البروفسور فريدي فارهي ـ Crown Center for Middle East Stascii117dies ـ جامعة Brandeis / نيسان 2012
كان قادة إيران والشعب الإيراني يراقبون باهتمام شديد الجدل العالي نوعاً ما الدائر في الولايات المتحدة وإسرائيل بخصوص الفعالية النسبية للوسائل المختلفة المتعلقة بمنع إيران من الحصول على السلاح النووي. فحتى الإعلام الإيراني المتشدد جداً واللامبالي تماماً يقدم تقريراً، على سبيل المثال، عن رأي كل من رئيس الموساد السابق مائير داغان والمدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية ( IAEA) محمد البرادعي يقول بأن أي هجوم على إيران هو فكرة سيئة أو 'جنونية'، أو يشرح سبب اعتقاد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بأن هجوماً إسرائيلياً سيؤدي إلى دمار الشرق الأوسط. كما أن الإعلام الإيراني المتشدد مرتاح تماماً – وحتى منتشٍ – ويتناوب على نقل التعبير عن القلق في أوساط دوائر المحافظين الجدد في الولايات المتحدة بشأن فشل العقوبات بوقف برنامج إيران النووي.
لكن كون إيران موجودة على الطرف المتلقي لهجوم متصاعد، كلامياً واقتصادياً أثار، وهذا طبيعي، كلاماً مختلفاً تماماً عن الجدل الدائر سواء في إسرائيل أم في الولايات المتحدة حول ما يخطر في بال إيران. إضافة لذلك، لقد جعلت سياسات إيران المحلية من مواقف معينة مسائل غير خاضعة للجدل العلني أو التفاوض.
هذه الموجز يبحث في الجدل العام الدائر في إيران حول القضية النووية عن طريق تحديد مجالين من مجالات الخلاف والنزاع: مصداقية حصول هجوم على إيران، واحتمالات حصول مفاوضات هادفة مع الولايات المتحدة. وينتهي الموجز بدرس مضامين الجدل الداخلي الإيراني وآثاره المترتبة على مستقبل المحادثات الدولية حول برنامج إيران النووي.
حدود الجدل العام الإيراني
بينما يتجادل المسؤولون والمعلقون الأميركيون والإسرائيليون في العلن وفي المجالس الخاصة حول ما إذا كان ينبغي قصف إيران أم لا، كان المسؤولون الإيرانيون:
&bascii117ll; ينكبون على القضايا ذات الصلة بالعقوبات الاقتصادية الأشد وتأثيرها الأشد من أي وقت مضى؛
&bascii117ll; يخلقون بيئة تردع الهجمات المحتملة، أو على الأقل تجعل الأمر يبدو مكلفاً جداً؛
&bascii117ll; ويتعاملون مع شعب غير راض بسبب الظروف السياسية والاقتصادية المتدهورة والقلق من عدم الاستقرار والحرب.
إن تأثير العقوبات الاقتصادية، وهذا أمر ينبغي الإشارة له، مسألة بالكاد يتم تناولها في نقاش عام. فالموقف الرسمي بشأن العقوبات هو أن إيران تتدبر مسألة التأثير المؤذي للعقوبات بشكل جيد – وبأن العقوبات، اذا ما كان هناك من أي تأثير، فهو أنها تجعل إيران أكثر اعتماداً على ذاتها وتجعل اقتصادها أكثر ترشيداً. (على سبيل المثال، من خلال سياسات كدعم الإصلاح وتقنين البنزين، الأمر الذي كان ليكون من الصعب مواصلته سياسياً لو لم يكن هناك ضغوط خارجية). ومن الصعب مواجهة نقاش في العلن ضد هذا الموقف. وبالإمكان إيجاد إشارات تتعلق بالتأثير المؤذي للعقوبات في تصريحات كبار رجال الأعمال، لكن ليس هناك من حديث عام، فعلاً، حول ما إذا كان يمكن أن يكون التراجع عن القضية النووية خياراً لدرس طريقة للمسارعة برفع العقوبات.
كان احتمال تعليق إيران لبرنامج التخصيب مؤقتاً جزءاً من الحديث العام عادة. لكن اليوم، وببساطة، لا يعتبر هذا الأمر موقفاً مقبولاً سياسياً داخل البلد. بالواقع، لقد تم التعبير عن ذلك علناً من قبل شريحة من المعارضة الموجودة في المنفى، التي تؤيده كوسيلة لمنع حصول هجوم عسكري.
