أوراق إستراتيجية » في مقابل الانقسامات: صراعات ليبيا الدائمة

الصراعات غير المحلولة في الغرب
أدى الشك المتبادل بين قوات درع ليبيا، الجيش، ووحدات الحرس الحدودي المختلفة إلى التنافس، بناء التحالفات مع جماعات مسلحة محلية وسلسلة قيادة موازية في المناطق الحدودية، لكن هذا الأمر نادراً ما أشعل مواجهات مباشرة. فكونهم أقوياء كفاية فقط لإنتاج مؤسسات موازية، فإن خلافاتهم وتنافسهم لم تصل بهم  إلى مستوى يجعل التعاون مستحيلاً بينهم أو يدفع بهم إلى نزاع مسلح واسع النطاق. الواقع كان مختلفاً داخل، وحول، المناطق الغربية والوسطى لبني وليد، ترهونة، وسرت. هناك، دفعت التوترات الموجودة بين ضباط سابقين وضباط في الخدمة إضافة إلى مجتمعات رحبت بهم من جهة، وبين ألوية ثورية من جهة أخرى، إلى حصول تحفظ مسلح خطير كان ينفجر دورياً في صراع مسلح.
لطالما كانت بني وليد بقعة مؤلمة كالدمل بالنسبة للائتلافات الثورية. ففي أيام الصراع الباهتة في آب وأيلول 2011، وما أن تقدم المتمردون باتجاه طرابلس، حتى فرت بقايا قوات القذافي باتجاه ترهونة، بني وليد، ومنطقة الساحل؛ واختار بعض أهالي بني وليد حمايتهم. ومع المال والسلاح  الموجودين مع العناصر الموالية الهاربة، قاتل الشبان المحليون قوات المتمردين القادمين. وأن تسقط بني وليد في يد فصيلها 18 مايو المؤيد للثورة، بدعم من خليط من الألوية الشرقية  والجماعات المسلحة حديثاً والغير منضبطة من البلدات المحررة في الآونة الأخيرة كسوق الجمعة، الزاوية، وغريان، فإن هذا كان مما فاقم  فحسب من مشاعر الاستياء في البلدة إزاء " محرريها"؛  وعندما استسلم الصامدون الموالون للنظام أخيراً قي 17 تشرين أول ( وذلك بعد نفاذ الرصاص منهم فقط ، بحسب ما قيل) أدت أعمال النهب والسرقة الشديدة من قبل هذه القوات الخارجية إلى تعميق مشاعر العداء المتبادل بين المجتمعات فحسب.
كانت بلدة بني وليد لا تزال تأوي عدداً من " الأفراد المطلوبين" في أيلول 2012، بمن فيهم كبار الشخصيات في نظام القذافي. ومن بين هؤلاء كان هناك عدداً من الوجهاء الذين كانوا لا زالوا يحكمون بني وليد ويسيرون شؤونها العامة. ومنذ 23 كانون الثاني 2012، وعندما طردت البلدة ، وبالقوة، المجالس المحلية والعسكرية الموالية للثورة التي كان السكان يمقتونها، ظلت بني وليد مستقلة في معظم جوانبها عن المجلس الوطني الانتقالي، تقف بعيداً عن النظام الجديد. وقد حمتها قوة كبيرة مؤلفة من متطوعين محليين إضافة إلى ضباط سابقين في الجيش بقيادة سالم الوعر – الذي كان ضابطاً في سلاح الجو وشارك في محاولة انقلاب ضد القذافي.
وبأسلوب مماثل، كانت ترهونة، إلى الشمال من بني وليد، موطناً لجماعة مسلحة كبيرة بإمرة ضابط سابق في الجيش كان لديه علاقات متوترة مع السلطات الثورية. فإبان الثورة، كانت ترهونة واحدة من أهم المصادر الهامة من الجنود والمتطوعين بالنسبة للقذافي، رغم أنه لم يكن جميع الترهونيين من الموالين. وقد انشق بوعجيلة حبشي وهو جنرال ترهوني في الجيش وآمر دبابة، في وقت مبكر من عمر الثورة ( آذار). وعندما استسلمت البلدة  في أواخر آب 2011، عمل حبشي كوسيط. وباشر بتشكيل قوة مؤلفة من عدة آلاف من المجندين تدعى " الأوفياء" ( رغم أن أهمية الإسم غير واضحة). واتهمت القوى الثورية اللواء، المسلح جيداً بسبب وجود موقع هام لمخزون سلاح من حقبة القذافي، بحماية المقاتلين الترهونيين الذين قاتلوا لصالح القذافي. كما زعموا بأن حبشي كان يوفر جنوداً ترهونيين لسليم الوعر في بني وليد. وقيل بأنه منع قوات الثوار من دخول بني وليد أكثر من مرة- أمر يمكنه القيام به بما أن الدخول من الشمال يتطلب المرور عبر ترهونة.
لقد أقلق وجود قائد آخر في الجيش وزميل لحبشي قرب مدينة سرت موطن القذافي، ويدعى خليفة حفتار، قوات المتمردين بعمق. فهذا الرجل الذي كان من سكان سرت من قبيلة فرجاني التي وصلت إلى بنغازي في 2011 في نفس الوقت تقريباً الذي وصل فيه حبشي، كان شخصاً غير موثوق من قبلهم بشكل مماثل. فقد عمل حفتار لاحقاً، الذي كان بالأصل عضواً في المجموعة التي خططت لانقلاب القذافي عام 1969، مع الولايات المتحدة  مع "الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا" ضد القذافي ، ومركزها تشاد ( 1987-1990) ومن ثم في الولايات المتحدة.  وأثارت عودته إلى بنغازي في نيسان 2011 احتكاكاً سياسياً هاماً بين المتمردين، ما ولَّد انشقاقاً بينه وبين رئيس هيئة الأركان لقوات التمرد المسلحة آنذاك عبد الفتاح يونس.
اعتبر كثير من المتمردين حفتار بأنه يواصل العمل، كحبشي، على أجندة شخصية وأحياناً ضبابية وغامضة. وقد تلطخت صورته أكثر بسبب جهوده لتجنيد جيش وتدريبه بمساعدة أميركية، إضافة إلى  رهانه الفاشل بالسيطرة على قوات التمرد المسلحة بعد اغتيال يونس في تموز 2011. ومن بنغازي، حاول السفر مع حبشي إلى ترهونة.  وبعد توقيفه من قبل السلطات البنغازية، مضى إلى الجبال الغربية والزاوية. وعقب محاولته في 11 كانون أول السيطرة على مطار طرابلس، انتقل إلى سرت مع حوالي 4000 رجل، ولأسباب غير واضحة مجدداً.
وبحسب قادة الألوية الثورية وشخصيات قيادية في بني وليد، فقد تم التوصل إلى تفاهمات بين حبشي في ترهونة، الوعر في بني وليد، وحفتار في سرت خلال الفترة الانتقالية ما بين 2011- 2012. وبحسب ما قيل فقد كان هدفهم العمل مع بعضهم وحماية بعضهم ومجتمعاتهم. وبصرف النظر عما إذا كان ها الأمر دقيقا ً أم لا، فليس هناك من شك كبير بأن عدداً من وجهاء بني وليد  تحدثوا وكأنما كانوا في توازن حرب, فدخول الثوار بالقوة إلى البلدة في أيلول وتشرين أول 2011 جعل عدداً من أهاليها يتطرفون، كما أن أعمال الأقلية الموالية للثورة التي حكمتها من تشرين أول وحتى كانون الثاني جعلتهم يتطرفون أكثر أيضاً. ومن البداية وحتى النهاية تعزت بني وليد بإرثها الطويل بمقاومة القوى الأجنبية.
