مواد أخرى » أزمة الرعاية الصحية المتفاقمة في سوريا

ستيفن فيليبس

يشمل أفضل شكل من الهياكل الإساسية للرعاية الصحية في أي بلد منشآت متطوّرة يعمل فيها مقدّمي خدمات مدرّبين تدريباً جيّداً ويتمتّعون بالوصول إلى المعلومات العلمية الصحية الموثوقة والحالية. وكانت الجمهورية العربية السورية قبل الحرب الأهلية قريبة من هذا الهدف؛ فقد كانت في عهدها خمس كليات طبّ عاملة، وتتمتع بخطّة للرعاية الصحية الوطنية والعناية الطبية، وسبعة وثلاثين مكتبة طبّية.

وخلال العقود التي سبقت الحرب الأهلية السورية، تحسن الوصول إلى المعلومات الصحية وتأمين الرعاية الصحية بشكل منتظم. فوفقاً لـ 'منظمة الصحة العالمية'، كان العمر المتوقع للمواطن السوري 75.7 عاماً في عام 2012، ما يشكّل قفزة من متوسط الـ 56 عاماً الذي سُجل في عام 1970. وأفادت المؤشرات الصحية ما قبل الصراع والتي جمعها 'الإئتلاف الدولي السوري للصحة' في عام 2012 إلى انخفاض كبير في معدل الوفيات الناجمة عن كافة الأسباب.

إلّا أنّ الحرب الأهلية قد عكست هذا المنحى؛ فانخفض متوسط ​​العمر المتوقع عشرين عاماً من مستوى عام 2012. وتقدّر الأمم المتحدة اليوم أنّ 12.2 مليون سوري - منهم حوالي ستة ملايين طفل - بحاجة إلى مساعدات إنسانية طارئة. إنّ فهم الحقائق الطبية للصراع السوري على الأرض وكيفية اختلافها عن الصراعات السابقة هو عنصر أساسي للتخصيص الفعّال للموارد الأمريكية والدولية فضلاً عن تطوير خطط طبية للفترة التي تلي الحرب الأهلية.

وطوال تاريخ الصراعات الحديثة، اعترف المحاربون بشكل عام بالطاقم والمنشآت الطبية كغير محاربين وتجنبوهم مواجهة الهجمات. وتنص 'اتفاقية جنيف' بشكل صريح أنّه يجب احترام وحماية العاملين في المجال الطبي العسكري والمدني بشكل حصري في جميع الظروف. وبالتالي، إنّ توجيه هجمات بشكل متعمّد ضد العاملين في المجال الطبي ومنشآت طبية قابلة للتحديد يشكّل جريمة حرب.

إنّ تجربتي الشخصية في فيتنام تدعم الفكرة أنّ 'أحكام اتفاقية جنيف' قد طُبّقت بشكل عام حتّى في ظل سيناريوهات الحروب الحديثة المحتدمة. فقد تجنب المقاتلون النظاميون في كل من 'الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام' ('فيت كونغ') ومن شمال فيتنام مهاجمة منشآت طبية قابلة للتحديد على نحو كافٍ، على الأرجح نظراً للعلاج الروتيني في 'المستشفيات العسكرية' التابعة للولايات المتحدة للمحاربين الجرحى من العدوّ. وفي عام 1968، وخلال خدمتي في 'الوحدة 101 المحمولة جواً'، كنّا أنا وفريق الأطباء نؤمّن 'برنامج العمل الطبي المدني' ('ميدكاب') في قرية نائية. ومع غروب الشمس، قال لي زعيم القرية إنّ فصيلة تابعة لـ 'الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام' كانت تقترب من القرية وطلب منّا المغادرة على الفور لأنّ الفصيلة لا تريد أذية فريق 'ميدكاب'. وعلى الرغم من خشيتنا من أن يُنصب كميناً لنا، غادرنا القرية دون أن نصاب بأذى. وفي حادثة أخرى، تم تكليف فريقي الطبي بمهمّة المساعدة على إعادة فتح المستشفى المدني في 'مدينة هيو' والذي كان قد دُمّر جرّاء هجوم 'تيت' (سُمّي على اسم عطلة السنة القمرية الجديدة 'تيت'). وهناك، عالجنا السكّان المدنيين بشكل عام الذين بلا شكّ قد شملوا العديد من الأعداء والمتعاطفين معهم. إنّ التعرّف علينا بشكل ملائم ضمن عدم تعرّضنا للأذية أو حتّى التهديد خلال تلك المهمّة التي دامت ثلاثة أشهر.

