أوراق إستراتيجية » أتوفوبيا (رهاب العزلة) الجيوسياسية الإسرائيلية في أوائل القرن الصيني

نيف هوريش(*)
The Chinese Journal of International Politics
11 آب ، 2011

أثارت الاضطرابات الشعبية الأخيرة عبر العالم العربي جدلاً جديداً حول مجال ومدى التدخل المتعدد الأطراف في الأزمات الإنسانية الطارئة في القرن 21 وحدود تعزيز الدمقرطة في العالم النامي؛ كما أثارت مسألة إعادة تقييم قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على نظامها بالتحالفات الإقليمية القديمة في وجه الركود الاقتصادي في الداخل، ووسط التخلي الظاهري للرئيس أوباما عن الوضع الإستباقي الحماسي لسلفه.
ترافقت محاولات أوباما لنزع فتيل معاداة الأمركة العميقة في العالم العربي مع تطمينات بأن الولايات المتحدة ستسرِّع انسحابها من العراق وأفغانستان. وأثارت السياسة الخارجية لأوباما، المقترنة مع مقاربة لبرنامج إيران النووي أقل ميلاً للحرب مبدئياً من تلك المفترضة لجورج دبليو بوش، والتي اتبعت بعدها برد فعل حذر مبدئياً إزاء الثورتين التونسية والمصرية، تكهنات بشأن التحجيم والخفض المحتمل للانغماس الأميركي في الشرق الأوسط لصالح التركيز على قضايا محلية وعلى إدارة أفضل لصعود الصين في منطقة آسيا- المحيط الهادئ.
يراقب الحلفاء المعارضون تاريخياً للعزلة الإقليمية من مختلف الأنواع بدءاً من إسرائيل، وصولاً حتى السعودية وأستراليا، وعن كثب، ردود فعل إدارة أوباما إزاء التظاهرات التي تضرب العالم العربي ( وإيران . غالباً ما يتساءل المحللون في هذه البلدان عن أهمية اللهجة اللا حربية المعبر عنها من قبل أوباما بالنسبة لمصالحهم الأمنية الوطنية الخاصة. هناك قلة موجودون على هامش المؤسسات الأمنية لبلدانهم مدفوعون للتأمل والتكهن بصورة واضحة بأن الولايات المتحدة قد تفك الارتباط عن ساحتهم للتركيز على قضايا محلية، أو على أجزاء أخرى من العالم.
ستقوم هذه المقالة، المؤطرة ضمن هذا المشهد الجيوسياسي المتغير، بدرس النبض الحالي الذي يشكل العلاقة السنية- الإسرائيلية في مقابل خلفية الاضطرابات الأهلية العظيمة التي تكتسح العالم العربي. ستبدأ المقالة بتحديد الروايات السياسية التاريخية التي تم تناقلها منذ حقبة الحرب الباردة طالما لا يزال لديها تأثير على عقليات سياسية في القدس وبيكين. أما النقاش الرئيس أمامنا في الفقرات التالية فهو أنه في الوقت الذي قد تساعد فيه ربما عوامل تاريخية على تفسير عناصر الاستمرارية التكتيكية في الخطاب الصيني في مقابل الشرق الأوسط عبر فترات مختلفة، أعيد تكوين المقاربات الصينية لإسرائيل منذ أوائل التسعينات بسبب عوامل جديدة، تحديداً: النهاية المفاجئة لمبيعات الأسلحة الإسرائيلية والاعتماد المتنامي للصين على الطاقة في القرن 21. بالواقع، لقد استلزم التقارب الصيني مع الولايات المتحدة في أوائل السبعينات أكثر من عقدين من الزمن ليُترجم إلى تحولات سياسية كبرى في الشرق الأوسط. أخيراً، ستحاول المقالة وضع تصور لخيارات إسرائيل الاستراتيجية للعقد المقبل بما يتعلق بالصين الصاعدة عالمياً، مع تركيز محدد على الكيفية التي يُنظر بها إلى صعود الصين من خلال العين الإسرائيلية، والطرق والوسائل التي قد ترغب الصين من خلالها بموضعة نفسها في مقابل إيران من جهة، والسعودية من جهة أخرى.

توازن القوى
إن التكهنات الجيوسياسية عمل محفوف بالمخاطر بالطبع، تحديداً عند تطبيقها على المستقبل – قد يضيف المرء توقعات باستخفاف. إن أي شخص يفكر بجدية بأن احتمال فك ارتباط أميركي جزئي عن الشرق الأوسط وآسيا- المحيط الهادئ في المستقبل القريب سيتبعه نشر كبير لقوة صارمة صينية ينبغي أن يستذكر بالتأكيد طرحاً للبروفسور "كينيث والتز" يقول فيه بأن من المرجح بدء اليابان وألمانيا بمنافسة الولايات المتحدة استراتيجياً ما أن لا يعود الإتحاد السوفياتي يشكل تهديداً للاستقرار في أوروبا وشرق آسيا. في هذه الحال، وبعيداً عن تحدي الولايات المتحدة، أثبت اليابان، وعلى نحو متزايد، اتكاله على الولايات المتحدة لاحتواء الصين ودعم شبه الجزيرة الكورية.
