطقة. وفي حين أن القاعدة ربما كانت ذات مرة توصف بالمنظمة المركزية المتجانسة، فإنها اليوم أكثر امتيازية ولا مركزية ـ مع أداء متواضع تماماً لمعظم مناطق الامتياز. وفي خلال عام من مقتل أسامة بن لادن، جهدت القاعدة لتنفيذ عمليات لها في العالم، رغم أن التهديدات للولايات المتحدة الصادرة عن منطقة الامتياز للقاعدة في اليمن، بما فيها المؤامرة التي تم تعطيلها مؤخراً لتفجير طائرة تجارية، لا تزال خطيرة.
هناك عوامل ساهمت بانحدار القاعدة.
أولاً، ورغم أن فرص استفحال القاعدة في اليمن وسوريا لا تزال موجودة، فإن المنظمة عانت من تراجع لا بأس به عبر الشرق الأوسط. كما فشلت حركة تمرد ضد القوات الأميركية والحكومة العراقية الجديدة من العام 2003 وحتى العام 2010. وبحلول عام 2007، تحول حلفاء القاعدة في العراق وانقلبوا ضدها، كما أن الجيشين الأميركي والعراقي اتحدا لتدمير قيادة المنظمة في العراق. وقد فشلت حركة التمرد في السعودية من العام 2003 وحتى العام 2005 أيضاً. وكما يسرد توماس هيغهامر، فقد برز متمردو القاعدة الذين يحاولون الإطاحة بالنظام في السعودية كالأجانب في الوقت الذي كانوا فيه في المنفى في باكستان وأماكن أخرى. أما الطريقة التي خاضت فيها القاعدة هذه الحملات فقد نفذت بكلفة هائلة: فالشعوب الناطقة بالعربية قد تكون هللت للهجمات على المواقع العسكرية الأميركية، إلا أن الهجمات على حفلات الأعراس الأردنية والأسواق العراقية أثبتت، عدم شعبيتها، وبقوة.
ثانياً، نفذت الحكومة الأميركية حملة قوية وشديدة جداً وناجحة بمعظمها ضد قيادة القاعدة، ليس فقط في العالم الناطق بالعربية وإنما في أفغانستان وباكستان خاصة. أما بما يتعلق بتموز 2011، فقد قتلت الطائرات الأميركية من دون طيار أكثر من 1000 مسلح في مناطق القبائل الباكستانية. وكان بن لادن قلقاً بما يكفي على أمن منظمته ورفاقه المسافرين في منطقة القبائل الباكستانية ليفكر ملياً بإخلاء " الملاذ الآمن" المفترض. أم موت

موقع الخدمات البحثية