قراءة في كتاب » واشنطن والثورة المصرية من 25 يناير إلى ما بعد 3 يوليو

محمد بسيوني عبد الحليم(*)
ascii117saandegypitioanrev_300

لم تكن الولايات المتحدة تتصور أن معادلة الحكم في مصر قابلة للتغير؛ فطوال سنوات حكم الرئيس 'حسني مبارك' كانت واشنطن تعول على استقرار نظام الحكم كأحد المحددات الرئيسية لتحقق المصالح الأمريكية بالمنطقة، ومن ثم كان الشاغل الأساسي لصانع القرار الأمريكي يتمثل في الدعم المطلق لنظام مبارك بصورة كشفت عن إشكالية كبيرة في السياسة الأمريكية؛ إذ إن التناقض بدا واضحًا بين خطاب المثالية الأمريكية الداعم للديمقراطية وحقوق الإنسان وبين خطاب البرجماتية الباحث عن المصلحة.
وفي خضم التحولات التي أفرزتها ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، اتضح أن هناك فرضيات ومُسلَّمات في حاجة إلى إعادة التفكير فيها؛ فالولايات المتحدة بكل نفوذها وتأثيرها لم تتمكن من تثبيت دعائم حكم نظام مبارك، وبدا أن الولايات المتحدة تواجه صعوبات في الأوضاع الجديدة التي تكرسها الثورة المصرية وغيرها من ثورات الربيع العربي؛ فالواقع تجلى أنه يقوض فرضية الفاعل الأمريكي المحرك للأحداث في مصر وغيرها من دول المنطقة ليستعيض عنه بمرحلة جديدة تبدو فيها واشنطن أقرب إلى المفعول به، في ظل أحداث تتحرك بوتيرة متسارعة تتجاوز رد الفعل الأمريكي الذي اتسم بقدر كبير من التباطؤ والالتزام بسياسة التراجع والانتظار والانتقائية. واستمرت هذه الإشكالية خلال السنوات التالية على الثورة وصولاً إلى إنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين في الثلاثين من يونيو 2013.
وفي هذا الصدد، يتناول محمد المنشاوي، الخبير في الشأن المصري بمعهد الشرق الأوسط بواشنطن، عبر كتاب 'أمريكا والثورة المصرية.. من 25 يناير إلى ما بعد 3 يوليه'؛ الكيفية التي تعاطت بها واشنطن مع ثورة يناير 2011 وما تبعها من أحداث، وصولاً إلى إنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين وعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي. وحاول الكتاب –عبر أجزائه الأربعة- إلقاء الضوء على أبعاد الموقف الأمريكي بما ينطوي عليه من تعقيدات الداخل الأمريكي وتشابكات الوضع المصري.
خطاب المصالح
خلال العقود الماضية، اعتبرت الولايات المتحدة الحفاظ على علاقات متقاربة مع مصر، أمرًا ضروريًّا تحقق من ورائه مصالح عدة؛ حيث يشير المنشاوي إلى أن العلاقات بين الدولتين ارتكزت على معادلة 'المساعدات مقابل التعاون'؛ فتقديم الولايات المتحدة المساعدات إلى مصر، ودعم النظام الحاكم؛ ارتهنا بالتزام النظام المصري الحاكم (نظام مبارك على مدار العقود الثلاثة الماضية) بضرورة الحفاظ على المصالح الأمريكية.
ويرجع الكتاب بداية التحالف بين الدولتين إلى فترة الرئيس المصري الأسبق السادات، الذي تبنى استراتيجية للتقارب مع واشنطن بدلاً من العلاقات التاريخية مع الاتحاد السوفييتي آنذاك. ومع التوقيع على معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية برعاية أمريكية، تم الترسيخ للعلاقات الثنائية بين واشنطن والقاهرة بصورة غير مسبوقة، لا سيما أن هذه المعاهدة اقترنت بتقديم الولايات المتحدة المساعدات إلى مصر. وسرعان ما اتضح أن إسرائيل تمثل ركيزة أساسية للعلاقات الأمريكية ـ المصرية.