 تعزت البلدة أيضاً بأعدادها. فقد اعتبر قادتها أنفسهم حاكمين ليس فقط لحوالي 70000 من سكانها وإنما بأنهم يحكمون قلوب وعقول ما يقدر بمليون شخص من أفراد قبيلة الورفلة الموجودين عبر البلد الذين تعتبرهم بني وليد، بحسب ما يقال، أصلها الجغرافي. وهذا المستوى بالتفكير، يعتبر خاطئاً. فكونها قبيلة كثيرة العدد جداً، فقد حارب أفراد قبيلة الورفلة إلى جانب الفريقين إبان صراع 2011؛  وكان محمود جبريل، رئيس حكومة المجلس الوطني الانتقالي، من قبيلة الورفلة، وكذلك كان عدد من مستشاريه. مع ذلك، فقد تعاطف عدد كبير من الورفليين مع مصير بني وليد؛ حتى أن مستشار رئيس الوزراء الكيب الذي ينتمي إلى العشيرة توسل كلمة القذافي المهينة لوصف المتمردين فقال: " بدأت أفكر بالثوار على أنهم " جرذان" بعد محاولتهم أخذ بني وليد بالقوة في أيلول."
نتيجة لذلك، استطاعت بني وليد الوصول إلى تعاطف جيرانها المحليين الذين شعروا بالتهديد بشكل مساو، بينما دعمت تحالفاتها العسكرية مع عناصر حاليين وسابقين في الجيش. وفي تشرين الثاني 2011، شكل قادة البلدة وأفراد بارزين في قبيلة الورفلة " مجلس الورفلة الاجتماعي" لتنسيق النشاطات مع وجهاء القبيلة عبر البلد. كما بنى المجلس علاقات مع مختلف البلدات الغربية القلقة من بروز نظام جديد ومن الصراعات المجتمعية 2011-2012؛ وشملت هذه البلدات ترهونة وسرت ولكنها ضمت أيضاً عدداً من البلدات والمجتمعات المذكورة آنفاً التي إما وقفت على الحياد وإما دعمت القذافي: أبرزها مجتمعات ماشاشية، ورشفنه، وعجلات وبلدات الطوارق، ريغدالين والجميل إضافة إلى البلدات الوسطى والجنوبية كسبها. وقد جمع اجتماع كبير للمجلس بنهاية أيار 2012 23 ممثلاً من مجتمعات أخرى أيضاً. وبشكل منفصل، قام أهالي بني وليد بتخزين السلاح، الأمر الذي أكمل دورته وصولاً إلى المناطق المجاورة.
 وفي صورة تعكسها المرآة، كانت الألوية الثورية تقوم باستعداداتها الخاصة لتحديد ورسم خطوط نشاطات هذه المجتمعات. ففي منتصف أيار، قال أحد قادة قوات درع ليبيا ،" إن قوات درع ليبيا تضع خطة لضمان أمن النقاط الساخنة التي لم تكن واضحة بشكل صحيح في المرة الأولى، بما فيها بني وليد، ترهونة، والمنطقة المحيطة بسرت".  وأضاف قائد على معرفة بنوايا اللجنة العليا لقوات درع ليبيا قائلاً:" إن الخطة هي قيام قوات درع ليبيا نيابة عن كل الأفرقاء بفرك أنف بني وليد".
وفي الوقت الذي تزداد فيه تسلحاً  بشكل أفضل، أصبحت المجمعات من بني وليد والمجتمعات المتحالفة أكثر ثقة واستعداداً لمواجهة قوات درع ليبيا والبلدات المجاورة الموالية للثوار مثل الزنتان، مصراته، والزاوية. وهذا بدوره فاقم من التوترات المجتمعية القديمة ومن التنافس الطويل، خاصة بين مصراته وبني وليد. وعندما قامت وحدة مصراتية لقوات درع ليبيا في أيار بمهمة رصد واستطلاع في واجدادا، وهي منطقة متاخمة لترهونة، تحرك رجال حبشي ومجموعات مسلحة أخرى رداً على ذلك. كذلك الأمر، دفعت عملية الخطف في 7 تموز لصحافيين مصراتيين كجزء من محاولة لإجبار مصراتة على إطلاق سراح معتقلين من بني وليد التعبئة في صفوف القوات المصراتية، وبعضهم ممن هدد بالهجوم على البلدة. كما أن ديناميكية مشابهة رفعت منسوب التوتر في الجبال الغربية، حيث شعرت المجتمعات المتحالفة مع بني وليد بالجرأة الكافية لتحدي الألوية الزنتانية.
تحولت الحرب الباردة إلى ساخنة بشكل متميز في قضية ترهونة، عندما خُطف حبشي في 4 حزيران. ولا تزال التفاصيل غير واضحة، رغم أن كثيرين يعتقدون بأنه قتل. فقد تم توقيف سيارته، وهي جزء من موكب كبير، من قبل رجال مسلحين مجهولي الهوية في مكان ما على طريق المطار أو بالقرب منه. وردا ًعلى ذلك، احتل 200 شخص من لواء الأوفياء التابع لحبشي ، والمسلحين بمدافع مضادة للطائرات من عيار 14.5 ملم، مدرج المطار. وقد أخذت الحادثة مداها بسبب شكوك الألوية الثورية القديمة بأن حبشي، إلى جانب حفتار، كان يتآمران على تدبير انقلاب – أمر أدى اختفائه إلى تفادي حصوله، بحسب ما قالت الحكومة، السلطات المحلية والألوية الثورية.  وتميز الصراع، خلال أشهر،  بذروة  التوتر العسكري والسياسي بين الألوية الثورية وعناصر في الجيش سابقاً في وسط ليبيا.
وقد أوضح سلوك قادة الائتلاف الثوري خلال هذا الفصل أمراً واحداً: رغم أنهم أصبحوا، نظرياً، تحت سلطة رئيس هيئة الأركان، فإنهم كانوا يتصرفون، في الواقع، بمبادرة خاصة من قبلهم ما أن يشعروا بضرورة الدفاع عن مصالحهم. وقد وصف قائد ألوية طرابلس كيفية تجاهل قواته لمفاوضات برئاسة المجلس الوطني الانتقالي وأوامر منقوش قائلاً:
   عندما سمعنا بأنه تم الاستيلاء على المطار، حوالي الساعة الثانية بعد الظهر، توجهنا رأساً إلى المطار بينما كنا نسأل منقوش عن الأوامر. وأخبرنا منقوش بأنه ينبغي لنا أن نعاود الاتصال به. واتصلت بوزير الداخلية، الذي أخبرنا بأن المفاوضات جارية وبأنهم لا يريدون استخدام القوة. وطلب الوزير منا ألا نذهب إلى المطار وإنما أن نضمن أمن مكتب رئيس الوزراء بدلاً من ذلك. لقد اعتقدنا بأن ذلك سخافة. فإظهار القوة في المطار كان أمراً ضرورياً. بعد كل شيء،كان الترهونيون قد حطوا على أرض المطار قذائف الآر بي جي  ودبابة على المدرج وكانوا يرفعون أعلاماً خضراء على آلياتهم.
كما كشفت أحداث 4 حزيران عن عمق شعور عدم الثقة الموجود بين ضباط الجيش السابقين والعاملين في الخدمة كحبشي وحفتار، من جهة، وبين القوى الثورية من جهة أخرى، إضافة إلى درجة من فقدان الثقة أصبح فيها العناصر من الفريقين ينظرون إلى بعضهم البعض على أنهم يهددون أمن الدولة والثورة. ونفذت مجموعات مسلحة أخرى هجمات مباشرة على ضباط سابقين في الجيش. وأصيب سليم الوعر، الذي قاد القوة لحماية بنغازي، بطلق ناري في بطنه على يد مسلح مجهول في نيسان 2012؛ ومحاولة ظاهرة للاعتداء على حياة حفتار حصلت في 29 تموز في بنغازي؛ وقتل ضابط استخبارات الجيش في حقبة القذافي في 28 تموز. وفي أوائل آب، ضرب انفجار مركز استخبارات الجيش، وفي 10 آب، قتل جنرال آخر في الجيش هو محمد هدية الفيطوري، الذي كان مسؤولاً عن تخزين الأسلحة في بنغازي.  
 