ما أن اعتبر اليابان بأنه على وشك العودة للبروز كمهيمن إقليمي، وهذا طبيعي، حتى هبطت الثقة اليابانية بشدة في أوائل التسعينات في أعقاب انهيار الأسهم والبورصات والقفزة الشديدة في الدين العام، ولم تتعافَ اليابان منها بالكامل. وفي مقابل هذه الخلفية، فإن السؤال الذي قد يطرحه كثيرون هو ما إذا كانت قدرة الصين على القذف بنفسها في السباق كمنافس جدي في مجال التفوق العالمي – عسكرياً، اقتصادياً أو ثقافياً- أمراً مبالغاً فيه ربما. ويبدو بأن المشككين قد ربحوا النقاش بشكل حاسم قبل عقد من الزمن. انتبه، على سبيل المثال، إلى ملاحظات البروفسور لوسيان باي اللاذعة في العام 1998 عن انسداد الذاكرة المزمن لبلدان شرق آسيا، وقلق الهوية المترتب عن ذلك الكاتم لصوت أية مزاعم شرق آسيوية بالقيادة العالمية. وفي ذروة الأزمة المالية الآسيوية، وبالكاد بعد عقد من الزمن من سقوط جدار برلين، لم يعتبر" باي" الصين واليابان بلدين قادرين على النهوض والتعالي عن ضيق آفاق تفكيرهما وعلى الاستيعاب الذاتي الثقافي لإيجاد لغة عالمية مناسبة يتم من خلالها وضع تصور لنظام عالمي شرق آسيوي بديل. لم يكن "باي" واثقاً حتى من أن الصين تصلح وتتناسب في النظام العالمي للدولة القومية المهيمنة، برغم كونها بلداً واعداً اقتصادياً.
على امتداد العقد التالي، تقدم مشروع بناء الأمة الصينية بقوة ساحقة، ويبدو الأمر أكثر من مناسب الآن لإعادة تقييم العقليات الاستراتيجية السابقة. بالواقع، كانت شخصيات بارزة، حتى وقت قريب، تروج للفكرة القائلة بأن جزءاً كبير من ازدهار الصين كان عبارة عن تمويه زائد وبأن انهيار الصين كان وشيكاً وأن جوهر معجزتها الاقتصادية مستند إلى مصارفها التي تديرها الدولة والتي تحول رأس المال لإحياء الشركات العملاقة المحتضرة التابعة للدولة وبأن الصين لم تتبن "السوق الحرة" و" تحرير" اقتصادها بالسرعة الكافية. هذه الخصائص قد تكون نشأت من توقعات تتركز على بكين بدلاً من أن تكون نابعة من مسح مستنير للعقود الثلاثة الأخيرة بخصوص توجهات إصلاحية اقتصادية معقدة ومتناقضة في مجموعها غالب الأحيان. وفي الوقت الذي تتحول فيه، تشكل الأزمة الاقتصادية العالقة في الولايات المتحدة تذكيراً دائماً بان المصارف الغربية الرئيسة على ما يبدو لم تخصص رأسمال بطريقة عقلانية أكبر بكثير من تلك التي لنظيراتها التي تديرها الدولة في جمهورية الصين الشعبية.
على عكس "باي"، عرض "وارن كوهين" في الآونة الآخرة إلى أن السؤال لا يتعلق بما إذا كانت الصين ستتعامل في النهاية مع الولايات المتحدة وإنما بالسرعة التي قد يحدث فيها هذا الأمر على وجه الدقة. مع ذلك، لم يكن لدى كوهين شك كبير بأن الصين ستتصرف في نهاية المطاف على المسرح العالمي بعدوانية، تماماً كعدوانية القوى الأوروبية في القرن التاسع عشر، التي تعتبر بأنها أذلت " المملكة الوسطى". لذا فهو لا يؤمن كثيراً بالخطاب المنبثق عن بكين منذ الثمانينات، المؤكد على أن نية جمهورية الصين الشعبية بـ" صعود سلمي"، وإشاراتها الملطفة بشكل لا بأس به من حقبة ماو " للإمبريالية الغربية"، التعديلية السوفياتية"، و "حرب الطبقات العالمية".
مع ذلك، يشهد المطلعون في بيكين على وجود انقسام حقيقي داخل المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني بين طرفين، أحدهما راغب بالتشبث، تكتيكياً، بإرث دينغ كسياوبنغ الراحل بالاحتفاظ بصورة لا تلفت الأنظار على المسرح العالمي، والطرف الآخر من الطيف الذي يتوق إلى تكتيكات انتقامية على طريقة "ماو". وقد يؤدي هذا الجدل إلى إمالة المفاهيم حول صعود الصين على امتداد قسم كبير من العالم لأن جهود التحديث، الجارية حالياً، لجيش التحرير الشعبي الصيني كانت تتقدم وتجري على قدم وساق. في كل الأحوال، يبدو حتى الآن بأن إدارة أوباما تتحرك ببطء بعيداً عن أية إشارة احتواء تحسباً لعسكرة الصين أو لتصاعد شوفيني منظم حكومياً لاشتباك أكثر امتداداً وشمولاً. هذا يعبر عن شيء ما، بالتأكيد، بخصوص المعلومات الاستخبارية التي تمتلكها واشنطن بما يتعلق بطبيعة بناء جمهورية الصين الشعبية، قاعدة الدعم الشعبية للحزب الشيوعي الصيني أو يعبر، بالواقع، عن خيارات الولايات المتحدة المحدودة في مواجهة أي منها.