ولم يشهد هذا المسار تراجعًا ملحوظًا خلال سنوات حكم الرئيس الأسبق مبارك، بل تم تدعيمه بصورة كبيرة؛ فمن ناحية كانت الإدارة الأمريكية تهدف من علاقاتها مع القاهرة إلى التقدم في عملية السلام بالشرق الأوسط، والحفاظ على الاستقرار الإقليمي، والتصدي للإرهاب الدولي. وقد ارتبط ذلك باستمرار الالتزام المصري بعدم عودة العلاقات الطبيعية مع إيران، وفي الوقت ذاته التوجه نحو تطوير العلاقات مع تل أبيب، سواء على المستوى السياسي، أو حتى على المستوى الاقتصادي، خاصةً مع التوقيع على اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة 'الكويز' في ديسمبر 2004 بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، كان النظام المصري يطمح من وراء علاقاته مع واشنطن إلى توفير غطاء خارجي يعطيه الشرعية وأريحية أكبر في التحرك على الساحتين الإقليمية والدولية.
ومن ثم، تجلى التعاون المصري الأمريكي (أثناء حكم الرئيس الأسبق مبارك) في ثلاثة محاور رئيسية: أولها التعاون العسكري؛ حيث تقدم واشنطن إلى مصر مساعدات عسكرية منذ التوقيع على معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، ويتم تنظيم مناورات النجم الساطع بين الدولتين، ناهيك عن حصول الولايات المتحدة على مزايا عسكرية ولوجستية، مثل استخدام الأجواء المصرية، وتسهيلات عبور قناة السويس. ويمثل التعاون المخابراتي المحور الثاني؛ حيث تسارعت وتيرته عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، في صورة تبادل للمعلومات الاستخبارية بين الأجهزة المختصة في الدولتين، فيما ارتبط المحور الثالث بفكرة الأمن الإقليمي ومدى قدرة النظام المصري على تشكيل محور الاعتدال بالمنطقة الذي يتماهى في كثير من أهدافه مع أهداف واشنطن.
الموقف الأمريكي من ثورة يناير
شكَّلت ثورة 25 يناير 2011 لحظة صادمة لصانع القرار الأمريكي؛ إذ إن الإدارة الأمريكية لم تكن تعتقد أن نظام مبارك قابل للسقوط؛ فمع بدايات الثورة، صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلارى كلينتون بأن 'تقديراتنا تؤكد أن الحكومة المصرية مستقرة، وأنها تبحث عن طرق للتجاوب مع الاحتياجات المشروعة للشعب المصري ومصالحه'.
وفي هذا السياق، يذكر المنشاوي أن 'الإدارة الأمريكية اتبعت مبدأ الانتظار والترقب' في التعامل مع الثورة المصرية. وحتى حينما وجدت الأمور تتحرك بشكل دراماتيكي، حرصت واشنطن على عدم إسقاط النظام بصورة كلية، ومن ثم شجعت صيغة انتقال منظم للسلطة لا ينتج عنه تغير جوهري في هيكل النظام الحاكم، كضمانة لعدم حدوث تغير في السياسات المصرية إزاء الملفات الهامة لواشنطن، مثل العلاقات مع إسرائيل، والتعاون الأمني والاستخباري، والموقف من حركتي حماس وحزب الله، والعلاقات مع إيران.
وعامةً، شهدت الإدارة الأمريكية انقسامًا واضحًا في تعاطيها مع أحداث ثورة يناير؛ فداخل الإدارة فريق هو الأصغر سنًّا وتكوَّن بصورة رئيسية من نائب مستشار الأمن القومي دينيس ماكدو، والسفيرة الحالية لبلادها في الأمم المتحدة سامنتا باور، وبن رودس الذي يعمل مستشارًا للشئون الدولية في مجلس الأمن القومي. وكان هذا الفريق يرى أن ما يحدث ثورة حقيقية، ويتعين على الإدارة الأمريكية أن تدعمها وتساند مطالبها. أما الفريق الآخر ـ وهو الأكبر سنًّا والأكثر محافظةً في تفكيره ـ فتكوَّن بصورة رئيسية من وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون، ووزير الدفاع حينها روبرت جيتس، ونائب الرئيس جوزيف بايدن. ورأى هذا الفريق ضرورة الانتظار وعدم التسرع في اتخاذ مواقف مما يحدث في مصر، وعدم التخلي عن الحليف مبارك.
وبمرور الوقت، اتضح أن واشنطن ليست هي العامل المرجِّح للمعادلة السياسية في مصر؛ فقد أرغمت التظاهرات الرئيس الأسبق مبارك على التنحي ليتولى بعده المجلس العسكري مقاليد السلطة، وتدخل الدولة مرحلة انتقالية اتسمت بضبابية في العلاقات المصرية ـ الأمريكية؛ فبقدر ما كانت هناك مؤشرات على التقارب بين الطرفين، كانت هناك أيضًا مؤشرات على التوتر.