ويتناقض الصراع السوري تماماً مع هذا النموذج من الرعاية الصحية خلال الحروب الحديثة. فنظام الرعاية الصحية، والهياكل الأساسية للصحة العامة، ومصادر المعلومات الصحية في سوريا قد دُمّرت جرّاء الحرب الأهلية المستمرّة، لا سيّما في المناطق التي يسيطر عليها الثوار. كما أن موظفي الرعاية الصحية، ومنشآت الرعاية الصحية، وسيارات الإسعاف، ومصنّعي التجهيزات الطبية والمواد الصيدلية ومزوّديها، من بينهم المنظمات غير الحكومية مثل 'أطباء بلا حدود'، قد استُهدفت بصورة متعمّدة وبقوة على جبهات عدّة، وبشكل رئيسي من قبل الحكومة السورية. فهذه الأخيرة التي تسيطر على العمليات الجوية مسؤولة عن شن 88 بالمائة من الهجمات المسجّلة على المستشفيات وعلى 97 بالمائة من العاملين في المجال الطبي الذين قُتلوا، مع تسجيل 139 حالات وفاة تُعزى مباشرة إلى التعذيب أو الإعدام. واتُهمت قوّات الثوار وتنظيم &laqascii117o;الدولة الإسلامية" أيضاً باستهداف القطاع الصحي. وبشكل إجمالي، تمّ تنفيذ 233 هجوماً متعمّداً أو عشوائياً على 183 منشأة طبية.

وقد أدت مشاركة روسيا في الحملة الجوية إلى زيادة عمليات قصف المستشفيات والعيادات بشكل كبير. وفي تشرين الأوّل/ أكتوبر 2015، أي في الشهر الأوّل الكامل من التدخّل الروسي، تمّ استهداف وقصف 12 منشأة طبية بشكل متعمّد بينما استهدفت القنابل الروسية في أوائل عام 2016 ثلاثة مستشفيات، وأسفرت تلك الهجمات عن مقتل العديد من الناس وحرمان آلاف السوريين من الوصول إلى الرعاية الصحية.

وقد تفاقمت آثار عمليات القصف المذكورة هنا لتتحوّل إلى أزمة صحية وطنية. ووفقاً لـ 'منظمة الصحة العالمية'، أصبح ما يقرب من ثلثي المستشفيات والعيادات السورية عديمة الفائدة أو تمّ تدميرها بسبب الحرب. أمّا المنشآت الطبية المتبقية فتعاني نقصاً في طاقمها وتجهيزاتها ومؤنها، كما تواجه طفرة في مجال معالجة الصدمات. وقد نتج عن حظر السفر وفرض العقوبات نقصاً في الأدوية واللوازم الطبية والمعدات الطبية.

وقد عانى كل من الأطباء والمرضى بشكل كبير من هذه الهياكل الأساسية المتزعزعة، فقد قُتل أو جُرح حوالي 700 عامل في مجال الرعاية الطبية، واضطر نصف أطبّاء البلاد إلى الهروب من سوريا. كما جُرح أو قُتل أكثر من مليون سوري، مما جعل مئات الآلاف من الناس يعانون من إعاقات مزمنة تمت معالجتها بشكل سيّئ، فضلاً عن حدوث نقص كبير في إمكانية الوصول إلى الخدمات الطبية الأساسية. بالإضافة إلى ذلك تضاعفت حالات الوفاة الناجمة عن الأمراض والجروح التي يمكن علاجها. وإلى جانب التحدّيات المرتبطة بالقتال، توقّفت العلاجات لأمراض الأوعية القلبية والكلوية المزمنة، والسرطان، والسكّري، وتعطلّت العمليات الطبية الروتينية غير الطارئة بشكل خطير. ولا يمكن لرعاية المتابعة 'الاختيارية' للجروح، والأطراف الاصطناعية لمبتوري الأطراف، والالتهابات، وغيرها من الحالات أن تكون أولوية بعد الآن ونادراً ما تحظى بالعناية اللازمة.