نقترح هنا اتخاذ خطوة مفاهيمية عكس اتجاه الجدل البارز في الولايات المتحدة حول آثار صعود الصين للفت الانتباه إلى ما قد يكون تطورات جديدة هامة في التصورات عن الصين من خلال نظرة حلفاء أميركا. فما مدى الجدية التي يأخذ بها حلفاء كهؤلاء التحول في الصين، وما هي فرص الاصطفافات والتهديدات التي قد تشكلها؟ هل يحدد حلفاء كهؤلاء نموذجاً لتطور قوي جديد أو يحددون أية تعليمات سياسية جديدة يتيحها مشروع بناء الدولة – الأمة الصينية؟ أم أن القضية هي أن النقاش حول صعود الصين كان، في ذلك الحين، لا يزال مقيدا باعتبارات " الحرب والسلم" المبتذلة أو كليشيهات سوق التصدير الواسع؟
لتجنب التعميمات الكاسحة، وفي ضوء النطاق العالمي الواسع وقسوة إطار العمل المفاهيمي هذا، نقدم هنا دراسة الحالة الإسرائيلية. سوف نركز مؤقتاً على القوة " القاسية" و" الناعمة" للصين من خلال العين الإسرائيلية، إضافة إلى التركيز على الأبعاد الخفية وعلى تطور النقاش في إسرائيل حول مسألة صعود الصين.

صعود الصين في النظرة العامة الإسرائيلية
منطق آرينز

قبل الإطاحة بحسني مبارك، كان أي جدل عام حول آثار صعود الصين على تحالف إسرائيل القديم مع الولايات المتحدة يجري الثرثرة به في الكواليس. يمكن القول بأن الشخصية الإسرائيلية العامة البارزة والوحيدة الداعية بشكل باتر وحاد لعلاقات أوثق مع بكين بغض النظر عن الأمنيات والرغبات الأميركية هو البروفسور موشيه آرينز ، وهو وزير دفاع سابق، وسيط سلطة أساسي لمرة واحدة في حزب الليكود ومستشار سابق لرئيس الوزراء الحالي بنيامين نتانياهو.
ربما كان آرينز المؤيد الأكثر انسجاماً لجهة صياغة ميثاق صيني- إسرائيلي، المفترض أن يكون بمثابة الحامي ضد تمزق وشيك بين القدس وواشنطن حول مستقبل بناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. لطالما هدف آرينز، الذي يشعر بمرارة عميقة مما اعتبره محاولات من قبل إدارة بوش لزعزعة حكومة شامير الليكودية المتشددة ( 1987-1992) عقب حرب الخليج الأولى، إلى تحرير مناصريه من وهم الفكرة القائلة بأن هناك رابط عاطفي غير قابل لا يمكن التصرف به يحدد العلاقات بين واشنطن والقدس.
بالواقع، لقد تحول شك آرينز بدوافع السياسة الخارجية لواشنطن إلى غضب عندما اتهم البنتاغون إسرائيل لاحقاً بنقل تكنولوجيا درع صواريخ الباتريوت إلى الصين. وكانت بطاريات الباتريوت الأميركية قد نشرت لأول مرة عبر إسرائيل لاعتراض صواريخ السكود التي أطلقها صدام في هجماته خلال حرب الخليج الأولى. ورغم أن البطاريات لم تثبت كفاءتها جداً، فقد طلبها سلاح الجو الإسرائيلي بعد ذلك على أساس أجل طويل. وقد أنكرت كل من بيكين وإسرائيل، بقوة، أية عملية نقل لتكنولوجيا الباتريوت، إلا أن الضغط الأميركي لكبح مبيعات الأسلحة الإسرائيلية للصين ازدادت حدته في السنوات التالية. ففي 2 كانون الثاني 2003، صرح ريتشارد باوتشر الناطق الرسمي بإسم وزارة الخارجية الأميركية بأن الصادرات العسكرية الإسرائيلية للصين هي موضع قلق بالنسب للولايات المتحدة. وفوراً بعد ذلك، أعلنت إسرائيل بأن ستذعن للمطالب الأميركية، وأوقفت كل المفاوضات حول صادرات الأسلحة والتجهيزات الأمنية للصين. وأعلن الناطق باسم وزارة الدفاع الإسرائيلية في 8 كانون الثاني بأن " العلاقات الدفاعية بين إسرائيل والصين تتطلب من وقت لآخر درس قضايا محددة. وخلُصت المراجعة حول الصين وقضايا صلبة أيضاً بخصوص الولايات المتحدة، بوضع الحساسية الأميركية في الاعتبار. وأشار مسؤولون إسرائيليون لاحقاً إلى أن إسرائيل ستستمر ببيع الصين التجهيزات العسكرية المتوفرة في سوق السلاح العالمي. وأصدرت الصين بياناً رسمياً رداً على الإعلان الإسرائيلي تقول فيه بأن " تطوير التعاون التجاري العسكري الطبيعي مع إسرائيل مسألة تخص البلدين".
بالطبع، كان السياق الأوسع لتصريح باوتشر هو إلغاء صفقة طائرة الاستطلاع من نوع Phalcon بين الصين وإسرائيل، الذي وأد في مهده اختراقاً استراتيجياً كبيراً بين البلدين، وأثارت سنوات من تبادل الاتهامات بين مؤسسة الدفاع الإسرائيلية والبنتاغون. ففي عام 2001، وتحت ضغط أميركي مكثف، ألغت إسرائيل في وقت قصير عقدين أساسيين مع جيش التحرير الشعبي الصيني ( PLA) لإمداده بطائرة Phalcon، ولاحقاً، في العام 2004، ألغت إسرائيل طائرات Harpy من دون طيار لجيش التحرير الشعبي الصيني، ما استدعى إجراءات رد انتقامية من قبل بيكين بحيث أنها تواصل حتى اليوم علاقات ثنائية وتقيدها بطرق غير لائقة، بحسب قول البعض.