فكلا الطرفين (الإدارة الأمريكية والمجلس العسكري) كان لديه القناعة بأن وجود نظام حكم ديمقراطي منتخب يمكن أن يؤثر سلبًا فيهما؛ فواشنطن ترى أن وجود نظام حكم ديمقراطي منتخب في مصر يمكن أن يُحدث قطيعة لخصوصية العلاقات مع القاهرة. أما المجلس العسكري فكان يعتقد أن قواعد الديمقراطية يمكن أن تفرض على المؤسسة العسكرية قيودًا، وتقلص الامتيازات الممنوحة لها، خاصةً أن الفترة التالية للثورة شهدت تناميًا في الأصوات المطالبة بالكشف عن ميزانية المؤسسة العسكرية، وإخضاعها للرقابة والمناقشة من قبل المدنيين.
بيد أن هذه الرؤية المتقاربة لم تَحُلْ دون توتر العلاقة بين المجلس العسكري والإدارة الأمريكية. وقد تلخص هذا الأمر في مشهدين رئيسيين: المشهد الأول في سبتمبر 2011، إثر اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وهو ما دفع الإدارة الأمريكية إلى مطالبة السلطة الحاكمة في مصر بالالتزام بتعهداتها بحماية السفارة الإسرائيلية. وبدا الخطاب الأمريكي فيما بعد مفعمًا بمفردات الانتقاد لتصرفات المجلس العسكري، لا سيما مع الأحداث التي مرت بها الدولة في محمد محمود وماسبيرو وغيرهما من أحداث العنف.
ويتصل المشهد الآخر ـ حسب الكتاب ـ بأزمة منظمات المجتمع المدني الأمريكي في مصر، التي وقعت إثر مداهمة قوات الأمن المصرية مكاتب 17 منظمة حقوقية، منها أربع منظمات أمريكية، وتوجيه اتهامات إلى تلك المنظمات بأنها تعمل بالمخالفة للقوانين المصرية، فعمَّقت تلك الأزمة الخلافات بين واشنطن والقاهرة، خصوصًا مع تعاظم استخدام ورقة المساعدات الأمريكية ورقةً للضغط على السلطة الحاكمة في مصر، والمطالب داخل الكونجرس بفرض مشروطية على تقديم المساعدات العسكرية إلى مصر.
الموقف الأمريكي من حكم جماعة الإخوان
عبر عقود، تشكَّلت رؤية لدى واشنطن تجاه جماعة الإخوان المسلمين بأنها تنظيم لا يمكن له التعايش مع الأفكار الغربية، ناهيك عن المصالح الأمريكية، كما أن التحالف مع نظام مبارك مثَّل حائلاً أمام تطوير العلاقة بين واشنطن وجماعة الإخوان؛ فقد اعتاد نظام مبارك كثيرًا الترويج لفزاعة الإخوان، وتحذير الولايات المتحدة من جماعة الإخوان المسلمين، كبديل متطرف للنظام.. وهكذا كان الاتصال بين الإدارة الأمريكية وجماعة الإخوان من الموضوعات الشائكة.
وعقب ثورة ينار 2011، اكتشفت واشنطن واقعًا سياسيًّا مغايرًا في مصر؛ فقد خرج التيار الإسلامي -وفي الأساس جماعة الإخوان- من الثورة تيارًا رئيسيًّا في المعادلة السياسية، وبات على واشنطن التواصل مع جماعة الإخوان. ومثلما كان الموقف من الثورة مرتبكًا، كانت سمة الموقف الأمريكي من جماعة الإخوان كذلك؛ ففيما رحبت بعض الأطراف الأمريكية بمشاركة جماعة الإخوان في الحياة السياسية المصرية، كانت هناك أصوات أخرى (تركزت داخل الكونجرس) رافضة من الأساس فكرة مشاركة جماعة الإخوان في السلطة.
