مواد أخرى » هل يتجه "أردوغان" لتقزيم الجيش التركي على الطريقة الإيرانية؟

سعيد عكاشة

برغم فشل الانقلاب العسكري ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرا ، الأمر الذي قد يحفز بعض المحللين إلى القفز سريعا إلى نتيجة تبدو لهم حتمية، وهي خروجه أقوى سياسيًّا وشعبيًّا من هذه الأزمة في مواجهة مؤسسة الجيش، إلا أن ما ستخسره الدولة التركية من تماسكها الداخلي وصورتها الخارجية، ربما يكون ثمنًا فادحًا لطموحات أردوغان الشخصية؛ بل يمكن أن تنقلب هذه النتائج على أردوغان شخصيًّا، وتهدد بفقدانه مكانته في الواقع السياسي التركي في المستقبل القريب.

فلم يكتفِ أردوغان خلال السنوات الأخيرة من حكمه بالدخول في صدام مع المؤسسة العسكرية التي كانت تقاوم بقوة محاولة تطويعها وتقليل نفوذها السياسي تاريخيًّا، بل اصطدم بالعديد من مؤسسات الدولة التي استعصت على الانصياع لطموحاته، وعلى رأسها المؤسسة القضائية.

كما لم يتوانَ أردوغان أيضا عن الدخول في مواجهات مفتوحة مع الإعلاميين والأكاديميين برغم ما أدت إليه هذه المواجهات من تنامي الانتقادات لسياساته من جانب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون إلى القول بأن تركيا لن تدخل الاتحاد الأوروبي ولو بعد ألف عام، كما صرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأنه يرى في أردوغان شخصًا مستبدًّا. ناهيك عن صدامه المستمر مع حليف الأمس القريب فتح الله جولن، والذي اتهمه بتدبير الانقلاب الفاشل.

إغراء النموذج الإيراني:

وربما يدفع فشل الانقلاب أردوغان إلى تقزيم دور الجيش على غرار النموذج الإيراني. إذ أدرك أردوغان من واقع انتمائه الأيديولوجي لتيار الإسلام السياسي التركي، ومن حقيقة ما تعرضت له هذه التيارات في بلدان أخرى لملاحقات أمنية وإخفاقات سياسية، أن المؤسسات العسكرية هي العائق الأهم أمام وصول هذه التيارات إلى السلطة، كما تظل هي نفسها الخطر الأكبر على بقائها في الحكم إذا ما وصلت إليه، خاصة أن إنجازاته الاقتصادية التي حققها خلال العشرة أعوام الأخيرة لن تكون كافية وحدها لتشكيل حاجز شعبي يمنع العسكريين من التدخل في السياسة أو العودة إلى ممارسة لعبة الانقلابات العسكرية.

فقد شهدت الأونة الأخيرة تآكلا في الإنجاز الاقتصادي التركي بسبب استنزاف الدولة في المواجهات مع الأكراد وتورطها في الصراعات في سوريا والعراق كامتداد لجهود منع أكراد الداخل من التأثر بما حققه أقرانهم في هاتين الدولتين من حكم ذاتي أو إعلان فيدرالية، بالإضافة إلى تراجع عائدات السياحة وتدهور سعر العملة التركية.

وفي ضوء ذلك، ازداد قلق أردوغان من عودة الجيش إلى التفكير في الإطاحة بحكمه مع فشل الانقلاب الأخير، خاصة مع ما تردد عن وجود اختراقات كبيرة من قبل منافسه فتح الله جولن للمؤسسة العسكرية، كما أظهرت إدارة الأزمات الخارجية التي استخدمت فيها تركيا قوتها العسكرية وجود خلافات كبيرة بين أردوغان وبعض قادة الجيش الذين رفضوا محاولات أردوغان لتقديم تنازلات ملموسة للأكراد لحملهم على الدخول في عملية تسوية سياسية للصراع الكردي-التركي.

أضف لذلك، رفض هؤلاء القادة لسياسة التورط في الأزمة السورية وما جلبته لتركيا من مخاطر أمنية، سواء بتدفق المهاجرين السوريين إلى أراضيها، أو بسياسة غض الطرف عن تحركات داعش على الحدود السورية-التركية، بل وتقديم الدعم السري لهذا التنظيم بحجة منع أكراد سوريا من تأسيس دولة لهم هناك.

من هنا، سيكون إغراء النموذج الإيراني بالنسبة لأردوغان كبيرًا للاقتداء به في مواجهة المؤسسة العسكرية التركية بعد فشل الانقلاب، فمن المعروف أن قادة الثورة الإيرانية قد شرعوا بعد وقت قصير من انتصارهم على حكم الشاه عام ١٩٧٩ في تأمين حكم 'الملالي' عبر تحطيم المؤسسة العسكرية التي كانت الضامن الأكبر لاستقرار حكم الشاه، وكذلك المعارضة العلمانية، ولم توقف الحرب الإيرانية-العراقية التي نشبت عام ١٩٨٠ خطط الملالي للسيطرة الكاملة على الجيش وتقزيم دوره، برغم ما كانت تُشكله هذه السياسة من مخاطر على قدرة إيران على مواجهة الحرب مع العراق.