وصلت صفقات الباتريوت، الفالكون وهاربي ، المثيرة للجدل إلى ذروتها في العام 2005 في استقالة الجنرال عاموس يارون، المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية، مجمداً بذلك حوالي ثلاثين عاماً تقريباً من التعاون الصيني – الإسرائيلي السري تجميداً عميقاً. لا سيما المشتريات الصينية من المعدات والتجهيزات العسكرية الإسرائيلية التي يعود تاريخها إلى العلاقات الديبلوماسية عام 1992 بين البلدين. ومنذ العام 1975، كان مسؤولو جمهورية الصين الشعبية يزورون الجناح الإسرائيلي في "معرض باريس الجوي" . وبشكل مشابه، وفي العام 1979، عبَّر مبعوثون لجيش التحرير الشعبي الصيني، وبسرية، عن اهتمامهم بقدرة إسرائيل على تحديث مواد سوفياتية تم الاستيلاء عليها من جيوش عربية.
أدرك جيش التحرير الشعبي الصيني، المشتت بسبب التجهيزات الكثيرة التي عفا عليها الزمن والتي تعود إلى حقبة التعاون الصيني- السوفياتي، مدى التخلف الذي أصبحت عليه قوته النارية في بداية حرب الحدود مع فييتنام ذلك العام. وبالتالي، وخلال الثمانينات، أنهت إسرائيل تزويدها للأسلحة لكل من الصين وتايوان في نفس الوقت تقريباً. ومن المثير للاهتمام ألا يكون اعتماد تايوان على الولايات المتحدة قد جعلها تلتمس الحصول على أسلحة إسرائيلية في وقت أبكر، لأنها كانت، حتى أوائل التسعينات، تتنافس مع جمهورية الصين الشعبية حول الشرعية في العالم الثالث واستمتعت بدلاً من ذلك بوضع المؤيد للعرب.
لذا، ومن المنظور الإسرائيلي، لم يكن هناك تضاد بين مبيعات الأسلحة لجمهورية الصين الشعبية و جمهورية الصين لأن أيا من السوقين لم يحافظ على وعده بحصول اختراق كبير في العلاقات الخارجية لوقت طويل. وإذا كان هناك من شيء ، وبرغم النطاق الكبير لحاجات جيش التحرير الشعبي، يصدف أن تكون المبيعات لجمهورية الصين الشعبية، بشأن التوازن، أكثر خطراً بسبب الاحتمال الأكبر بأن تنتهي التكنولوجيا الإسرائيلية بإعادة تصديرها إلى بلدان عربية أو إيران.

خيبة أمل اليمين من واشنطن

برغم علمانيته، يذيع آرينز وجهات نظر يقاسمه إياها عدداً من الجناح اليميني المتدين في إسرائيل ممن ليس لديهم سبباً حتى الآن ليزنوا الجدل الدائر حول صعود الصين. تحديداً، بإمكان المرء أن يجد، غالب الأحيان، استياءً عميقاً من الولايات المتحدة في هذه المجموعات بسبب تحركات في السياسة الخارجية مصممة لاسترضاء الرأي العام العربي، مهما كان من أمر هكذا تحركات. ومن الشائع، تاريخياً، أن تسمع قادة مستوطنات الصفة الغربية المتشددين، وكثير منهم هاجر إلى إسرائيل قادماً من الولايات المتحدة، وهم يقذفون مبعوثي السلام الأميركيين في المنطقة بلقب "المبعوثين الإمبرياليين الكبار" الموفدين لخداع يهوذا للتنازل عن الأرض المقدسة. وليس من المستغرب أن يتم إبراز الرئيس أوباما نفسه في هذه الدوائر بمصطلحات Pailinite ، ويتم اغتنام فرصة ركوعه المشهور السيئ الآن أمام الملك فيصل ملك السعودية كبرهان على انحيازه السري والمؤيد للفلسطينيين وتدليله للطغاة العرب.
مع ذلك، إن جدل آرينز مرتكز على " الواقعية السياسية" أكثر مما هو مرتكز على الرمزية العاطفية. فما هو كامن في تفسيره لضرورات السياسة الخارجية الأميركية هو إيمانه بأن أية متابعة لنغمة الإدانة المتعلقة بإمساك إسرائيل بالضفة الغربية لا يمكن إلا وأن تفضح الهاجس المتنامي في واشنطن حول القدرة على الوصول إلى احتياطات النفط العربية. فضلاً عن ذلك، ينظر إلى السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي على أنها نفاق وتزلف للطغاة العرب وبأنها تذرف دموع التماسيح على المأزق الفلسطيني لتطغى على واشنطن.