ويذكر المنشاوي أن جماعة الإخوان أدركت مدى أهمية العلاقات مع الولايات المتحدة، وهو ما دفعها كثيرًا إلى تقديم نفسها على أنها البديل الإسلامي المعتدل. وحاولت الجماعة أن تروج لنفسها داخل العاصمة الأمريكية، بزيارات بدأت بزيارة وفد حزب الحرية والعدالة في إبريل 2012. وبين هذا الارتباك الأمريكي ورغبة جماعة الإخوان، انطوت العلاقة بين الطرفين على دلالات هامة:
1) سعى الإخوان المسلمون إلى تطوير خطاب أكثر برجماتية؛ يستجيب لما تريده الولايات المتحدة من الإسلاميين. وفي هذا الإطار تغير خطاب الجماعة تجاه إسرائيل ومعاهدة السلام كثيرًا من موقف رفض مطلق للمعاهدة أو إقامة علاقات مع تل أبيب، إلى إعلان الجماعة - بعد ثورة يناير - أنها ملتزمة بالمعاهدة، كما أكدت الجماعة تبنيها معايير الديمقراطية، وهو ما اعتُبر حينها محاولة للتقارب مع واشنطن وتجنب عدائها.
2) تخللت العلاقة بين الإدارة الأمريكية والنظام الحاكم في مصر، مؤشرات توتر بدأت بصورة رئيسية مع أحداث اقتحام السفارة الأمريكية بالقاهرة في سبتمبر 2012، على خلفية عرض فيلم مسيء للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعدم قدرة إدارة محمد مرسي على التعامل مع الأزمة بالقدر المناسب، من وجهة النظر الأمريكية، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي إلى القول بأن 'النظام المصري الجديد ليس حليفًا للولايات المتحدة وليس عدوًّا لها في الوقت نفسه'، وأضاف أن بعض مواقف النظام الجديد كانت جيدة، وبعضها لم يكن بالضرورة يتوافق مع مصالح الولايات المتحدة. وتكرر هذا النمط من العلاقة مع أزمة الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس الأسبق محمد مرسي في نوفمبر 2012، وما تبعه من أحداث عنف داخلية.
3) رغم مؤشرات التوتر، فقد تعاطت إدارة أوباما مع جماعة الإخوان بدرجة كبيرة من الواقعية ومحاولة توظيف الجماعة وعلاقاتها لخدمة المصالح الأمريكية في بعض الملفات. وكانت أزمة غزة في نوفمبر 2012 (والتوصل إلى اتفاق تهدئة بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية بواسطة الرئيس المصري آنذاك محمد مرسي) نموذجًا لإمكانية التأسيس على علاقة واقعية بين الإخوان والإدارة الأمريكية تتجاوز الخلافات الأيديولوجية ما دامت تحقق مصالح الطرفين.
4) ظلت إسرائيل رقمًا مهمًّا في معادلة العلاقة الأمريكية المصرية؛ فلم تكن تل أبيب تبدي ارتياحها لوصول رئيس محسوب على جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر، ومن ثم كانت تضغط على واشنطن لتأطير العلاقة مع النظام الحاكم الجديد في القاهرة، وتأكيد التزام جماعة الإخوان بمعاهدة السلام مع إسرائيل. وقد لعب اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة دورًا رئيسيًّا في هذا الصدد.
الولايات المتحدة ومأزق 30 يونيو
كان هناك تيار داخل الولايات المتحدة بين الباحثين والمتخصصين في شئون المنطقة أن إدارة أوباما أخطأت كثيرًا حينما اعتقدت إمكانية الارتكان إلى تيارات إسلامية بالمنطقة (ومنها جماعة الإخوان المسلمين في مصر) من أجل التأسيس لنظم حكم ديمقراطية مستقرة قادرة على تحسين مستويات المعيشة بدول المنطقة، ومن ثم فهي لم تضع في حسبانها احتمال تعرض هذه التجارب للإخفاق، مثلما حدث في الثلاثين من يونيو 2013، مع خروج حشود شعبية رافضة لحكم جماعة الإخوان، وإعلان المؤسسة العسكرية في 3 يوليو 2013 عن خارطة طريق، لتنهي فعليًّا حكم الجماعة.
ويذهب المنشاوي إلى أن تعاطي إدارة أوباما مع الثلاثين من يونيو اتسم بدرجة كبيرة من ضبابية الرؤية والموقف؛ فقد تكرر سيناريو 25 يناير 2011 مجددًا، وبدا أن لحظة 30 يونيو 2013 هي الأخرى لحظة صادمة للإدارة الأمريكية تتجاوز قدرتها على التوقع. وواجهت واشنطن في مستهل الأحداث إشكاليتين جوهريتين: أولاهما أن النظام الحاكم الجديد (بعد الثالث من يوليو 2013) في مصر كان لديه اعتقاد بأن واشنطن والإعلام الأمريكي أكثر انحيازًا إلى جماعة الاخوان المسلمين. وظهرت تلك القناعة في تصريحات عدد من المسئولين المصريين.