صياغة السلم 
حتى عندما تسعى الجماعات المسلحة المنقسمة إلى تكبيل الصراعات المجتمعية، فإن مسؤولية التفاوض على هدنة، رعاية اتفاقيات سلمية ومعالجة الشكاوى الناجمة تقع، وبشكل تام، على الوجهاء المحليين.كان الحال كذلك في الأعمال العدائية الممتدة عبر البلاد، بما فيها غدامس، سبها، زوارة، كفرا، وبني وليد. إذ أن هجوماً ما كالقتل أو الإمساك بأفراد معينين يترتب عليه رد فعل فوري تقريباً من قبل وجهاء محليين من مناطق مجاورة. وتتواصل هذه السلطات المجتمعية  بدورها مع بعضها لترسيخ صدقية وصحة التشكيل، وإذا دعت الضرورة، تحديد الوسطاء المناسبين.
إذا ما تصاعدت الحوادث ووصلت إلى صراع مسلح، ترسل البلدات المتاخمة وجهاءها للمشاركة في المجالس بهدف إنهاء القتال. وفي حال الصراعات الكبرى، يلتقي الوجهاء عبر البلاد، وينشئوا "لجان الحكماء". وبتجمعهم في أماكن محايدة مناسبة، يتجه هؤلاء لمقاربة الأفرقاء المتحاربين بشكل منفصل؛ وبعد ذلك فقط يتم عقد اجتماع مع ممثلين من الجانبين، الذين يتفوق عليهم بالعدد، وبشكل كبير، أولئك الذين من مدن أخرى إضافة إلى أعضاء جماعات مسلحة محلية كبرى تتمتع بدعم مجتمعي.
حققت هذه المبادرات نتائج لافتة. ففي سبها، على سبيل المثال، عبرت الوفود الخطوط الأمامية بظل وجود هدنة هشة للدخول إلى أحياء التيبو التي تم قصفها بشدة. وقال رئيس مجلس سبها المحلي في ملاحظة له بأن" الوجهاء المحليين قاموا بالكثير لفرض الهدنة". وفي حين تحافظ ائتلافات الألوية على الفصل بين الأفرقاء المتحاربين فعلياً، فإن المفاوضات بقيادة وجهاء تخلق المجال المطلوب لمعالجة الشكاوى المكبوتة والاعتراف، أحياناً بالظلم الماضي أو تقديم اعتذارات حتى. ويلتمس الوسطاء الأكثر نفوذاً المثاليات العليا للهوية الليبية والإسلام، ليثيروا بذلك سيلاً من العواطف والدموع. فباستخدامهم مجموعة من العبارات والتقاليد الاجتماعية المتجذرة في الثقافة المحلية ولجوئهم إلى العرف، يمكن للوجهاء المحليين في ظروف عدة محاسبة الأفرقاء، على الأقل في المدى القصير، وإجبارهم، بوسائل الضغط الاجتماعي، على الإذعان والموافقة على هدنة.
مع ذلك، غالباً ما تثبت السلطة المعنوية والأخلاقية واللجوء إلى العواطف بأنها غير كافية لاستمرار الهدنة – في الوقت الذي تكون فيه فاعلة في وضع حد للأعمال العدائية. فالاجتماعات قد تنتهي بإشارة إيجابية لكن، ووسط سيل العواطف، تبقى المطالب المقدمة من أحد الفريقين أو كلاهما غير خاضعة للمعالجة. فمن دون رئيس أو منظم مميَّز للاجتماعات، تنحرف المحادثات من الكباش وكلام عن معلومات إلى عناق دامع من دون وجود آليات صلبة بينهما. وقد أشار أحد المشاركين في عدد من المفاوضات قائلاً:"  الكل يتكلم في وقت واحد.هم لا يصغون. وإذا ما أصغوا، فإنهم لا يستوعبون. ويصبحون عاطفيين بحيث أن المرء لا يمكن أن يتناقش معهم جدياً بشأن تسوية حقيقية". فالشكاوى المحددة المتعلقة بالأراضي، التعويض والمحاسبة على الأخطاء والمساوئ الماضية والقرار بشأن الأمور التي تتطلب، على الأرجح، الدعم التقني من السلطات المركزية، تظل حية. إذ تصاغ اتفاقيات الهدنة وسط سخونة اللحظة وبالتالي يمكن أن تنهار بسرعة مماثلة. ففي كل من سبها وزوارة، توافق الممثلون عن أولاد سليمان وزوارة على الهدنة خلال المفاوضات لكنهم انتهكوها ما أن خرجوا من غرفة الاجتماع.
عندما يتفق الأفرقاء على خطط تنفيذية، فإنها غالباً ما تكون تفتقر إلى الوضوح، تحديداً بما يتعلق بالتعويض على الخسائر المختلفة والمحاسبة على الأعمال التي تمت. وكما وضع أحد المراقبين الأمر،" تضمنت بعض الاتفاقيات مستوى من الغموض والالتباس جعلت التنفيذ مستحيلاً". فالغموض سر النجاح لكنه أيضاً سر التراجع اللاحق عن الاتفاقيات؛ فبعض المتطلبات يتم تحديدها بشكل متواضع للتمكين من إبرام الاتفاق، مع ذلك فإن هذا  يسمح بتفسيرات متباينة عنيفة  لما التزم به الأفرقاء. أكثر منذ ذلك، يتابع قلة من الوجهاء المحادثات بشكل ثابت؛ الأسوأ من ذلك، هو أن بعض المفاوضات تواجه تناوباً ثابتاً للوجهاء الزائرين، ما يقوِّض قدرتهم أكثر على مراقبة التنفيذ بفعالية.
إن الحضور الشارد غير المنظم أو المتحول للوجهاء؛ غياب الوضوح، الاتفاقيات المكتوبة؛ والعجز والقصور على مستوى الحكومة المركزية يعني بأنه ما أن يتم التوافق على الهدنة، فإنه لن يكون هناك الكثير من المتابعة. فرغم موافقة المجلس الوطني الانتقالي على لجان الحكماء، فإنه لم يكن يشرف ويراقب أو يتابع أعمالها. ودعا المجلس الوطني الانتقالي إلى عقد لجان متابعة، لكن هذه اللجان عادة ما تتبدد ما أن يصمت صوت المدافع. فممثلو المجلس الوطني الانتقالي سيعمدون حينها إلى ملازمة الأحداث عبر العلاقات الشخصية مع الوجهاء. وقد أسف نائب رئيس الوزراء لحال الحكومة لجهة افتقارها للوقت والموارد سعياً وراء ما هو أكثر من الهدنة. " حتى نكون نزيهين، إن المعلومات حول المطالب ( التي قدمتها المجتمعات) لم يعاد نقلها حتى. فالناس المنخرطين في المفاوضات سعداء فحسب بتوصلهم إلى هدنة". عملياً، وبشكل عام، يشكو الأفرقاء المتحاربين من افتقار الحكومة للقدرة على التنفيذ والحوار حول مسائل تطرحا اللجان. أما الوجهاء، الذين تعوزهم آليات الفرض والتطبيق، فيحيلون المطالب والاحتجاجات إلى السلطات الوطنية التي لم يكن لديهم تنسيق معها.
نتيجة لذلك، تنهار اتفاقيات التسوية؛ فالقضايا التي تدفع إلى الصراع متجذرة وتتعلق بمزاعم حول الأراضي، الملكية والسلطة التي كانت موجودة قبل حكم القذافي لكنها تفاقمت بسبب محسوبية وزبائنية نظامه وشبكات الرعاية لديه، ومن ثم بسبب مواقف المجتمعات المختلفة إبان الثورة، وأخيراً بسبب أعمال الثأر والانتقام بعد الثورة. فمن دون اتفاقيات مكتوبة بوضوح، وتنفيذ مستدام  وثابت ومن دون حكومة مركزية قوية كفاية لدعم هذه الاتفاقيات، وكما وضع الأمر أحد المراقبين، فإن لجان التسوية والمصالحة "ترفع التوقعات بعدم الانجاز بكل بساطة". فالصراعات تظل مجمدة، في أحسن الأحوال، وتبقى الفصائل المتناحرة على مسافة من خلال خليط من الجماعات الأهلية المسلحة وقوات الجيش.