قد يكون ممكناً عندها فهم اللازمة على أنها لعبة ساخرة محصلتها صفر بين قوى عالمية مهيمنة، وقوى تعاود البروز وقوى متسلقة تدور حول الهيمنة على الشرق الأوسط، والتي ينظر فيها إلى أميركا على أنها مستفيدة من إسرائيل بشكل لا يقل عن استفادة الأخيرة من المساعدات العسكرية والمالية الأميركية، والتي تقدم أوروبا فيها رياء موازياً تعويضياً للقادة العرب الحاليين إضافة للمعارضة المحلية لهؤلاء القادة، ويعود ذلك، جزئياً، إلى قمع الإرث الاستعمار الأوروبي الشائك. وبالعودة أكثر إلى الكواليس، ينظر إلى روسيا على أنها مصممة على احياء مواثيق الحقبة السوفياتية في المنطقة، أما الصين فتقدَّم في غالب الأحيان كمنافس جديد. وتتغاضى أحزاب الوسط واليمين عن البعد المتعلق بحقوق الإنسان بخصوص إمساك إسرائيل بالضفة الغربية بصفته حديث تحريضي مصطنع للنفخ في التنافس الدائر بين القوى الخارجية على إمدادات الطاقة مع إضفاء مظهر الاحترام لرجل الدولة. ومن المفارقات الكافية جداً هو أن وجهة النظر هذه لا تختلف عن الكيفية التي يبرز فيها أقصى اليسار في أوروبا الدوافع التي تقف خلف السياسة الأميركية في المنطقة. بهذه المصطلحات، ينظر إلى التهديدات الوهمية من قبل الولايات المتحدة بالتخلي عن إسرائيل على أنها تهديدات يمكن مكافحتها بفعالية بالتقارب الإسرائيلي الضمني مع روسيا، وبشكل أكثر ذكاء، دفء العلاقة مع الصين.
من المهم الإشارة إلى أن الديمغرافيات المتغيرة لسكان إسرائيل من التيار العلماني السائد، عقب موجات الهجرة الكبيرة من الإتحاد السوفياتي السابق في أوائل التسعينات، قد تكون هي نفسها إجازة وضمانة لعلاقات أفضل مع الفدرالية الروسية في المستقبل بسبب الروابط العائلية، الثقافية وغالباً الدينية التي يحتفظ بها أولئك المهاجرين مع بلدهم الأصلي؛ أما الصين فحالة مختلفة جداً، فهي على مسافة ثقافية أكبر وأقل فهماً بكثير في الخطاب الشعبي الإسرائيلي.

اقتصادات مكملة؟
ربما، وعن رغبة، يتم إبراز الصين مؤخراً في الإعلام الإسرائيلي على أنها راغبة بشكل حاد للوصول إلى الصناعة الإسرائيلية العالية التقنية، تحديداً في التجهيزات في مجال الاتصالات. لكن إلى أي حد هكذا اهتمام يمكن أن يعوض عن تعليق عمليات نقل التكنولوجيا العسكرية أو يوازن إستراتيجياً، انشغال البال بأمن الطاقة وعلاقاتها التاريخية مع بلدان عربية وغير منحازة فأمر نادراً ما يتم التطرق إليه.
من المؤكد أن شركات معدات الاتصالات الإسرائيلية قد احتسبت حصة كبيرة من الصادرات الإسرائيلية للصين عقب تعليق مبيعات الأسلحة المتطورة. مع ذلك، تعاني إسرائيل من عجز تجاري حاد مع الصين، ويشير الدليل الظرفي إلى عدد من الصعوبات في " البدايات" التي اختبرتها إسرائيل في اختراقها السوق الصيني. فضلاً عن ذلك، لا يزال السوق الصيني – برغم نسبة نموه السريعة- في المركز الرابع فقط لأكبر الصادرات الإسرائيلية، ويساوي أقل من واحد على خمسة من قيمة الصادرات الإسرائيلية بالنسبة للولايات المتحدة. هذا يصنع تناقضاً حاداً مع إيران العدو القوس، التي أصبحت روابطها التجارية مع الصين أساسية في حساباتها الوطنية؛ أو حتى مع كوريا الجنوبية، التي، كإسرائيل، حليف ثابت للولايات المتحدة والتي أسست علاقات ديبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية منذ العام 1992، لكنها شهدت منذ ذاك الحين استثمارات ثنائية وتفجراً للدفق التجاري مع الصين.
وبصورة مؤثرة، كانت الصفقة الصينية- الإسرائيلية التي تم توصيفها والترويج لها بصفتها "الأهم" تاريخياً هي مبيعات Machteshim Agan، مصنعة المبيدات الحشرية العامة، لشركة ChemChina، وهي شركة مملوكة من قبل الدولة الصينية. وعلى عكس المعارضة الحادة التي غالبا ما تواجهها الشركات الصينية المملوكة للدولة عند تقديمها مناقصات للحصول على حصة في الطاقة الأجنبية أو شركات المعادن في الغرب، غالباً ما يُرحب بشركة ChemChina في إسرائيل تحديداً لأن من المرجح أن تكون الشركة قد نالت مصادقة المكتب السياسي الصيني، وفسرت كإشارة للثقة الصينية بمستقبل إسرائيل. في كل الأحوال، كانت شركة Macteshism نفسها، تتلكأ بما يتعلق بـ R&D لسنوات عديدة؛ بالتأكيد هي لا تشارك في جو " البداية" للتقنية العالية للاقتصاد المحلي الذي يود السياسيون الإسرائيليون استحضاره للأذهان. فبدلاً من إرسال إشارات عن أفق جديد في تجارة التقنية العالية، قد تعكس الصفقة في نهاية المطاف ثقة القادة الصينيين في استراتيجيتهم " الذهاب إلى الخارج". قد يكون من الخطأ التفكير بصفقة Mchteshism كمبشر لديناميكية جديدة يمكنها التعويض عن تعليق البعد التكنولوجي العسكري للعلاقات الصينية- الإسرائيلية.