هذا الوضع ليس جديداً. فمنذ إحالة قضية إيران إلى مجلس الأمن الدولي في شباط 2006 وفرض العقوبات الذي تلاه على إيران، والذي تزامن، بشكل أو بآخر، مع تكريس وترسيخ سيطرة المحافظين على كل مقابض الحكومة في إيران، أصبح الحديث العام عما ينبغي القيام به بشأن ملف إيران النووي أكثر تقييداً. فالنقاش الوطني الذي كان منذ البداية ' جزءاً' من قضية إيران لمواصلة برنامجها النووي أصبح، من النواحي العملية، ' كل' القضية. وفي هذه العملية، كان ينظر إلى النقاش الذي يقترح قبول تعليق مؤقت للتخصيب ذي الصلة بالأنشطة النووية على أنه انعكاس للضعف أو التهاون – أو حتى بمثابة خيانة وتحريض للعدو.
نتيجة لذلك، لم يكن هناك أي قائد وطني بارز مستعد لتحدي قرار الحكومة علناً والثبات على موقفه حول حق إيران بمواصلة السعي للحصول على العناصر اللازمة لبرنامج نووي سلمي. إن الاستسلام ' للبلطجة الغربية' والتخلي عن ' حقوق إيران القانونية المصادق عليها دولياً' لا يعتبر، وببساطة، خياراً في بيئة فيها تنافس سياسي، برغم محدوديته.
كما أن هناك بعض القضايا ذات الأهمية الكبيرة في أماكن أخرى والتي لا تتم مناقشتها بأي أسلوب جدي. وعما إذا كانت إيران تواصل العمل على برنامج للأسلحة النووية وما إذا كانت تشكل تهديداً وجودياً لإسرائيل فسؤالان خارج النقاش الداخلي الإيراني بالفعل. لقد أنهى تكرار آية الله خامنئي تعريفه للسلاح النووي بأنه ' محرم' دينياً، وبشكل فاعل، الحديث عن مواصلة إيران سعيها للحصول على السلاح النووي. أما بما يتعلق بكون إيران تمثل تهديداً لإسرائيل، فإن هناك حديثاً قديماً في إيران، بالتأكيد، حول مصير تعريف ' النظام الصهيوني المصطنع' في الخطاب الإيراني: وما إذا كانت إيران ستفسح المجال أم لا في نهاية المطاف لدولة لا يهيمن عليها سكانها اليهود؛ وعما إذا كان ينبغي لطهران أن تجعل من إسرائيل واحتلالها للأراضي الفلسطينية محور سياستها الخارجية. لكن هذا حديث يسبق القضية النووية وهو، في الذهنية الإيرانية، أمر مختلف ومتمايز عنها.
بدلاً من ذلك، فإن الحديث الموجود في إيران، يتضمن في الأساس، نقاشاً تكتيكياً جامداً حول الحاجة لاستخدام الفطنة في الديبلوماسية وتجنب المغامرات الكلامية – والتعبير الأخير يُقصد به عادة خطابات الرئيس أحمدي نجاد النارية حول القضايا التي لا صلة لها بالقضية النووية، كإسرائيل والهولوكست. ومنذ انتخابات عام 2009، كان هذا الخطاب العام الجامد يعكس، من نواحٍ عديدة، عملية سياسية مقيدة وضيقة، بحيث إن أي اعتراض وتحد أو انتقاد لتوجه البلد يُقدَّم على أنه تعزيز للانقسام، إضعاف يد إيران، ويجري، عن علم أو عدم علم، وفق مشيئة أعداء البلد.
في هذا السياق يمكن لشخص كأحمد تفاكولي، وهو عضو محافظ في البرلمان ( المجلس) ومدير 'مركز أبحاث المجلس'، القول بأن مختلف الفئات السياسية المتنافسة للهيمنة على المجلس على مدى الأربع سنوات الماضية لديها نفس الموقف بما يخص السياسة الخارجية وبأن ' مقاومتهم جيدة، في وجه الضغوط الغربية. لديهم خلافاتهم بالطبع بما يتعلق بالمقاربات التكتيكية في مواجهة الغرب'. هذه الاختلافات التكتيكية تتضمن الخلاف حول كيفية الرد كلامياً على التهديدات بالهجوم على مواقع إيران النووية وحول مدى حاجة إيران لاستخدام الديبلوماسية الفاعلة والناشطة لطمأنة بلدان إقليمية بما يتعلق بنواياها والحد الذي يعتبر فيه الاعتماد على الدعم الروسي أو الصيني لموقف إيران النووي حكيماً أو واقعياً إضافة إلى كيفية مواجهة حبل العقوبات الخانق، تحديداً بما يتصل بالبلدان التي لا تزال تعتمد على الصادرات الإيرانية من النفط والغاز.