إنّ التهجير الواسع النطاق للشعب السوري، والظروف غير الصحية، وإمدادات المياه الملوّثة تؤدّي كلّها إلى إعادة ظهور أمراض معدية كانت قد انقرضت في الماضي مثل شلل الأطفال، والكوليرا، وحمّى التيفوئيد، والتهابات الكبد، والأمراض الطفيلية. ولا يمكن إحصاء الإصابات العقلية التي ألحقت بها هذه الحرب الأهلية على المدنيين، والتي تكاد تتمّ عامها السادس.

وتعمل 'الجمعية الطبية السورية الأمريكية' بشكل فاعل على توفير دورة متطوّعي الرعاية الصحية في سوريا، بينما يسجّل أطبّاء الجمعية، ومن بينهم الدكتور سامر العطّار، أهوال الميدان والنواقص الخطيرة للوضع الطبي الذي أدّى إلى خسارة العديد من الأرواح التي كان يمكن إنقاذها.

فالمتخصصون في مجال الرعاية الطبية عاجزون على عدة أصعدة عن تحسين الوضع. وقد أشار ليوناردو روبنشتاين، مدير في 'مركز بلومبرغ للرعاية الصحية وحقوق الإنسان' في 'جامعة جونز هوبكنز'، إلى أنّ الوضع في سوريا 'هو أسوأ هجوم منسّق على الرعاية الصحية في الذاكرة الحيّة... وفي أماكن مثل البوسنة والشيشان وأفغانستان وقطاع غزة، لم يحصل شيء مماثل للذي حصل في سوريا'.

ومنذ بدء الأزمة، قدّمت الولايات المتحدة أكثر من 6.5 مليار دولار من المساعدات الإنسانية. ويدعم هذا الجهد المادي عمليات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية لتأمين الإغاثة الطارئة لسوريا والدول المجاورة التي أصبحت ترزح تحت ثقل مساعدة اللاجئين وعمدت بشكل دوري على إغلاق حدودها بسبب الهجمات الإرهابية. بيد أن الحدود المغلقة تحول دون قيام المنظمات الطبية الإنسانية الدولية مثل 'أطبّاء بلا حدود' بمعالجة الجرحى السوريين. وهناك تقارير غير مؤكدة مفادها أنّ الجيش الإسرائيلي قد أقام مستشفى ميدانياً على الحدود السورية في هضبة الجولان لعلاج الجرحى السوريين.

ومن الواضح أنّ الأزمة السورية لن تنتهي قريباً، لكنه من المهمّ البدء بالتفكير بالجهود الدولية الكبيرة التي ستلزم لإعادة بناء الهياكل الأساسية للصحة العامة والرعاية الصحية في البلاد. على المجتمع الطبي السوري والمنظمات غير الحكومية الداعمة الانتقال من حالة استجابة للأزمات إلى التخطيط الاستراتيجي وحالة التعافي. وسيستلزم القطاع الصحي الذي سيُجمع لدعم هذا الجهد قيادةً وسيطرة قويتَين لتنسيق الجهود وترتيب النشاطات وفقاً لأولويتها، وتطوير بروتوكولات تواصل قادرة على التكيف مع عمل فريق دولي. والمهمّ جدّاً في هذا الجهد هو الاستفادة من الوصول الفوري والمفتوح والمجّاني للمعلومات الصحية التي يؤمّنها 'مركز أبحاث إدارة معلومات الكوارث' التابع لـ ' المكتبة الوطنية الأمريكية للأدوية'.

طوال تاريخ الحروب، كانت جهات الإستجابة الطبية، العسكرية والمدنية على حد سواء، بمنأى عن الهجمات بشكل عمدي، وحتى أثناء القتال الحاد الذي شهدته 'الحرب العالمية الأولى' و 'الحرب العالمية الثانية'، كانت هناك دائماً هدنة دورية تسمح للفرق الطبية بإخلاء وعلاج المصابين. لكن الوضع في سوريا ليس كذلك، حيث استهدفت الحكومة السورية عمداً الهياكل الأساسية الطبية الخاصة بها ومن بينها فرق المتطوعين الإنسانية. وقد أدت تلك الهجمات التي تمثل انتهاكاً صارخاً لـ 'اتفاقية جنيف' إلى التدمير الكامل تقريباً لنظام الرعاية الصحية الحديث في سوريا، الذي تم إنشاؤه قبل اندلاع الحرب. لذلك، فان إعادة بناء البنية الصحية المدمَّرة سيتطلب جهوداً جبارة من قبل المجتمع الدولي، الذي يجب أن يلتزم بالعمل لعقود من الزمن.

المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى.


موقع الخدمات البحثية