لقد كان تحديث جيش التحرير الشعبي، بالطبع، أحد الدوافع الأربع لاندفاعة " دينغ" الإصلاحية، ولا تزال أولوية رئيسة بالنسبة لبيكين. وفي حين يقال بأن بعض مستويات التعاون العسكري قد نجا من أزمة Phalcon ، وفي حين قد يهلل ديبلوماسيون صينيون، بشكل غير رسمي تماماً ،للتفاهمات الإستراتيجية الضمنية التي تمت من ذلك الحين ووقعت بين البلدين،فإن من المشكوك به ما إذا كان هناك في بكين من لا يزال يعتبر إسرائيل منفذاً لازماً لا بد منه لتحديث جيش التحرير الشعبي. وبالتالي فإن ذلك يجعل من الممارسة الافتراضية البحتة موضع تأمل إذا ما ضحت الصين بأية طريقة ذات معنى بوضعها المؤيد للعرب بشكل متميز لأجل فرصة تتعلق بالوصول الأسهل لتكنولوجيا عسكرية أميركية متطورة عبر إسرائيل. وحتى من دون إغلاق الولايات المتحدة الباب بوجه التعاون العسكري الصيني – الإسرائيلي، فإن الموضوع المتعلق بما إذا كانت بيكين ستساوم على مصالحها بخصوص الطاقة المباشرة وسمعتها التي اكتسبتها في العالم العربي وإيران بشق النفس مقابل تعاون كهذا أمر محل تساؤل بشدة.
بحلول عام 1992، خاصة، تحولت جمهورية الصين الشعبية - بعد عقدين من الإصلاح الاقتصادي- من منتج للنفط مكتف ذاتياً ومصدِّر أحياناً إلى مستورد صاف له. هذا التحول كان له آثار بعيدة المدى على رؤية الصين الاستراتيجية للشرق الأوسط، حيت تتركز معظم احتياطات النفط العالمية. ويشكل النفط المحلي واحتياطي الغاز للصين حالياً أقل من 1 % من ذلك الاحتياطي العالمي. ورغم أن إمدادات الفحم المحلي الوافرة هي عماد مصادر الطاقة الصينية، فإن نقص الطاقة في أوائل القرن 21 أجبر الحكومة على القيام بتخفيضات في مصادر الطاقة الصينية، وأثبت هذا التخفيض عن أثره التدميري البالغ في تصنيع صناعات الصادرات الحيوية الصينية. وسرَّعت الصين لاحقاً من وتيرة بناء محطات الطاقة ومن واردتها النفطية من الشرق الأوسط لتكملة محطات الطاقة التي تسير على الفحم، لتصبح بذلك ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم في العام 2004.

الوسطية ـ أميركا وعامل ليبرمان
أن يبدو آرينز بأنه يقدر الصين أكثر من روسيا كحليف محتمل أمر لا ينبغي النظر إليه كثيراً على أنه خيار استراتيجي قابل للحياة بالنسبة لإسرائيل وإنما النظر إليه كخصوصية غريبة خاصة بمساره المهني الخاص. فقبل وقت طويل من صفقة Phalcon المنحوسة، كان آرينز منخرطاً بشكل وثيق بتطوير الجيل الثاني للمقاتلة الإسرائيلية من نوع Lavi– التي توصل البنتاغون الداعم لها في البداية إلى اعتبارها مساً بأسواق الصادرات الأميركية. ففي العام 1987، وبسبب الضغط الأميركي وتكاليف الإنتاج الباهظة التي لم يكن ليتحملها الاقتصاد الإسرائيلي الهش آنذاك، أجهضت الحكومة الإسرائيلي مشروع Lavi ،لكن تسري إشاعات بأن النماذج البدائية للطائرة قد بيعت للصين في عملية انتهاك للقيود الأميركية المفروضة.
أثبت فشل Phalcon عن حدود اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، الذي غالباً ما كان يُبالغ في قوته وبعنف. على سبيل المثال، عرضت أستذة العلوم السياسية نانسي تاكر مسألة محط جدل إلى حد ما وهي أن " لاعبين ضعفاء كإسرائيل وتايوان قد اخترقوا الحكومة الأميركية بواسطة نسختهم الخاصة من " فرق تسد" بينما حشدت في نفس الوقت جماعات المصالح والرأي العام الأميركي لصالحها. في كل الأحوال، وحتى "تاكر" أسرعت في عرضها فتقول بأن" الحلفاء الصغار والضعفاء هم تحت رحمة حماتهم الأقوياء في النهاية"، كما يظهر بوضوح اعتراف أميركا الرسمي عام 1979 بجمهورية الصين الشعبية على أنها "الصين الواحدة". إن ذلك الاعتراف الهام جدا يطرح السؤال عما إذا كان بإمكان إسرائيل – ما عدا خدعة الردع- تجنب اعتراف أميركي بدولة فلسطينية في معظم أنحاء الضفة الغربية في المدى الطويل عن طريق تدفئة العلاقات مع قوى عالمية أخرى.