هذه هي الاختلافات التكتيكية الهامة، جانب يؤيد، وبشكل أساسي، موقفاً أكثر عدائية إزاء ما يعتبر بأنه موقف محارب للقوى الغربية تجاه إيران في حين يدعو الجانب الآخر إلى ديبلوماسية أكثر نشاطاً وفاعلية لاسترضاء القوى الغربية وتهدئة الهواجس الموجودة لدى بلدان إقليمية أخرى كالسعودية حول نوايا إيران. لكن، وكما سنناقش لاحقاً، تكشف هذه التباينات أيضاً عن خلافات عميقة بما يتعلق بتقييم المخاطر والتهديدات التي تواجهها إيران في تصميمها على مواصلة دورة الوقود النووي والحاجة إلى الانخراط بمفاوضات جدية مع الولايات المتحدة.
هل التهديد بهجوم ضد إيران أمر موثوق
إن مصداقية التهديدات الأميركية والإسرائيلية ضد إيران محل جدل ولها آثار مترتبة هامة على إدارة إيران للأزمة. فبينما كان المسؤولون المدنيون والعسكريون سريعين بالتهديد برد انتقامي متناسب في حال تعرضت إيران لهجوم، كان للمتشددين في إيران، عموماً، موقف يقول بأن كل الحديث المتعلق بمهاجمة إيران إنما هو جزء لا يتجزأ من الحرب ' النفسية' أو ' الناعمة'. فالمقصود من هذه الحرب النفسية، في أذهان هؤلاء، هو إما إقناع القادة الإيرانيين بالموافقة على 'التنازلات' بما يتعلق ببرنامج إيران النووي بدافع الخوف وإما تمهيد الطريق ' لعقوبات تشل البلد' إضافة لسياسات مصمَّمة لإحداث تغيير في النظام. ويبدو بأن المطبوعات والمنشورات الآتية من الولايات المتحدة وإسرائيل تدعم كلا الإدعاءين، حيث إن هذه المنشورات تنادي، بالواقع، بالقيام بحملة إعلامية مصمَّمة لهز النظام الإيراني وزرع الانقسامات في صفوف قيادته.
باختصار، وبناء على تقييمهم للسياسات الأميركية في حقبة ما بعد غزو العراق، لا يعتبر المتشددون الإيرانيون التهديد بالقوة العسكرية الآتي سواء من الولايات المتحدة أم إسرائيل تهديداً موثوقاً. هذا الموقف دعمه وعززه إيمانهم بضعف الولايات المتحدة أكثر أو على الأقل وارتباكها في بداية التغييرات الضخمة في الشرق الأوسط العربي وشمال أفريقيا. وكان مهدي محمدي قد عبَّر عن الافتقار للمصداقية المفترضة والمنسوبة للتهديد العسكري في صحيفة كيهان بطريقة مباشرة نوعاً ما. فقد قال في مقالته التي كتبها بعد خطبة الجمعة التي ألقاها آية الله الخامنئي مؤكداً فيها على دعم إيران لأولئك الذين يهاجمون إسرائيل، بأن الخطاب كان في الحد الأدنى عبارة عن إصدار تهديد مباشر ضد إسرائيل وفي حده الأعلى تمرير رسالة تقول بأن 'إيران لا تأخذ التهديد العسكري ضدها بجدية... وبأن إيران، على عكس ما يتصوره الأميركيون، لا تعتبر الاستراتيجية الأميركية بتثبيت التهديد العسكري الموثوق أمراً ضد مصلحة إيران.. وبأن من الكافي فحسب إلقاء نظرة على ثمن النفط الخام ليصبح عمق هذه القضية واضحاً وجلياً.'
من جهة أخرى، فإن عدم أخذ احتمال القيام بهجمات ضد إيران بجدية هو أمر يقلق صادق زيباكلام، بروفسور في جامعة طهران، الذي كتب مقالة صريحة على غير العادة لموقع الكتروني يديره الإصلاحي السابق نائب وزير الخارجية صادق خرازي. ويقول في هذه المقالة: ' ينبغي لنا ألا نعتمد كثيراً على عدم مهاجمة الغرب لإيران'. ويشير زيباكلام، لافتاً إلى أن الغرب متناقض بعمق حول هذه القضية، إلى أن هناك في الغرب أولئك ' المقتنعين بأن الحل الوحيد للبرنامج الإيراني هو الهجوم العسكري'. من جهة أخرى، يشير البروفسور زيباكلام، بأن هناك قوىَ أكثر اعتدالاً تعتبر أن الهجوم على إيران لا يصل إلى أكثر من كونه حلاً مؤقتاً للمشكلة الإيرانية وبأنه حل مزعزع تماماً للاستقرار لمنطقة الشرق الأوسط. في كل الأحوال، يعتقد زيباكلام بأنه في السنتين الماضيتين تحول التوازن باتجاه أولئك الذين يفضلون الخيار العسكري.