بمعنى أكثر وضوحًا، فإن محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا جعلت أردوغان يعتقد أن المخاطر الداخلية على حكمه، والتي تمثل طموحات المؤسسة العسكرية التركية لاسترداد نفوذها السياسي، لها الأولوية على المخاطر الخارجية التي تهدد الأمن التركي والتي يمكن التعامل معها عبر مظلة حلف الناتو الذي يتمتع بعضويته.

وفي هذا الإطار، لم يكتفِ أردوغان بالدخول في مواجهة 'صفرية' مع الجيش بعد فشل الإنقلاب وصلت إلى حد الإصرار على إظهار صور الجنود الذين شاركوا فيه، وهم يتعرضون لإهانات قاسية، بل وصلت أوامر الاعتقال للمنتمين للجيش إلى ما يزيد على ستة آلاف معتقل، وهو ما يعني أن الجيش التركي يتعرض لحركة تصفية كبرى ستؤثر على كفاءته وقدراته القتالية لفترة طويلة من الزمن.

الصدام مع القضاة والأحزاب

على جانب آخر، ومع تزايد حركة فصل القضاة، والتعدي على سلطات المحاكم، ورغبة أردوغان في تغيير الدستور والنظام السياسي، مع استمرار أجواء عدم الثقة بينه وبين الأوساط الإعلامية والأكاديمية (وقّع أكثر من ١٢٠٠ أستاذ جامعي في يناير الماضي على بيان ينتقد سياسات أردوغان الداخلية، وخاصة تلك المتعلقة بالتعامل مع الأكراد)؛ فإن نظام حكمه يواجه تحديًا كبيرًا في إعادة بناء هذه المؤسسات ليس وفقًا لمعايير الولاء بل لمعيار الكفاءة.

أيضًا يمكن أن تتسبب اعتقادات أردوغان الخاطئة في أن مشاركة أحزاب المعارضة والشعب التركي في إفشال الانقلاب قد منحته تفويضًا مفتوحًا لتغيير معالم ومرتكزات الدولة التركية، في ظل اشتداد الانقسامات في الداخل، بل إن الجهات التي عاونته على وأد الانقلاب يمكن أن يرتفع سقف مطالبها بمزيد من الديمقراطية والانفتاح على المعارضة، وتقبل انتقادات النخب المثقفة والإعلامية للنظام وسياساته.

محاولة إصلاح قد لا تثمر:

برغم أن أردوغان وجه الشكر إلى أحزاب المعارضة التي أعلنت مبكرًا رفضها للانقلاب، ، كما طالب رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم الأتراك بعدم الخلط بين المؤسسة العسكرية الشريفة والخونة الإرهابيين، داعيًا الشعب التركي لعدم الإصغاء إلى الحملات الدعائية والحملات المغرضة ضد الحكومة؛ إلا أن هذه التصريحات ليس بوسعها وحدها إزالة ما شعر به العسكريون عامة من رغبة أردوغان ورجال حزبه وأنصاره من إهانة، وصلت إلى حد وصفهم بأنهم و'داعش' خونة، فضلا عن عمليات الثأر التي صاحبت مواجهة الانقلاب من قتل وتمثيل بالجنود الذين شاركوا فيه، والأخطر من ذلك هو تكرار عرض مشهد اعتقال الشرطة لبعض المشاركين في التمرد، وتعرية أجسادهم أمام الرأي العام.

أيضًا تنتظر أحزاب المعارضة من أردوغان بعد فشل الإنقلاب التراجع عن محاولات تحويل النظام السياسي إلى نظام جمهوري يركز معظم السلطات بيد رئيس الجمهورية، كما أن تحركات القضاة عبر مؤسساتهم وعبر مؤيديهم في المجتمع المدني يجب أن يتم التحسب لها، فبوسع القضاة اتهام أردوغان بأنه يسعى إلى طَي المؤسسة القضائية تحت جناح السلطة التنفيذية بما يُفقد المواطن التركي القدرة على الاحتكام إلى مؤسسة يُفترض فيها أن تبقى بعيدًا عن الصراعات السياسية والحزبية، فالإطاحة بأكثر من ثلاثة آلاف قاضٍ بعد محاولة الانقلاب دون أن يوجد البديل الكفء والموثوق به سيُلقي بشكوك كبيرة حول الأحكام الصادرة عنه مستقبلا.

وأخيرًا، فإن استمرار استهداف المعارض الأهم لأردوغان 'فتح الله جولن' وكل مؤيديه سيدفع بالبلاد إلى حالة غير مسبوقة من الانقسام ستنعكس حتمًا على الاستقرار السياسي، وعلى فرص تركيا في مجابهة التحديات الاقتصادية في الداخل والمخاطر المتعددة على الأمن القومي من الخارج.
المصدر: المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية

موقع الخدمات البحثية