على المرء التأكيد على أن اليمين- الوسط الإسرائيلي – بالواقع، المؤسسة نفسها كما يجسده رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو المتعلم في معهد ماساشوستش للتكنولوجيا ( MIT) – لا يزالان يعتنقان مفهوم عدم الاستغناء عن أميركا بالنسبة لوجود إسرائيل. هذا الأمر ليس فقط النتيجة المباشرة للمساعدات الخارجية التي لا نظير لها التي كانت تتلقاها إسرائيل من الولايات المتحدة منذ السبعينات، وإنما هو نتيجة عقود من المشاركة الحميمة بين القدس وواشنطن بحيث أن الجانبين متعودان أن ينسبا لنفسيهما " القيم المشتركة". أما الأمر المساوي لذلك من حيث الأهمية في هذا السياق فهو واقع تمضية نتانياهو لقسم كبير من سن البلوغ في الولايات المتحدة، وبأن عدداً من الموجهين الموجودين لديه والمتبرعين لحملته الانتخابية ينتمون إلى الجناح المحافظ ليهود أميركا. وبالتالي، وفيما عدا الطرح مؤخراً بوجوب تعليم لغة الماندرين في الصفوف الابتدائية في المدارس في إسرائيل إلى جانب العربية والإنكليزية فإن نتانياهو غير موجود على السمع بما يتعلق بالآثار الثقيلة لصعود الصين. لذا، وبالنسبة لنتنياهو، فإن الوسائل اللازمة الأكثر وضوحاً للتعويض عن اقتراحات أوباما للعالم الإسلامي لا علاقة لها كثيراً بأوروبا، روسيا، أو الصين. بالأحرى، لقد كان متهماً باللعب بقاعدته الداعمة في الكونغرس وفي الإعلام الأميركي المحافظ ضد البيت الأبيض.
على الرغم من التأثير المحدود حتى اليوم لصعود الصين على النقاش العام الإسرائيلي، يتبنى قلة من اليمين رؤية معارضة تماماً لتلك التي لآرينز. فالطمع بالنفط لا يزال يعتبر الدافع لمصالح القوى العظمى في المنطقة، لكن بالنسبة لهم فإن الوضع غير المستقر في مصر ـ التي كانت ذات مرة حليفاً أميركياً وإسرائيلياً أساسياً والعمود الفقري للنظام الشرق أوسطي ـ يتيح الفرصة لإعادة ترميم العلاقات مع إدارة أوباما. وتعرض مدرسة الفكر هذه إلى أن بالإمكان تلطيف الخلافات الأميركية ـ الإسرائيلية على خلفية الهواجس التي يتقاسمها البلدان بما يتعلق بتصدير المعرفة النووية من كوريا الشمالية إلى الشرق الأوسط. إن الرعاية الصينية المختلفة الألوان لنظام " كيم" هي لعنة بالنسبة للمحافظين الجدد الأميركيين وجماعتهم من الإسرائيليين، وبالتالي لديها إمكانية إحياء اصطفافات " الحرب الباردة". ففي مقابل الدعم الإسرائيلي الغير مشروط، وإذا خرجت الأزمة الكورية عن السيطرة، يتوقع المحللون اليمينيون في إسرائيل من أوباما التنازل عن جهوده لكسب قلوب وعقول المسلمين.
إن مسعىً من هذا النوع، بالتحريض على الصين بصفتها تهديداً، قد يكون " تسويقاً" سهلاً لدى الرأي العام الإسرائيلي السائد، الكاره لنمط التصويت الحالي المتبع من قبل الصين في مجلس الأمن الدولي وبما يتعلق بكوريا الشمالية أو بالمساعدات الصينية المزعومة للبرامج النووية الإيرانية والسورية الخاصة بالبلدين. إن وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، المتشدد والمولود في مولدوفا، والمطروح، على نطاق واسع، كرئيس وزراء مستقبلاً برغم لوائح الاتهام الإجرامية المفرطة بحقه، قد يكون يعزف ببراعة على وتر مشاعر كهذه إذا ما سخنت الساحة الكورية بشكل غير قابل للسيطرة. ويعتبر ليبرمان مقرباً من بوتين وميدفيديف، وقد يقرِّب إسرائيل حتى من فلك موسكو أكثر من أي وقت مضى إذا ما أعيد انتخابه؛ لقد اكتسب سمعة سيئة حول العالم لتصويبه المباشر على الغرب وعلى القليل المتبقي من عملية السلام الإسرائيلية ـ الفلسطينية المتوقفة. مع ذلك، فمن غير المعروف كثيراً في أوساط المراقبين للسياسة الخارجية الإسرائيلية سلوك ليبرمان المتمثل بتصرف " برغم أنف الجميع" بخصوص الصين في مناسبة واحدة على الأقل، في تشرين أول 2009، قد ظل غائباً بشكل واضح عن حفل استقبال نظمته السفارة الصينية في تل أبيب في احتجاج على تصويت الصين في الأمم المتحدة المؤيد لتحقيق غولدستون في انتهاكات حقوق الإنسان خلال المواجهة بين حماس وإسرائيل في وقت سابق من العام.

أهمية التاريخ
لا يمكن فهم صعود الصين في النقاش العام الإسرائيلي بشكل كاف عند وضعه خارج السياق التاريخي للصهيونية وخارج القومية الصينية ومفاهيمهما المتبادلة المتغيرة بشكل تام. لذا، إن الفقرات التالية تهدف إلى الإضاءة بضربات واسعة على روايات ثنائية متناقلة من الماضي والتي لا تزال تشكل إلى حد ما العقليات الموجودة في السياسة الخارجية في القدس وبيكين.
بالنسبة لحلفاء معزولين إقليمياً، كان الاعتماد الأمني ما بعد الحرب على الولايات المتحدة قوياً في الجزء اللاحق من القرن العشرين بحيث أنه لا بد أن هناك الآن عوائق تأسيسية نفسية هامة أمام أي نقاش جدي حول الاستغناء عن واشنطن. في كل الأحوال، وعندما يفصل المرء نفسه عن مثليْ " هوليود" و "هارفرد" اللذان كان لهما تأثيرهما في العقلية الغربية في حقبة ما بعد الحرب، تبدو أصول الباكس ـ أميركانا حديثة بشكل منور ومفيد.