أما الأمر الأهم، فهو أن زيباكلام يجد الحجة التي أدلى بها ' عدد من المسؤولين' – بأن إيران ليست أفغانستان ولا العراق ولا يمكن احتلالها – حجة خطيرة تماماً بما يتعلق بمضامينها وآثارها المترتبة على إيران:
إن النقطة التي لا يتم إيلاؤها الاهتمام هو أنه لا يفترض بالأميركيين احتلال إيران بالطريقة التي احتُلت بها كل من أفغانستان والعراق. ما سيحدث ليس حرباً برية. ما سيحدث ربما هو توجيه المئات من صواريخ كروز نحو أهداف في إيران من سفن حربية أميركية موجودة في الخليج الفارسي...فالأمر ليس كما لو أن الأميركيين سوف يأتون إلى إيران ليواجهوا الشعب الإيراني. النقطة هي أنه إذا كان هناك من هجوم على إيران، فإنه سيعمل على شل البنية التحتية الصناعية والزراعية المنتجة بشكل فعال... الخاسر النهائي سيكون إيران.
يمضي زيباكلام في طرحه فيقول بأنه ليس هناك في الواقع تضارب بين ' المطالب الأساسية' التي للغرب والتي لإيران. فإذا ما أرادت إيران إنتاج أسلحة نووية، عندها سيكون هناك تضارب. ' لم يقل الغربيون مطلقاً بأنه ينبغي تدمير برنامج إيران السلمي، ولم تقل إيران أبداً بأنها تسعى إلى أي شيء عدا سعيها لبرنامج سلمي'. القضية هي قضية افتقار متبادل للثقة. بإمكان إيران معالجة الهواجس الغربية، بحسب ما يقول زيباكلام، وذلك عن طريق الحد من مستويات التخصيب والموافقة على عمليات تفتيش' منهجية' على سبيل المثال. وبإمكان الغرب أن يقدم، بدوره، تكنولوجيا متطورة لإيران بدلاً من استفادتها من تكنولوجيا لا تتطور إلا بكثير من الجهد أو بالاعتماد على تكنولوجيا مستخدمة من قبل يتم الحصول عليها من أسواق التهريب المحظورة.'
مع الإشارة في هذا النقاش، إلى أنه ليس هناك ذكر كبير إلى احتمال حصول هجوم إسرائيلي أو للآثار المترتبة على ذلك. إن الفرضية بالنسبة لشخص كزيباكلام هو أن القدرة التدميرية الحقيقية تأتي من الولايات المتحدة، وبذلك فهو لا يرى حاجة حتى إلى الانكباب على مسألة احتمال حصول هجوم إسرائيلي. قد تهاجم الولايات المتحدة إيران بنفسها أو قد تُجر إلى ذلك بواسطة إسرائيل، لكن تدمير إيران أمر ستتسبب به الولايات المتحدة.
من جهة أخرى، يعترف المتشددون فعلاً بالتهديد العسكري الإسرائيلي لكنهم يهملونه على أنه مجرد عربدة أو بالكاد يكون إستراتيجية سياسية. فعلى سبيل المثال، يقلل تصريح لنائب رئيس الوزراء الإسرائيلي موشيه يعالون من أهمية فرصة حصول هجوم وشيك على إيران معتبراً بأن بالإمكان جعل برنامجها النووي المثير للجدل يتراجع بفعل العقوبات والتخريب، وتقول وكالة ' رجا نيوز' المتشددة:
من المهم الإشارة إلى أن استراتيجية استخدام التخريب كالتفجيرات والاغتيالات لإبطاء برنامج إيران النووي كان من بين خطط مائير داغان، الرئيس الأسبق للموساد، وقد أصر على فعالية هذه التكتيكات واقترح على مسؤولي النظام الصهيوني، تكراراً، الاستمرار بمقاربات من هذا النوع وعدم التفكير بحرب. يبدو أن النظام الصهيوني يريد، عن طريق نشر الوهم حول إبطاء النووي الإيراني من خلال التخريب، منع ظاهرة ' إيران نووية' وفي نفس الوقت تقديم تبرير لعدم تنفيذ هجومه الخدعة.
هناك آخرون يتساءلون صراحة عن فرضية إمكانية قيام إسرائيل بمهاجمة إيران ويصرون على أن أنها لن تقوم بذلك تحت أي ظرف بسبب الفهم الواضح لدى القيادة الإسرائيلية بأن هكذا هجوم 'سيهدد بشكل جدي وخطير حياة هذا النظام الصهيوني'. وبالتالي، لا يرى المتشددون حاجة لمناقشة المدى الذي ستحد فيه التغييرات الهائلة الحاصلة في قيادات المنطقة من قدرة إيران على الرد الانتقامي إزاء أي هجوم عسكري على مواقعها النووية.