تطبيق السلم: دور الحكومة المركزية 
إن عجز الحكومة والمجلس الانتقالي الوطني عن مراقبة تنفيذ اتفاقيات الهدنة المحلية متجذر في ثلاث سمات رئيسة: الافتقار للهرمية ضمن المجلس الوطني الانتقالي والميل المترتب عليه بمناقشة المسائل إلى ما لا نهاية؛ إرث حكومة مفرطة المركزية متكلة بشكل زائد على توجيهات صادرة من مكتب رئيس الوزراء؛ وأخيراً، واقع كون المجلس الوطني الانتقالي والحكومة التي عينها على طرفي نقيض مع دوائرهما البيروقراطية، خاصة في وزارتيْ الدفاع والداخلية. وهذه، بدورها، قوضت قدرة الكيانات المسؤولة بشكل رئيس عن الأمن على تنسيق سياساتها معاً - خاصة مكتب رئيس الوزراء ووزارتيْ الدفاع والداخلية. نتيجة لذلك، وحتى عندما وافق المجلس الوطني الانتقالي على مجموعة واسعة من الأهداف الأمنية الوطني ، فإنه لم يقم بالكثير لتنفيذها.
وكما شهدنا، عكس غياب التنسيق مشكلة سياسية أوسع. فالمتنافسون طاردوا وزراء الحكومة، الهيئات التنفيذية ( كلجنة شؤون المحاربين) ورئيس هيئة الأركان، وذلك من بين آخرين أيضاً في عملهم. وقال عضو في المجلس الوطني الانتقالي، " ليس هناك من تنسيق كاف بين وزارات الدولة الرئيسة". وأضاف يقول بأن المجلس الوطني الانتقالي نفسه لا يمكنه الإشراف بفعالية وبأن الوزراء أنفسهم مشغولين بشكل زائد بخطط استراتيجية كبرى:
كان القصد أن يقوم الوزراء بتسليم تقاريرهم أسبوعياً أو كل أسبوعين. أما عملياً، فإنهم لم يظهروا اهتماماً كبيراً بذلك. فرئيس الوزراء، عندما وقف أمام المجلس الوطني ، كان ينبغي أن يقرأ بيانات مكتوبة محضرة سلفاً. وكان الوزراء سيتحدثون بمصطلحات نظرية كبيرة حول مثاليات وخطط على الأمد الطويل. لكن لم يكن هناك أبداً أي وضوح حول ما هو ضروري القيام به اليوم أو غداً.
 أما الأمر الأكثر دلالة فهو أن لا المجلس الوطني الانتقالي ولا الحكومة وضعا آلية لإدارة الأزمات لضمان رد سريع على الأوضاع الطارئة. بدلاً من ذلك، تصرفت بيروقراطية سيئة التدريب وغير مهيأة للتعامل مع تغيير سريع وفارغة من موظفيها بسبب فقدانها لصناع القرار القلة بأسلوب العمل المعتاد. وكان لإرث الماضي وزنه هو أيضاً. فبظل حكم القذافي، نادراً ما نسَّق الوزراء والوزارات عملهم معاً، وكانوا، بدلاً من ذلك، يؤجلون عملهم بانتظار التعليمات من رئيس الوزراء، الذي كان يتلقاها من مكتب القذافي. مع ذلك، فقد انتهى الأمر بمصطفى عبد الجليل وعبد الرحيم الكيب، الواعيان لمسألة ضرورة الحفاظ على  الإجماع الوطني العام والاستقرار، بتأجيل القرارات الصعبة. وقال أحد مستشاري رئيس الوزراء ، واصفاً مكتباً مثقلاً بالأوراق، " كل القرارات ذهبت إلى مكتب الكيب لتموت هناك". نتيجة لذلك، فإن دائرة بيروقراطية اعتادت على إطاعة التوجيهات الصادرة عن مكتب رئيس الوزراء قد وجدت نفسها بلا دفة، عاجزة عن العمل بفعالية وبحسم أو بأسلوب موحد إزاء الصراعات الناشئة أو الجارية. وقال أحد أعضاء المجلس الوطني الانتقالي:
لقد ورثنا أجهزة حكومية مستمرة بالعمل وكأن ليس هناك من أزمة. لكن هناك أزمة. ونحن كمجلس وطني انتقالي علينا التأكيد على أننا بحاجة إلى حكومة أزمة تسمح للوزراء باتخاذ قرارات واثقة وذات صلاحيات.
باختصار، العمل يجري بشكل طبيعي في زمن الشذوذ الكبير.
لقد دفعت المجالس المحلية الثمن بسبب عجز الحكومة بالتجاوب مع الأزمة- تحديداً تلك التي من مجتمعات متورطة في الصراع. لقد وجدت هذه المجالس نفسها مجبرة على لعب سلسلة كاملة من الأدوار، بما فيها تلك التي للشرطة، توفير الخدمات الطارئة، والعمل كمدراء ووسطاء. ومما لا يثير الدهشة، أنها كانت غارقة في نقص الموارد ورغم شكوكها بالأجهزة البيروقراطية الموروثة عن القذافي، فإنها تتحمس أحياناً لدعم من الدولة المركزية. وقال أحد رؤساء المجالس المحلية،  "أعمل من 12 إلى 16 ساعة يومياً. كنت متعباً لدرجة أني حاولت الاستقالة. لقد تم قبولنا لملأ الوظائف الحكومية، وحتى للاعتناء بحنفيات أحدهم إذا لم تكن تعمل". وأضاف آخر،" نحن نتحمل المسؤولية عن كل شيء. عندما تدور الإشاعات من حولنا، يطالبنا الناس بالعمل، وعلينا أن نؤكد أو ننفي الأمر. الأمر مرهق – لدينا ما يشبه مركز الإطفاء لإطفاء الحرائق في كل مكان".
إن إحدى المشاكل الأكثر إلحاحاً التي تواجه اللجان المحلية هي أن الشرطة بالكاد تؤدي وظيفتها. فالشرطة لم تشارك في اتفاقيات الهدنة أو في جهود حل النزاعات ولم تكن في موقع معالجة مطالب المجتمع المتعلقة بالعدالة والتعويض. هي لا تستطيع، من تلقاء نفسها، مواجهة الجماعات المسلحة  أو الألوية الثورية التي غالباً ما منعتها من التحقيق بقضايا، في الوقت الذي كانت ترفض فيه تحويل المحتجزين إلى السلطات الحكومية أو إلى المدعين العامين المحليين خوفاً من إطلاق سراحهم.
