قراءات سياسية » خطر سياسات السعودية على الأمن القومي العربي


maqal_300


كيف تأسست السعودية بحروب دينية ووحشية بالغة؟ لماذ لم يهاجم عبد العزيز بن سعود الإنجليز حين غزوا اليمن في 1934؟ كيف جعلت ماكينة الدعاية السعودية من حكام المملكة مدافعين عن حرية الشعوب بعد ثورات الربيع العربي؟

د. باسم أحمد حسن

تأسست المملكة السعودية في عام ١٩٣٢ مما يجعلها من أقدم الدول العربية، وجاء ميلاد المملكة دموياًّ عبر سلسلة من الحروب التي شنها مؤسسها عبد العزيز بن سعود على منافسيه من شيوخ القبائل في الجزيرة العربية على مدى ثلاثين عامًا، وتوج عبد العزيز حروبه بغزو الحجاز، وضم مكة والمدينة إلى حكمه في عام ١٩٢٥، واتسمت حروب عبد العزيز بصبغة دينية متشددة ووحشية بالغة خصوصًا ضد العرب الشيعة؛ نتيجة لتحالفه مع الحركة الوهابية، والتي أصدر شيوخها في عام ١٩٢٧ «أي قبل نصف قرن من تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران»، «فتوى» بهدم دور عبادة «الروافض»، ومنعهم من ممارسة طقوسهم وإلزامهم تعلم المبادئ الوهابية ومعاقبة المعترضين منهم على ذلك بالنفي منظرين بذلك لاضطهاد مذهبي
لم تكن الجزيرة العربية قد عرفته قبل ظهور الحركة الوهابية وتحالفها مع آل سعود.

وقد يتعجب البعض من أن التشدد الديني الذي دفع عبد العزيز لغزو المناطق التي تكونت منها المملكة لم يحفزه على محاولة طرد الإنجليز من مشيخات الخليج المجاورة لحدود المملكة أو من العراق، بل إنه عندما تمردت عليه بعض قواته رغبة في التوسع شمالًا وشرقاً في مناطق خاضعة للإنجليز فإن عبد العزيز تعاون مع الإنجليز في القضاء عليها، وكما في الشمال والشرق من مملكته الناشئة كذلك في الجنوب منها حرص عبد العزيز على التوسع على حساب غيره من الحكام العرب مع تجنب تهديد المصالح الإنجليزية، فغزا اليمن في عام ١٩٣٤،
وضم ثلاثة من أقاليمه دون أن يتعرض للقوات الإنجليزية في عدن والجنوب..

ولم يكن استخدام عبد العزيز للمذهبية والتشدد الديني في مواجهة منافسيه العرب مع الحرص على ألا يؤثرا على صفو علاقاته مع الإنجليز ومن بعدهم مع الأمريكيين أمرًا اعتباطياًّ، وإنما سياسة متعمدة لمعرفة عبد العزيز بأهمية التشدد الديني والتعصب المذهبي في ظل ضعف قاعدته القبلية في إضفاء الشرعية على حروبه التوسعية خصوصا لدى الوهابيين، ولإدراكه في الوقت ذاته بحاجته إلى دعم القوى الاستعمارية «حصل عبد العزيز في ١٩١٥ على عشرين ألف جنيه إسترليني بعد توقيعه على معاهدة مع الإنجليز والتي بمقتضاها حصل منذ ١٩١٥ وحتى ١٩٢٤ على إعانة مالية سنوية تقدر بـ٥٠٠٠ جنيه إسترليني، بالإضافة إلى معونة عسكرية منتظمة، واستبدل الدعم الأمريكي بالإنجليزي منذ ١٩٣٣»؛ لتثبيت أركان حكمه؛ ولتيقنه من أن انحياز هذه القوى لأحد منافسيه سيجعل مصيره لا يختلف كثيرًا عن مصير أسلافه  مؤسسي الإمارتين السعوديتين الأولى والثانية في القرن التاسع عشر.