النتيجة النهائية هي أن إستراتيجية إيران الحالية ترتكز، بحسب ما حددها الخامنئي، ' سنرد على التهديدات بتهديدات' أو ' سوف نهاجم بنفس المستوى الذي سيهاجموننا به' على الاعتقاد بأن كل الحديث عن هجوم عسكري ما هو إلا عربدة كلامية، المقصود بها إخافة إيران والتقليل من ثقة الحكومة في حين يتم الضغط عليها في الوقت عينه للجلوس إلى طاولة المفاوضات ويدها ضعيفة. هذا الحجة مرتبطة بالسياسات المحلية الإيرانية أكثر بسبب الاعتقاد بأن الاستراتيجية الأميركية تتقصد ذلك للضغط على إيران، ' بعض الجماعات الإيرانية المحلية ستوسع من اللوبي الخاص بها وتجبر النظام على التحدث مع أميركا.'
إن الرد على التهديدات بتهديدات يُقصد منه تحرير إسرائيل والغرب من وهم الاعتقاد بأن استراتيجيتهم ناجحة. كما أنه مبني على المبدأ القائل بأنه ' مع الغربيين، ينبغي للمرء استخدام نفس اللغة التي أصبحوا يستخدمونها في حديثهم مع الآخرين'.
بالواقع، وبحسب حجة المتشددين، فإنهم بتسميتهم 'الحرب بالخدعة في الوقت الذي يكررون فيه موقفهم مجدداً من أن إيران تعتبر الأسلحة النووية إثماً، يكون الخامنئي قد خيَّر الغرب ما بين إيران نووية ، سلمية وبين إيران التي ستدافع عن نفسها بكل قدرتها وقوتها ضد أي هجوم'. لكن يتم تقديم هذا الخيار بثقة مزعومة من أن الغرب سيكون عليه اختيار برنامج إيران السلمي على حساب الحرب في نهاية المطاف.
مفاوضات مع الولايات المتحدة؟
إن الحديث عن المفاوضات مع الولايات المتحدة له خلفيته المتعلقة بالافتقار العميق للثقة في النوايا الأميركية إضافة إلى تاريخ من المفاوضات الفاشلة، التي تمتد حتى الآن وصولاً إلى تجربة 2009 مع إدارة أوباما. وكان الخامنئي الناطق الأكثر تعبيراً عن هذا الافتقار للثقة. فبرفضه فكرة أن تكون سياسات وسلوك الجمهورية الإسلامية هي الأسباب الحقيقية الكامنة وراء عدائية الغرب، رد الخامنئي قائلاً:
إن أولئك الذين يعتقدون بأن التراجع عن القضية النووية سيضع حداً لعداوة أميركا ينقصهم الحذر واليقظة لأن هناك بلداناً معينة في المنطقة لديها أسلحة نووية، لكن أميركا لا تظهر أية حساسية تجاهها. لذا فإن القضية النووية وحقوق الإنسان ليست الأسباب الحقيقية الكامنة وراء عداوة قوى البلطجة، بل أن السبب الرئيس خلف هذه العداوات هو أن الجمهورية الإسلامية والشعب الإيراني، وبكل فخر، يحميان موارد النفط والغاز الإيراني.
أما من يتخذ موقفاً مختلفاً نوعاً ما فهو رفسنجاني، الرئيس الإيراني السابق والرئيس الحالي لمصلحة تشخيص النظام، الذي يصر على القول بأن ' بإمكان إيران الآن التفاوض بالكامل مع الولايات المتحدة بناء على شروط متساوية وعلى الاحترام المتبادل'. ويعترف رفسنجاني بالفعل بنقطة خامنئي من أن برنامج إيران النووي ليس هو مشكلة الغرب الرئيسة مع إيران، محاججاً ضد أولئك الذين ' يعتقدون بأن مشاكل إيران مع الغرب ستحل من خلال التراجع عن القضية النووية'. في نفس الوقت، يدعو رفسنجاني إلى تفاعل استباقي مع العالم، وإلى الفهم بأنه بعد التحولات الأخيرة في الشرق الأوسط، ' يحاول الأميركيون إيجاد نماذج جديدة بامكانها التعبير عن الانسجام والتعاون في المنطقة، نماذج تحبها شعوب المنطقة أيضاً أكثر'. وفي مقابلة أخرى، يقول رفسنجاني بأن الوضع الحالي ' بعدم التحدث مع أميركا أو وجود علاقات معها ليس بالأمر المستدام...إن المحادثات لا تعني بأننا نستسلم لهم. فإذا ما قبلوا موقفنا أو قبلنا موقفهم، فالأمر منته'. ووفق النظرة العالمية لرفسنجاني، تعتبر المفاوضات حول برنامج إيران النووي مجرد خطوة في عملية ستعالج، في نهاية المطاف، مصادر أخرى للصراع مع الولايات المتحدة في المنطقة.