هذا يعني بأن الوجهاء كانوا منهكين، يحملون عبء حل النزاعات، سواء كانت تافهة أم كبيرة؛ إذ لم يكونوا قادرين على منع أعمال الثأر والانتقام. إن عجز الدولة عن جلب المرتكبين وسوقهم إلى العدالة جعل شعور الضغينة يبقى حياً في النفوس؛ فالشبان المحليون يبقون محتفظين بالذكريات طازجة بواسطة التحميل المتكرر لتسجيلات الفيديو، لقطات الهواتف الخليوية والصور التي تصور العنف على اليوتيوب والفايسبوك. إن النزاعات الثانوية يمكن أن تخرج عن السيطرة بدون أي جهد؛ إذ أثار النزاع التافه نسبياً بين سوق الجمعة وبني وليد الذي حدث في 24 تشرين الثاني 2011، والذي تسبب بمقتل 4 أشخاص، عداءً مجتمعياً لا يزال بالإمكان استشعاره حتى اليوم. فما أن قامت ألوية سوق الجمعة بمهاجمة واعتقال أو احتجاز أشخاص من بني وليد بتهمة الشك باصطفافهم وانحيازهم للنظام السابق، حتى اشتعل غضب أهالي بني وليد. " لسوق الجمعة يوم حساب سيأتيها"، قال أحد الشبان، واضعاً قائمة ببلدات مجاورة أيضاً قام شبابها بقتل أفراد من بني وليد ونهب منازلهم.
مع مواجهتهم خطر الصراعات المجتمعية الدائمة والمتنامية أبداً، لا يمكن للوجهاء القيام بما هو أكثر من السعي لإقناع الجماعات المسلحة الغاضبة بعدم أخذ زمام الأمور بأيديهم. هذا الأمر لم يكن سهلاً. وكما قال رئيس المجلس المحلي لسوق الجمعة منتقداً بأسف،" سوق الجمعة عبارة عن 300 ألف شخص؛ فحتى لو كان هناك 1000 منا من الحمقى يقومون بأمور معينة، فإن علينا معالجة العواقب وتحملها". وأضاف قائلاً:
يمكنني فقط تقديم الضمانات لبني وليد بأن سوق الجمعة كبلدة لن تصعِّد النزاع إلى مستوى مجتمعي. لكن المواجهات الفردية خارج سيطرتي. إذا ما استفحل الصراع، عندها يصبح خطر حصول عمليات ثأر وانتقام أكبر تماماً. حتى أني قد تحدثت قبل يومين إلى أحد وجهاء بني وليد الذي اعترف بأن لديهم قضايا  مشابهة تتعلق بالسيطرة. فالناس الذين يريد أهالي القتلى رؤيتهم يتم التحقيق معهم ينبغي تسليمهم للنظام القضائي. 
أنجزت المجالس المحلية، الوحيدة والمثقلة بالأعباء، عمل تحقيقي وادعائي مبدئي لكنها اعترفت بافتقارها للأسس القانونية الضرورية. ففي بضع مجالات، أرفقت المجالس المحلية الألوية بمدعين عامين مؤهلين قانونياً للإشراف على نشاطات الأخيرة، لكن هذا الأمر كان استنسابياً إلى حد كبير،  واختارت بعض المجالس بدلاً من ذلك الاعتماد على أفراد مدربين في الأمن الداخلي في مقابل القضايا القانونية.
انضمت المؤسسة الدينية في البلد إلى الجدل الدائر. ففي أوائل نيسان 2012، ظهر المفتي الأعلى  الشيخ صادق الغرياني على شاشة التلفزيون ليحذر الحكومة من أن الصراعات المجتمعية ستكبر ككرة الثلج في غياب نظام قضائي فاعل:
لقد حذرت الحكومة من مخاطر القضايا التي تتراكم. يجب تأسيس محكمة قضائية مؤقتة. ففي قضية الطوارغة، على سبيل المثال، لو أننا تمكنا فقط من التعامل مع جرائم قلة من الناس، فإن ذلك كان سيؤدي عندها إلى شعور المصراتيين بشكل أفضل على الأقل؛  سينظر إلى الأمر على أن العدالة أخذت مجراها، ستهدأ المشاعر والعواطف ويمكن عندها البدء بالحديث عن تسوية ومصالحة بالنسبة لكل أهالي الطوارغة الآخرين.
لم يفعل المجلس الوطني الانتقالي الشيء الكثير حيال دعم الشرطة أو الوجهاء. ففي شباط 2012، صادق على " قانون المصالحة الوطنية والقضاء الانتقالي" الهادف إلى " تعزيز وتمتين السلم الاجتماعي" والمصمَّم " لطمأنة وإقناع الناس بأن القضاء موجود وفاعل". كما فوَّض المجلس إنشاء " لجنة مصالحة وتقصي الحقائق" المؤلفة من سبع أشخاص والتي تقدم تقاريرها مباشرة للمجلس الوطني الانتقالي. لكنها كانت خطوات مؤقتة وأولية. فلا هي وضعت بتصورها، ولا حتى حاولت، تشكيل  لجنة مصالحة وحقيقية على مستوى الوطن. فاللجنة، التي أخذت فترة شهرين لتؤدي القسم الدستوري، لا تزال غير فاعلة وغير ناشطة بالكامل. وفي أيار، أمر المجلس الوطني الانتقالي بأن يعرض أفراد اللجنة المعينين على الشاشات، خاصة المحتجزين في المرافق التي تسيطر عليها الحكومة، لكن لم يتم البدء بعد بأية مراجعة قضائية أو إجراء لعرضهم.  وخوفاً من استعداء المجتمعات والجماعات المسلحة ـ تحديداً في بيئة تشعر فيها السلطة القضائية والشرطة بأنها تحت التهديد والخطر- قام المجلس الوطني الانتقالي بتأجيل كل الإجراءات المتعلقة بالقضاء والتسوية لحكومة ما بعد الانتخابات.