وقد سار جميع أبناء عبد العزيز على النهج ذاته، وإذا كان الأب قد استخدم الوهابية ودعم القوى الاستعمارية في مواجهة منافسيه المحليين في الجزيرة العربية فإن الأبناء استفادوا منهما في مواجهة أعدائهم على امتداد الوطن العربي، وأحبط المد القومي في ظل القيادة الكاريزمية لجمال عبد الناصر المحاولات السعودية ـ الأمريكية لفرض الوهابية كأيديولوجيا بديلة للقومية العربية وتقديم حكام المملكة كمنافسين لعبد الناصر على زعامة الأمة العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ولكن مع رحيل عبد الناصر وانضمام مصر إلى المعسكر الأمريكي وما ترتب على ذلك من تراجع حاد للتيار القومي تمكنت المؤسسة الدينية السعودية من اختراق المجتمعات العربية ونجحت الآلة الدعائية السعودية في ترويج صورة حكام المملكة كزعماء مدافعين عن مقدسات الأمة، خصوصا فيصل بن عبد العزيز والذي يقدم كضحية مؤامرة أمريكية لتمسكه بالقدس وقيادته لجهود حظر البترول أثناء حرب أكتوبر/ تشرين الاول ١٩٧٣، ولا يتسع المجال هنا لمناقشة مستفيضة للصورة الذهنية السائدة عن هذا الحظر في المخيلة العربية والمسافة ما بينها وما بين وقائع ونتائج الحظر ذاته، ولكن تكفي الإشارة إلى أن الحظر لم يمنع الولايات المتحدة من إنشاء جسر جوي لدعم الصهاينة، وأن الحظر أعلن في الوقت الذي كانت الحرب قد أوشكت على الانتهاء وليس في بدايتها أو حتى في منتصفها، وبعد إن كانت القوات الإسرائيلية قد تمكنت من اختراق المواقع المصرية وعبور قناة السويس فيما يعرف بثغرة الدفرسوار، ومن شن هجوم مضاد ناجح في الجولان السوري المحتل، أما فيما يتعلق بخرافة تمرد فيصل على الولايات المتحدة فإنها لا تصمد أمام حقيقة أن فيصل قد وقع عدة اتفاقيات مع الولايات المتحدة في عام ١٩٧٤ ضمنت للأخيرة أن
يتم تحويل معظم عوائد النفط السعودية إلى السوق الأمريكية منتجًا بذلك ظاهرة البترودولار، والتي وصفها أحد الباحثين المرموقين في الاقتصاد السياسي الدولي باليد الخفية للهيمنة الأمريكية على العالم، والأهم أن أحد أبناء فيصل ظهر في عام ٢٠٠٥ في برنامج وثائقي وأكد أن فيصل قد قتل على يد أحد أقاربه؛ بسبب ثأر شخصي وجراء تبنيه نهجًا منفتحًا لم يرضَ عنه المتشددون الدينيون في المملكة.
ويكشف هذا البرنامج ـ والذي كان جزءًا من حملة دعائية هدفت لتحسين صورة الأسرة الحاكمة السعودية في الولايات المتحدة في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر ـ عن عدم التزام فيصل بحظر البترول عن الولايات المتحدة كدليل على متانة العلاقات بين الطرفين، حيث أوضح أحد مديرى شركة أرامكو السابقين أن فيصل قد سمح لهم باستئناف ضخ البترول وتسليمه الولايات المتحدة في أثناء الحظر حتى لا تتأثر بالسلب الحرب الأمريكية الاستعمارية في فيتنام» يمكن مشاهدة البرنامج على الرابط التالى الجزء الذي يكشف عدم التزام فيصل بالحظر ووقائع اغتياله تقع ما بين الدقيقة ٥٦ و٥٩:

https://www.youtube.com/watch?v=PQk0g8FKBq4

وإذا كان حكام المملكة قد حرصوا دائمًا على إضفاء صبغة دينية على حكمهم مثال ذلك اتخاذهم لقب خادم الحرمين فإن ماكينة الدعاية السعودية عملت منذ انطلاق ربيع المحافظين الجدد الموسوم زورًا بالربيع العربي على تصوير حكام المملكة كمدافعين عن حرية الشعوب.. وهو أمر مثير للسخرية، ليس فقط لأن حكام المملكة من ضمن النماذج النادرة في التاريخ الذين نسبوا من يحكمونهم إلى أنفسهم جاعلين هؤلاء أقرب إلى الموالي منهم إلى المواطنين، ولكن الأهم أن مواقف حكام المملكة الفعلية في السنوات الأربع والنصف الأخيرة وليس مزاعم أبواقهم الدعائية كانت في الأغلب ضد مصالح الشعوب، فالمملكة استضافت الديكتاتور التونسي الفار، وكانت تسعى لتأمين الدعم الأمريكي لحسني مبارك لإبقائه في الحكم حتى انتهاء مدته الرئاسية على الأقل..

أما في البحرين فقمعت القوات السعودية بوحشية إحدى أكثر الانتفاضات العربية سلمية، ولعبت المملكة دورًا رئيسياًّ في استدعاء حلف الأطلسي لتدمير ليبيا إن لم يكن الدور الأساسي حيث لا تستطيع قطر حشد الأصوات اللازمة لتمرير قرار كهذا خصوصا في ضوء عدم ميثاقيته، وفي سوريا لم تكتف المملكة بتجييش آلتها الدعائية لاختلاق فتنة مذهبية بل حشدت العصابات الوهابية وسلحتها بهدف إسقاط الدولة السورية، وحتى عندما ساندت المملكة تحرك الشعب في مصر لإسقاط حكم الإخوان المسلمين فإن ذلك لم يكن لإيمان حكامها بحقه في اختيار ممثليه السياسيين، وإنما لإدراكهم بأن هذا التحرك أنقذهم من أن يقعوا بين مطرقة إيران وسندان التحالف القطري ـ التركي ـ الإخواني المدعوم من إدارة باراك أوباما بما يعنيه ذلك من إضعاف لنفوذ المملكة في العالمين العربي والإسلامي وإضعاف لقدرة حكامها على مواجهة مطالب الإصلاح السياسي، بعبارة أخرى فإن هذا التحرك الشعبي أنقذ المملكة من هزيمة استراتيجية لم تكن تستطيع التغلب على آثارها مهما أنفقت لشراء حلفاء جدد أو للحفاظ على من تبقى من حلفائها.

وعلى الرغم من البون الشاسع بين سياسات المملكة تجاه شعوب «الربيع» والصورة التي تروجها أبواق المملكة، فإن قطاعات غير قليلة من المجتمعات العربية انطلت عليها هذه الدعاية السوداء؛ بسبب التعتيم الإعلامي على الدور السعودي في تدمير العديد من الدول العربية، وهو التعتيم الناتج عن سيطرة المال السعودي والخليجي عامة على الإعلام العربي باستثناء بعض المنابر التي ظلت عصية على شيوخ النفط، وهو ما يظهر بوضوح في تغطية هذا الإعلام للعدوان السعودي على اليمن من خلال إخفاء الكثير من الحقائق عن جمهوره مثل انتهاء مدة رئاسة عبد ربه منصور هادى للمرحلة الانتقالية في اليمن كذلك العام الإضافي الذي مددت له وذلك قبل بدء العدوان السعودي، كذلك تم التعتيم على تصريحات المبعوث الأممى السابق لليمن لصحيفة الوول ستريت جورنال في إبريل/ نيسان الماضى والذي اتهم المملكة بإجهاض مبادرته التي قبلتها القوى السياسية اليمنية بما فيها أنصار لله، والتي كانت تتضمن انسحاب مقاتلي أنصار لله من المدن اليمنية ومشاركة جميع الفرقاء اليمنيين في إدارة البلاد من خلال مجلس تنفيذي يضم هادي وممثلين للقوى السياسية المختلفة ومجلسين وزاري وتشريعي تمثل فيهما مختلف القوى ويخصص حوالي ثلث مقاعدهما لليمنيات، كما لا يتم التطرق إلى وجود مقاتلي القاعدة الذين يقاتلون إلى جانب التحالف السعودي، وفيما يبدو أنه اقتداء بتغطية الصحف الغربية للاعتداءات الصهيونية يتجاهل هذا الإعلام آلاف المدنيين اليمنيين من ضحايا المجازر السعودية والتدمير التام لمقومات الحياة في اليمن بفعل الغارات السعودية، بينما يتم تصوير العدد القليل من قتلى المعتدين على موطن العرب العاربة على أنهم شهداء العروبة!