ويمضي نائب وزير الخارجية الأسبق صادق خرازي إلى ما هو أبعد من ذلك فيقول بأن ' الواقع هو أن مصالح إيران والولايات المتحدة متشابهة في عدد من الأمثلة. لقد تعاونا حول عدد من القضايا. كان لدينا تهديدات مشتركة'. وبقوله أن ' المتنافسين اليهود والعرب الإيرانيين' قد بدؤوا لعبة خطيرة، يمضي خرازي في كلامه محدداً أهم المخاوف الموجودة لدى هؤلاء ' المتنافسين' على أنها 'إعادة تنظيم للعلاقات بين إيران والولايات المتحدة'. ويصبح هذا التحليل القاعدة الأساس لانتقادات خرازي لعجز الديبلوماسية الإيرانية بظل رئاسة أحمدي نجاد بما يتعلق بتحسين موقف إيران الإقليمي وعلاقاتها مع الولايات المتحدة. إلا أن انتقاد العجز الديبلوماسي الإيراني بظل إدارة نجاد هو في الواقع غطاء لخلاف أعمق موجود داخل مؤسسة السياسة الخارجية.
وكشخص كان مشاركاً، بحسب ما ورد، في اقتراح 2003 المتعلق بمفاوضات شاملة مع الولايات المتحدة، بالإمكان اعتبار خرازي أحد أهم المؤيدين لمفاوضات واسعة النطاق مع الولايات المتحدة على أساس المصالح المتبادلة. إن صرف الولايات المتحدة النظر عن إمكانية حصول مفاوضات أدى إلى تقويض مسألة التفاوض على أساس المصالح المشتركة في نظر عدد من المسؤولين في إيران. لكنه لم يقوِّض بالكامل قضية التفاوض المرتكزة على خلفيات أخرى.
من الصحيح القول بأن خرازي والمتشددين، الذين يبدو بأنهم يستمعون له، لا يعتقدون بأن الولايات المتحدة تستحق الثقة. لكن ذلك لا يعني بأنهم يتجنبون كل أشكال المحادثات مع الولايات المتحدة. ونظراً إلى واقع إعطاء خرازي الصلاحية بالمضي قدماً في محاولات عديدة لإجراء محادثات حول القضية النووية والأمن العراقي مع الولايات المتحدة، فإن الجدل بأن خرازي، سياسياً وإيديولوجياً، ضد كل أشكال المحادثات كلام غير موثوق ولا مصداقية له. لكن بالنسبة للمتشددين، يجب أن تكمل المفاوضات من حيث ما يحددونه هم على أنه ' موقع قوة' ولن تكون مبنية بالضرورة على مصالح متبادلة واسعة، حتى ولو كان يمكن للـ ' النتائج' أن تنتهي بحصول تعاون أكبر على أساس المصالح المشتركة. خذوا هذا مثلاً من موقع الكتروني تابع للحرس الثوري الإيراني:
كانت الجمهورية الإسلامية قادرة من خلال الاعتماد على ' عقيدة المقاومة' على أداء دورها في مجالات الديبلوماسية، الاقتصاد، والأنشطة العسكرية الذكية وتقديم نفسها كقوة إقليمية إلى درجة أن العدو يتقبل هذا الأمر ويعلن بأن ' لا خيار لنا سوى تقبل دور إيران الهام في المنطقة؛ رغم أننا لدينا مشاكل مع قادة إيران. إن دور إيران في المنطقة مسألة لا يمكن تجاهلها'.
إن الثقة التي استعرضت في تصريحات كهذه لها آثارها المترتبة على وضع إيران بما يخص فائدة المحادثات مع الأعضاء الخمس الدائمين في مجلس الأمن الدولي زائد ألمانيا ( P5+1). وفي حين قاد فشل المحادثات عام 2009 معظم المتشددين إلى اعتبار أن لا معنى للحديث مع الولايات المتحدة، كان هناك تغيير ملموس في موقفهم مع الولايات المتحدة حول هذه القضية في الشهرين الماضيين، على الرغم من انتقادهم المدوي لرسفنجاني بسبب اقتراحه المحادثات.