الاستنتاج  
عملت " لجان الحكماء" والألوية الثورية يداً بيد لفرض اتفاقيات الهدنة وحاولت تثبيتها. إذ وفر الوجهاء السلطة الاجتماعية والشرعية الذين من دونهم لم تكن القوات المسلحة المركزية ولا قوات درع ليبيا التي لا زالت غير مدربة وغير منسقة لتضع حداً للأعمال العدائية. كذلك الأمر، ومن دون قوات درع ليبيا ـ الواقعة ظاهرياً تحت سلطة رئيس هيئة أركان القوات المسلحة، والتي تفرض بسرعة اتفاقيات الهدنة التي يتم التوصل إليها ـ فإن المجتمعات سوف تستأنف القتال بكل تأكيد تقريباً. مع ذلك، فقد كانت اتفاقيات الهدنة هشة في أفضل الأحوال، غالباً ما تنهار بسبب الافتقار إلى تنفيذ اتفاقيات السلام.
يعكس الدور الذي  لعبته هاتان الجهتان الفاعلتان عجز وقصور الدولة المركزية وحالة عدم الثقة بصميم النظام السياسي. فمن دون التجهيزات المناسبة والطاقة البشرية، كان على الجيش (وتتبعه السلطات المركزية) التواصل مع قوات درع ليبيا ـ قوة مسلحة موازية متجاوبة جزئياً فقط مع توجيهات الحكومة. في نفس الوقت، فإن حالة فقدان الثقة الموجودة بين الجيش والألوية الثورية شجعت الجانبين على التحول، بشكل منفصل، إلى مجموعات مسلحة محلية بدلاً من العمل سوياً، ما عكَّر الصورة أكثر. والضحية الواضحة هنا كانت حيادية الجيش وقوات درع ليبيا المتصورة. أما أما بصورة أعم، فقد أدى فقدان الثقة والافتقار للتواصل بين الجيش، قوات درع ليبيا ومختلف الجماعات المسلحة ـ والذي ازداد سوءاً بسبب خلافاتهم السياسية الهامة ـ إلى تقويض قدرتهم على تنفيذ وفرض اتفاقيات الهدنة المحلية. والأمر الأسوأ هنا هو أن في الأجزاء الوسطى والغربية من البلد كان فقدان الثقة يستدعي من الوحدات الدخول في الصراع مع بعضها البعض إضافة إلى الصراع مع جماعات مسلحة أخرى.
هناك مشاكل أيضاً في الجانب المدني . فالوجهاء المحليون يحضرون معهم إلى الطاولة سلطة اجتماعية هامة، وغالباً ما تكون معنوية وحاسمة، وبالتالي يضغطون على الأفرقاء المتحاربين للتوصل إلى اتفاق. فهم، في جانب من الأمر، محترمون بسبب استخدامهم الماهر للغة، المراجع الدينية، وفهمهم للتقاليد والأعراف المحلية المطلوبة على امتداد حياتهم. إلا أن طبيعة التفاهمات تعكس الطريقة التي تنجز بها: مستوى عال من العموميات، من دون تفاصيل سليمة أو آليات تنفيذ، ومن دون متابعات. هنا، يكون لغياب سلطة مركزية فاعلة وزنه الثقيل.
تتطلب الكثير من الاتفاقيات عملاً أكبر لا يمكن إلا للحكومة توليها. ففي بعض الحالات، يتوسط الوجهاء في اتفاقيات ويقومون بالتزامات لصالح الحكومة من دون التنسيق معها ومن دون معرفة ما إذا كان بالإمكان تنفيذ دقائق الاتفاق أم لا. بالواقع، إن ممثلي المجلس الوطني الانتقالي حتى المنخرطين في محاولات وساطة معروفين بتوفير ضمانات أو بتقديم وعود أثبتوا عجزهم عن الوفاء بها. وحيث أن مطالبهم تقابل بالصمت، العجز أو الإرباك من جانب الدوائر البيروقراطية، فإن الأفرقاء في الصراع عرضة للإحباط، خيبة الأمل والغضب، وهذا طبيعي.
إن الإدارة الصحيحة لعدد النزاعات المحلية الضخم سيتطلب إصلاحاً هاماً وبارزاً للجوانب المدنية والعسكرية لحل الصراع، خاصة بما يتعلق بوجود تنسيق أفضل بين لجان الحكماء والحكومة؛ تنسيق أفضل بين قوات درع ليبيا، الجيش، والجماعات التي تشكل حرس الحدود، كما هي موجودة؛ إضافة إلى إصلاح جريء من القاعدة حتى قمة الهرم في الجيش وأجهزة الشرطة. أما المجلس الوطني العام ولجنة وضع مسودة الدستور المستقبلي  فيركزان على تأسيس الأسس التشريعية لدولة جديدة.