أما الإشكالية الأخرى فتتمثل في الموقف الأمريكي الملتبس مما جرى في 30 يونيو و3 يوليو 2013، وعدم الاستقرار على إعطاء توصيف محدد للمشهد يمكن أن يرضي النظام الحاكم في مصر الذي يرى أن إسقاط جماعة الإخوان المسلمين تم بثورة شعبية لا تختلف عن ثورة 25 يناير 2011. واتضح أن الموقف الأمريكي الرسمي يراوغ في توصيف الأوضاع، لا سيما أن استخدام مصطلح 'انقلاب عسكري' يعني إيقاف كافة المساعدات الأمريكية الموجهة إلى مصر.
ويشير المنشاوي إلى أن قضية المساعدات ظلت حاضرة بصورة كبيرة في فترة ما بعد الثلاثين من يونيو؛ فقد ظهرت أصوات داخل الولايات المتحدة تطالب بوقف المساعدات المقدمة إلى مصر. ويبرز في هذا السياق مجلس الشيوخ الأمريكي؛ حيث طالب أغلب أعضاء المجلس بضرورة وقف المساعدات الأمريكية لمصر؛ لأن ما حدث 'انقلاب عسكري' من وجهة نظرهم. واستمرارًا لهذا المسار، أوقفت إدارة أوباما توريد أربع طائرات إف 16، و12 طائرة أباتشي إلى مصر، فضلاً عن إلغاء مناورات النجم الساطع بين الدولتين، التي كان من المقرر أن تجرى قبل نهاية عام 2013. وفي أكتوبر 2013، أوقفت الإدارة الأمريكية المساعدات العسكرية الموجهة إلى مصر. وقد ارتبطت تلك التطورات بأحداث العنف التي وقعت بالقاهرة، خاصةً أحداث فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.
ورغم ملامح التأزم في العلاقة بين الدولتين، لم تصل تلك العلاقة إلى مرحلة القطيعة، وهو ما يرجعه المنشاوي إلى عوامل من الجائز اختزالها فيما يلي:
أولاً ـ الأطر الفكرية الحاكمة لصانع القرار الأمريكي، التي ترجح المقاربة الواقعية في التعاطي مع العلاقات الخارجية، ومن ثم فإن واشنطن على استعداد لإقامة علاقات مع أي نظام حكم في مصر ما دامت هناك مصالح مشتركة يتم صيانتها. وهذا المدخل يصلح لتفسير تصريحات وزير الخارجية جون كيري في القاهرة خلال شهر نوفمبر الماضي بأن 'واشنطن ملتزمة بدعم خارطة الطريق التي وضعتها الحكومة الانتقالية'.
ثانيًا: استدعاء موقف المملكة السعودية وإسرائيل يضفي تعقيدات على الموقف الأمريكي؛ فكلا الدولتين تدعم الخطوات التي تتبناها السلطة الحاكمة في مصر بعد الثالث من يوليو 2013، كما أن تل أبيب طالبت ـ سواء بشكل مباشر أو حتى عبر اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة ـ الإدارة الأمريكية 'بعدم تقليص المساعدات للجيش المصري، تحسبًا من تأثير ذلك في أمن إسرائيل، وتدهور الوضع الأمني في سيناء'، وهكذا فإن هذه المعطيات تحول دون تدهور العلاقات المصرية الأمريكية تدهورًا كبيرًا.
ثالثًا ـ العلاقات المتميزة التي تجمع بين البنتاجون وقيادات المؤسسة العسكرية في القاهرة، لا سيما أن بعض هذه القيادات تلقت تعليمها في الولايات المتحدة، وفي مقدمتها وزير الدفاع السابق ورئيس الجمهورية الحالي عبد الفتاح السيسي، ووزير الدفاع الحالي الفريق أول صدقي صبحي، ناهيك عن أن فريقًا كبيرًا داخل واشنطن يدرك جيدًا أن استمرار العلاقات مع القاهرة وديمومة المساعدات الأمريكية؛ يحفظان للولايات المتحدة نفوذها في مصر ويصونان مصالحها.
(*) باحث في العلوم السياسية
المركز الإقليمي للدارسات الاستراتيجية

موقع الخدمات البحثية