على سبيل المثال، وفي نقاشها لمحادثات 13 نيسان مع الدول الخمس الكبرى زائد واحد، تستمر الافتتاحية المشار إليها فوق في صحيفة كيهان ( أنظر الحاشية رقم 14) بالتساؤل عن استعداد إدارة أوباما لمواصلة السعي لأجل ' حل عادل' بخصوص القضية النووية لكنها تتلهى بإمكانية أن تكون ' الحسابات الاستراتيجية الأميركية قد صُححت بدرجة كبيرة'، ما يجعل بالتالي المحادثات مع الولايات المتحدة أمراً له قيمة.
وتجد صحيفة كيهان أسباباً عديدة لتغيير الولايات المتحدة تقييمها للوضع. السبب الأول، وقبل كل شيء، يتعلق بما تعتبره كيهان الحسابات الخاطئة السابقة للغرب بخصوص القدرات التقنية لإيران. وتزعم كيهان بأن البلدان الغربية افترضت بأنه ما إن فشلت مفاوضات 2009 حول نقل اليورانيوم المنخفض التخصيب في مقابل الوقود لمفاعل أبحاث طهران، فإن إيران ستسعى لجولة مفاوضات جديدة في وقت قصير كاف بسبب حاجتها لـ 20 بالمئة من اليورانيوم المخصب وقضبان الوقود لأغراض طبية. كان هناك فرضية إضافية تقول بأن التخريب كان يبطئ البرنامج في نفس الوقت الذي كانت فيه الانقسامات داخل المجتمع الإيراني تضعف الحكومة.
ساهمت قدرة إيران على إنتاج الوقود والصفائح لمفاعل أبحاث طهران وقدرتها على صنع Fordo – وسيلة أكثر مناعة وحصانة إزاء أي هجوم جوي إضافة إلى القلق والتململ الصيني والروسي المتزايد بسبب العقوبات الأحادية، تحديداً بعد التورط العسكري الغربي في ليبيا وقدرة إيران على تجاوز الانقسامات التي ولدتها انتخابات 2009 من خلال إجراء انتخابات برلمانية منظمة في آذار 2012، كلها أمور ساهمت، بحسب ما قالت صحيفة كيهان ' في حصول تحول بطريق الضغوط الغربية ووصولها إلى طريق مسدود'. ' إن نموذج الكليشيه الموجود في أذهان الغربيين من أن بإمكانهم تحويل المقاومة الخارجية الإيرانية إلى أزمة محلية ينبغي أن يكون قد انهار الآن'. فمع انكشاف محدودية خيارات كل من الحرب والعقوبات، يبقى تقبل واقع إيران كبلد مع برنامجه النووي هو الخيار الوحيد المتبقي'، بحسب ما قالت افتتاحية كيهان.
إذن، إن هذه الثقة تسمح بدرجة ما من التوافق أو الالتقاء في النقاش الحاصل من أن إيران بحاجة، وبإمكانها التواصل مع الولايات المتحدة على أساس المصالح المتبادلة. فإذا ما وصلت إيران بالفعل إلى نقطة بحيث لا يكون أمام القوى الغربية خيار إلا قبول برنامجها النووي، عندها لن يكون هناك سبب لعدم البدء بالتفاوض حول تسوية من نوع ما تعالج هواجس إيران والقوى الغربية. وبحسب ما قال المفاوض النووي الإيراني السابق حسين موسويان:
إن الخطوة الأولى نحو عرض عملي قابل للتنفيذ هو تحديد الأساس لدى الجانبين. بالنسبة لإيران، يتعلق الأمر بالاعتراف بحقها المشروع بإنشاء برنامج نووي – بما في ذلك التخصيب – وتراجع مجموعة الخمس زائد 1 عن موقفها المتعلق ب' صفر' تخصيب. أما بالنسبة للمجموعة الخمس زائد واحد، فمن الممنوع تماماً على إيران إنشاء قنبلة نووية، وينبغي لها (إيران ) إزالة الالتباس والغموض حول برنامجها النووي بشكل يرضي ويقنع ' الوكالة الدولية للطاقة الذرية'.