• في الجانب العسكري، ينبغي أن يكون الهدف الأول رسم حدود مسؤوليات رئيس هيئة القوات المسلحة، وزير الدفاع، وقوات أمن الحدود بوضوح، وذلك لحل مسألة سلسلة القيادة المتنافسة والمتداخلة حالياً. إن الإصلاح العسكري الهام أمر إلزامي وحتمي لتجاوز عدم ثقة الألوية الثورية بالجيش. ينبغي للحكومة الاعتراف بأن هيكلية الجيش المثقلة بكبار الضباط عائق شديد وينبغي تقديم الحوافز لهم كي يتقاعدوا، وبالتالي تحضر الحكومة دماً جديداً وتخفف من الشكوك الموجودة تجاه قوة لا يزال يعتبرها كثيرون من بقايا النظام القديم.

• ينبغي للحكومة أن تكثف جهودها لتأكيد سيطرتها بشكل أفضل على قوات درع ليبيا. فالجنود والمقاتلون الغير مدربين يظهرون ولاء لقيادتهم وحدها، وقوات درع ليبيا تماثل قوة احتياط متجاوبة جزئياً فقط مع سلطة مركزية وطنية. وكخطوة انتقالية، ينبغي لوزارة الدفاع أن تنشئ فيالق جديدة تلعب الدور الذي تتحمله حالياً قوات درع ليبيا ـ قوة رد فعل سريع منتشرة في زمن الأزمات الوطنية أو عند اندلاع قتال بين المجتمعات ـ يكون موظفوها من الضباط الحائزين على مهارات كافية، ولديهم رؤية وحياد سياسي، سواء أتوا من الجيش أم من إحدى الألوية الثورية. ويظهر اختيار يوسف المنقوش بأن من الممكن تحديد ضباط مقبولين من كليهما. ينبغي بذل جهد محدد لضم ضباط من إثنيات ومجتمعات كانت أقل تمثيلاً سابقاً، خاصة التيبو.

• ينبغي أن يُقدَّم للأعداد الواعدة من جماعات مسلحة أخرى تسجلت لدى وزارة الدفاع برامج تدريب ودمجها في الفيالق والفرق الجديدة. يجب أن يكون الهدف تعزيز هويات جديدة للوحدات والروح التضامن الوطني بدلاً من عقلية الأكثر محلية والمائلة للألوية والمتجلية لدى معظم الجماعات المسلحة، وفي نهاية المطاف، وعندما تنتهي صلاحية عقودها مع وزارة الدفاع في العام 2013، تستبدل قوات درع ليبيا، بالكامل، بكيانها الأكثر قوة وانضباطاً وقبولاً على الصعيد السياسي. أما في الوقت الحالي، فإن رفع مستوى التعاون بين الجيش وقوات درع ليبيا سيكون أمرا ًحاسماً؛ واستخدام ضباط الارتباط على الأرض، تحديداً في مناطق الصراع، هو إحدى الطرق لتحقيق هذا الأمر.

• إن الإصلاح البعيد الأثر للشرطة واللجنة الأمنية العليا هو أولوية أخرى. فليبيا بحاجة إلى عنصر يشبه الدرك لتنفيذ واجبات على الخطوط الأمامية لا تستطيع قوات شرطة نظامية تنفيذها. أما أحد الدروس التي يتم تعلمها من القصور الموجود لدى اللجنة الأمنية العليا فهو أن تجنيد الألوية بالجملة والاعتماد على قادة الوحدات للتصرف وفق المصالح الفضلى للوطن أمر لا يمكن أن ينجح؛ بدلاً من ذلك، ينبغي مزج وخلط الأفراد من مختلف الألوية. وللنجاح بهذا، سيكون على وزارة الداخلية أن تتخطى الميول الحالية للشباب قليلي الخبرة. وكما هو الحال مع فيالق الجيش الجديدة، ينبغي اختيار ضباط الدرك من بين أمهر وأكفأ الأعضاء في اللجنة الأمنية العليا، وزارة الداخلية، الشرطة والجماعات المسلحة وأقلهم إثارة للجدل والمسجلين لدى وزارة الداخلية ومن ثم وضعهم في للدخول في مناهج تدريب إرشادية ودقيقة بشكل مناسب وصحيح.

• هناك خطوة هامة أخرى ستكون كي تؤسس الحكومة " وحدة لإدارة الأزمات" تكون مسؤولة أمام رئيس الوزراء والتي تضم ممثلين عن الجيش، الشرطة، وزيريْ الدفاع والداخلية إضافة إلى ممثلين عن قوات درع ليبيا، اللجنة الأمنية العليا، وحرس الحدود  (طالما أن هذه  الأخيرة لا تزال تعمل). وينبغي لجماعات مسلحة أخرى أن تشارك أيضاً، رسمياً أو بشكل غير رسمي، بحسب ما هو مناسب.