والأخطر في تناول آلة الدعاية السعودية للعدوان على اليمن هو توظيفها لمفردات من معجم حركات التحرر العربية بطريقة تشوه معانيها المستقرة في الوعي والذاكرة العربيين مثل تعبير المقاومة والذي يستخدم في سياق هذا العدوان لا لوصف المدافعين عن وطنهم ضد الغزاة وإنما يطلق على خليط من القوات الانفصالية الجنوبية ومقاتلي القاعدة، كذلك يتم استخدام
مصطلح التحرير لوصف اقتحام القوات الغازية وحلفائها للمدن اليمنية، وهي استخدامات تتطابق مع استخدام الميليشيات اللبنانية العميلة للكيان الصهيوني لهذه المفردات في أثناء الغزو الإسرائيلى للبنان في عام ١٩٨٢ «بقايا تلك الميليشيات من حلفاء المملكة حاليا»، وإذا لم يتم التصدى وبجدية للتشويه السعودي لهذه المفردات فليس من المستغرب أن يرتبط تحرير عدن في أذهان الأجيال العربية القادمة بغزو التحالف السعودي للمدينة وليس بنضال الشعب اليمني ضد المحتل الإنجليزي حليف المملكة في الحرب على الثورة اليمنية في ستينيات القرن الماضي.

إن المملكة السعودية كما سبق الإشارة من أقدم الدول العربية، وهى أيضًا الدولة العربية الوحيدة التي لم تعان من احتلال أجنبي سواء تحت مسمى الحماية أو الانتداب أو أي مسمى آخر، كما أنها صاحبة الثروة النفطية الأكبر من بين جميع الدول العربية، وهذه العوامل كان من الممكن أن تجعل من المملكة داعما أساسيا لحركات التحرر العربية، كذلك كان بإمكان المملكة أن تكون قاطرة التنمية العربية المشتركة، ولكن حكام المملكة اختاروا أن يجندوا شباب العرب والمسلمين لا لتحرير فلسطين وإنما للقتال بالوكالة عن الولايات المتحدة في أفغانستان، كما يعملون اليوم على تمزيق المجتمعات العربية بينما يطبعون علاقاتهم مع الكيان الصهيوني بما يخالف حتى مبادرتهم التي تبنتها «الجامعة العربية» في عام ٢٠٠٢ والتي ما زال الصهاينة يتجاهلونها، وأهدروا وما زالوا المليارات بينما يعانى الشباب العربي بما فيهم الكثير من مواطني المملكة من الفقر والأمية وارتفاع معدلات البطالة والعنوسة بينما تضخ عوائد النفط في الاقتصاديات الغربية، وفي المقابل لم تصدر المملكة إلى الوطن العربي إلا الوهابية بتعصبها، والاستهلاك الترفي وما يصاحبه من تدمير للذوق والإبداع، والمال السياسى المفسد لذمم العاملين في المجال العام والشاري للمواقف السياسية.. ونجح هذا النهج حتى الآن في تثبيت سلطة الأسرة الحاكمة، وإن جاء ذلك على حساب مصالح مواطني المملكة أنفسهم والأمن القومي العربي، حتى أصبح مصير المشرق العربي اليوم خاضعًا لتسويات سياسية هي بالأساس بين لاعبين إقليميين ودوليين من غير العرب.. لذا فإن العمل على بناء مستقبل عربى جديد ـ بغض النظر عما ستنتهى إليه الحروب الحالية والتسويات التي ستترتب عليها ـ يتطلب إزالة آثار العدوان السعودي على وعينا وذاكرتنا وبناء وعي نقيض للوهابية ولقيم النفط حتى نصبح أمة وليس مجموعة من الطوائف والقبائل المتناحرة كما يريدنا حكام المملكة وحلفاؤهم.
المصدر: موقع جريدة المقال المصرية

موقع الخدمات البحثية