ورغم أنه تم نشر مقترحات موسويان المتعلقة بعملية الخطوة خطوة حول معالجة هواجس الجانبين باللغة الإنكليزية خارج إيران، فقد تُرجمت ونشرت حتى في وسائل الإعلام المتشددة ' داخل' إيران. وضمن هذا الإطار يكون السؤال عن الضمانات الموضوعية التي تكون إيران مستعدة لإعطائها مقابل الاعتراف بحقوقها المشروعة ولإزالة الالتباس والغموض حول برنامجها النووي محور المفاوضات مجدداً. ففي المفاوضات التي كان موسويان مشاركاً بها مع الترويكا الأوروبية، فرنسا، بريطانيا وألمانيا، بين عاميْ 2003 و2005، أصر المحاورون الإيرانيون على القول، بتحفيز من إدارة بوش، بأن الضمانات الموضوعية يمكن أن تعني الوقف التام لكل أنشطة التخصيب والتي لها صلة بالتخصيب فقط. ويعتقد الإيرانيون على امتداد الطيف السياسي الآن بأن التقدم التكنولوجي قد غيَّر الوقائع على الأرض، ما جعل الغرب يدرك الطبيعة غير الواقعية لذلك الطلب، ويمهد الطريق للمحادثات التي تركز بدلاً من ذلك على معايير الشفافية والقيود الممكنة على برنامج إيران النووي.
أما ما هو غير واضح فهو ما إذا كان هذا الالتقاء حول مسألة إجراء محادثات، وعما إذا كان ذلك ناشئ من الضرورة أم من الثقة، أمر مترافق مع نوع من التوافق حول ما الذي بإمكان إيران تقديمه، أو ينبغي لها تقديمه، لحل الغموض والالتباس حول برنامجها النووي. ففي الماضي، وافقت إيران على نظام تفتيش أكثر صلابة، رغم أنه لم يتضمن أي شيء يتعامل مع إيران كحالة خاصة. كما كانت إيران مستعدة أيضاً للحد من مستوى التخصيب لديها، وكانت مستعدة حتى لاستيراد اليورانيوم المخصب بنسبة 20 بالمئة. وبالإمكان أيضاً تصور تفسير قرار إيران ببناء موقع تخصيب Fordo محصن تحت جبل بأنه رد فعل على التهديدات العسكرية ضد مواقعها النووية. إذن، ونظرياً، بالإمكان وضع كل هذه المسائل على الطاولة للتفاوض.
إلا أن الحديث حول ما الذي ينبغي لإيران تقديمه في المفاوضات لم يبدأ حقاً في إيران، على الأقل علناً. وفي أي حال من الأحوال إن الحديث الناجم، ولا يهم ما إذا كان الموضوع تتم مناقشته في داخل قاعات السلطة في إيران أم لا، فإن شكله سيحدده ما يكون المحاورون على استعداد لتقديمه في المقابل، ووفق الاحترام المتبادل الذي يطالب به المسؤولون الإيرانيون على امتداد الطيف السياسي – الأمر الذي يعني بالأساس، عملية خذ وأعط بدلاً من إبلاغ إيران عما ينبغي عليها فعله – الشيء الذي قد يأخذ مجراه أو لا في غرفة المفاوضات.
الاستنتاج
نظراً للذهنية المختلفة التي تم وصفها آنفاً، فإن من الواضح بأن هناك اختلافات حقيقية في الرأي في إيران بشأن مدى الوثوق بالنوايا الأميركية إضافة إلى ما يتعلق بأساس ونطاق المفاوضات مع الولايات المتحدة. إن الواقع هو أن إيران تنتج الآن 20 بالمئة من اليورانيوم المخصب لمفاعل أبحاث طهران – وهذا قد تكون مجموعة من الناس في البلد تصر على رفض إيران التخلي عن هذه القدرات الفطرية الطبيعية. وعلى الجانب الآخر من الطيف، وكما ذكر آنفاً، هناك أولئك الذين يرون قيمة في استبدال ' التكنولوجية القديمة والمستعملة' بالمساعدة الغربية التي لا يمكن أن تحدث إلا باستبدال العداوة بنوع من التكيف.
أما وأن هناك خلافات حقيقية بالرأي في إيران فأمر لطالما كان مفهوماً من قبل القوى الغربية. بالواقع، لقد كانت حجة مسؤولي الحكومة الأميركية بأن القصد من العقوبات الواسعة النطاق هو 'تبديل الحسابات الإيرانية' مرتكزة على وجود تلك الخلافات. إلا أن استخدام هذه العقوبات كوسيلة فظة خارج غرفة المفاوضات كان له تأثير في تعزيز موقف المتشددين الإيرانيين، الذين كان لديهم متسعاً من الوقت لدعم عدم ثقتهم بنوايا الغرب. لا يمكن أن يكون هناك شك بأنهم قد ربحوا حتى الآن الجدل الدائر في إيران في الوقت الذي يقفون فيه خارج غرفة التفاوض.
أما عما إذا كان الشيء نفسه يصح ' داخل' غرفة التفاوض فأمر سيكون له علاقة كبيرة بمدى استعداد القوى الغربية للمساومة كما هو الحال مع المواقف المتنافسة ذات الثقل النسبي داخل إيران.