• سيكون على كل من فيالق وفرق الجيش الجديدة والدرك إتمام العملية الانتقالية من كيانات تعمل وحداتها التأسيسية في بلد منشأها إلى قوة مختلطة وطنية بالكامل. هذا الأمر سوف يأخذ وقتاً. ففي البداية، وهو المرجح، ينبغي أن يكون الاختلاط محدوداً بمناطق وبمجالات ليس لها تاريخ في الصراع المجتمعي. ينبغي للجهود أن تركز على الترويج لقادة من مجتمعات الأقليات أو المضطهدة، مع انتشار يأتي لاحقاً لألوية وطنية مختلطة بشكل حقيقي.

• للمجتمع الدولي دور هام يلعبه في دعم هذه التغييرات. فقد وفرت الأمم المتحدة الاستشارة التقنية والتنيسق للشرطة والجيش؛ كما ساعد على إنتاج ورقة دفاع بيضاء مع رئيس الأركان وست بلدان من اختياره. ومع افتراض موافقة الحكومة الليبية، فإن بإمكان الأمم المتحدة تمديد عملها لتنفيذ مراجعة تقنية كاملة لنشاطات الجيش، قوات درع ليبيا وحرس الحدود  في مناطق عسكرية، بما في ذلك وضع وأصل إمداداتهم من الأسلحة ومصادر التجنيد علاقاتهم مع جماعات مسلحة ومجتمعات محلية. كذلك الأمر، بإمكان الأمم المتحدة المساعدة في مراقبة تنفيذ اتفاقيات الهدنة وتحديد العوائق السياسية واللوجستية التي يواجهونها. وأصدر الإتحاد الأوروبي، بعد طلب من السلطات الليبية، تقريراً مفصلاً  (مذكور آنفاً) يحدد العوائق القانونية، التقنية والعملية التي تواجهها الحكومة في ضمان أمن حدودها ووقف التهريب غير الشرعي. وبإمكانه الاستمرار بالمساعدة على وضع استراتيجية إدارة أوسع، ودعم وحدة إدارة الأزمات، بفرض تأسيسها.

• أما على الجانب المدني، فق أثبت الوجهاء فعاليتهم في إنهاء الأعمال العدائية؛ وتكمن نقطة الضعف في تسوياتهم السلمية والروابط الرخوة بين الوجهاء والحكومة المركزية. إن التعامل مع هذه المشكلة يمكن أن يساعد على ضمان تنفيذ الالتزامات المعقودة خلال محادثات الهدنة ومعالجة الشكاوي المتأصلة في عدد من النزاعات بشكل صحيح ـ ما يتعلق بوضع الجنسية، ملكية الأراضي، والمصالح التجارية في السوق السوداء. من حيث المبدأ، هيئات التنسيق موجودة أساساً: واحدة تحت سلطة رئيس الوزراء، الأخرى، وهي هيئة المصالحة الوطنية، تأسست في حزيران 2012 من قبل المجلس الوطني الانتقالي. وهذا يعني بأن أيا منهما لم تستطع، حقاً، ردم الهوة الموجودة بين الاتفاقيات على الورق التي تم التوصل على يد الوجهاء المحليين وبين الافتقار للتنفيذ من قبل السلطات المركزية؛ بل استدعى ذلك تقييمات الوجهاء المحليين المفرطين بالثقة بالنفس بالنجاح كذريعة للتراخي.

• أن تكون الاتفاقيات مكتوبة أمر يعتبر حاسماً. فالنتيجة الطبيعية لاتفاق محلي هي أنه ينبغي  أن يكون مفصلاً وواقعياً بشكل كاف، عاكساً للالتزامات التي يمكن للحكومة أن تضعها قيد الممارسة عملياً بدلاً من وعود لزجة، غامضة وغالباً غير قابلة للتنفيذ، كما هو حاصل في الوقت الحاضر، والتي تولد التباساً، وسوء فهم وسخط. ورغم أن على الوجهاء الاستمرار بقيادة المفاوضات، فإنه ينبغي أن تضم اللجان الكبيرة التي يعقدونها ـ التي يشارك بها مراقبون من قوات درع ليبيا والجيش دورياً ـ مراقبين من الحكومة مرفقين بقوات الشرطة  ومكتب رئيس الوزراء أيضاً بشكل عام أيضاً. ينبغي للمراقبين أن يدرسوا البروتوكولات والأعراف والتقاليد التي يستخدمها الوجهاء ويكونوا مدركين وواعين لها؛ أما على النحو الأمثل، فينبغي أن يكون دورهم الرئيس التصرف كمستشارين للوجهاء، مع وجود خط مباشر مع مكتب رئيس الوزراء، لضمان أن تكون اتفاقيات السلام قابلة للتنفيذ ومنفذة.

لقد أثبت الليبيون، من نواح عديدة، بأنهم أكثر دهاء وحذاقة في التعامل مع الصراعات المجتمعية مما كان متوقعا ً ربما. أما ما يصدر ويصل إلى الناس في الخارج كفوضى وشلل فيمكن أن يخفي تحته قناع الحذر، البراغماتية والوعي التي يقوم عليها الرأي العام الشعبي إضافة إلى حساسيات الجماعات المختلفة. إلا أن السلطات ما بعد حكم القذافي بدأت حكمها بقبضة شديدة، ولم تصبح الأمور أفضل بشكل ملحوظ. فالإرباك في الساحة الأمنية الواسعة، وعدم الفعالية الحكومية، المقاومة الراسخة من قبل جماعات مسلحة لأية سلطة مركزية، العنف المستمر، كلها أمور تنبأ بمستقبل صعب محفوف بالمخاطر. وكما تعرض الأحداث الأخيرة ـ بدءاً من تدمير المقامات الصوفية المقدسة وصولاً إلى محاولات الاغتيال المتكررة لقادة عسكريين ـ يعطي توازن القوى بين السلطات المركزية الجدية والجماعات المسلحة، التي ليست أبداً لصالح الأولى، بعض الإشارات التي تميل للأخيرة. في هذه الأثناء، يبدو المجلس الوطني العام بأنه أكثر تركيزاً على الاقتتال الداخلي حول قضايا إجرائية منه على تغيير اتجاه القضايا الأمنية.
من المرجح أن تفشل التحركات المتهورة ضد الجماعات المسلحة ويأتي بنتائج عكسية. لكن الوقت ينفد، فالحكومة تعاني من الجمود والتعطيل، والحاجة إلى إصلاحات عبر الحدود للجيش والشرطة أمر ملح اليوم أكثر من أي وقت مضى. وأي شيء أقل من ذلك سيطيل أمد ما هو موجود أساساً: نزاعات محلية تحدث في مشهد مسلح ومنقسم بشدة، مع خطر التصعيد الموجود والحاضر أبدا.
طرابلس/بروكسل، 14 أيلول

الجزء الأول: http://www.rsgleb.org/modules.php?name=News&file=article&sid=357

موقع الخدمات البحثية