بالتأكيد، يعرض التاريخ في حالة إسرائيل إلى وجوب عدم اعتبار الولاء لواشنطن أمراً مفروغاً منه، برغم التأكيدات التي لا يزال السياسيون من التيار السائد في أي من البلدين يقرعون آذان ناخبيهم بها. ورغم أن الولايات المتحدة دعمت قرار الأمم المتحدة لصالح تقسيم فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل في العام 1948، فإنها كانت مترددة في البداية ببيع السلاح للدولة اليهودية الطرية العود. فقد خاضت إسرائيل حرب استقلالها بذخيرة زودتها بها آنذاك دول غير حليفة مثل تشيكوسلوفاكيا السابقة. وحتى بعدما قرر بن غوريون، أحد الآباء المؤسسين لإسرائيل وأول رئيس حكومة لها، الوقوف إلى جانب الغرب خلال الحرب الكورية، كانت فرنسا هي المزود الرئيس لإسرائيل بأسلحة متطورة حتى العام 1967.وأعادت النزعة التقدمية لجمال عبد الناصر تجاه الإتحاد السوفياتي بعد حرب الأيام الستة رسم المحاور الإقليمية جذرياً: أبعدت فرنسا ما بعد الاستعمار نفسها، أكثر فأكثر، عن إسرائيل لمواصلة العمل على إستراتيجية القوة الثالثة، في حين تحولت الولايات المتحدة إلى مؤيد أكثر صراحة للصهيونية، وذلك يعود، جزئياً، إلى الحراك الاجتماعي ـ الاقتصادي لليهود الأميركيين. إلا أن إسرائيل لا تزال تدين بالفضل لباريس بالمعرفة النووية وعلم الطيران الأصيل، وليس لواشنطن. بالواقع، لقد تصور بن غوريون الصعود الحالي للهند والصين منذ الخمسينات. أما واقع تدهور علاقات إسرائيل مع قسم كبير من دول آسيا بشكل حاد في سنوات التدخل ـ في وجه نبوءات بن غوريون وافتتانه الفكري المعروف جدا بالبوذية – فقد كان له وقع عميق على تصور إسرائيل الذاتي لموقفها الاستراتيجي من القارة الآسيوية.
كان " صن يات- سن"، بصورة خاصة، مناهضاً للاستعمار بقوة لكنه كان معروفاً مع ذلك بأنه متعاطف عموماً مع القضية الصهيونية في أوائل العشرينات. في كل الأحوال، وبعد وقت طويل من وفاته، امتنعت الصين عن التصويت في الأمم المتحدة على تقسيم فلسطين في العام 1948. وقد غير انحدار الاستعمار الأوروبي في الحقبة ما بعد الحرب مباشرة آنذاك من طبيعة المعاداة للأمركة، كما أن زوال الماوية كعقيدة دولة أكسب الصين، بشكل مماثل، أصدقاء وأعداء جدد. عند تأسيسها، لم تكن إسرائيل منحازة وبرغم علاقاتها الوثيقة أكثر بكثير مع الغرب في أواخر الخمسينات، فقد كانت بقيادة الائتلاف الاشتراكي ماباي- مابام من العام 1955 وحتى 1977. فما أن أعلن عن تأسيس جمهورية الصين الشعبية، حتى تحركت مؤسسة " ماباي" الوسطية لمنح الاعتراف ببكين في العام التالي وكانت " مابام"- الأكثر يسارية وفي موقع المعارض لـ " ماباي" حتى العام 1955- تدفع باتجاه علاقات أفضل مع البلدان الشيوعية. رغم ذلك، أثبت هذا الاعتراف المبكر بأنه " حب غير متبادل" حيث أن بيكين ستتراجع، على عكس موسكو، عن تأسيس علاقات ديبلوماسية مع الدولة اليهودية. وبسبب حاجتها الملحة لتأمين الشرعية في أوساط الأعضاء العرب المثبتين حديثاً في الأمم المتحدة، أبعدت " تايبيه" أيضاً نفسها عن إسرائيل، حتى أواخر السبعينات.
في كل الأحوال، إن تقمص " مابام" لأنواع من الأحزاب من نوع " حزب ميريتس" تطور إلى حزب معارضة يساري هامشي. إن الانحراف البنائي لإسرائيل إلى اليمين بعد تشكيل حكومة الليكود الأولى بظل مناحيم بيغن في العام 1977 وضع القدس، وبقوة ، في موضع العدو العنيد والمتصلب للكتلة الشيوعية، إضافة إلى انتزاع العدائية المتنامية لدى الحركة الديمقراطية- الاجتماعية في أوروبا الغربية. ومن المفارقات ربما أن تكون الأحزاب الإسرائيلية اليسارية الهامشية، على نحو متزايد، هي الأحزاب الداعية الآن لقيادة أميركية أكثر استباقية إزاء عملية السلام الإسرائيلي- الفلسطينية المتوقفة، وليس لتدخل أميركي أقل. بالطبع، لقد انتهت منذ زمن طويل بيانات وتصريحات تضامن وتكاتف " ماباي" في أوائل الخمسينات مع ستالين وماو تسي تونغ.
أما حزب "ميريتس"، الذي نادراً ما كان منتقداً للحملات الأميركية في العراق أو أفغانستان، فقد تطور، من جهة أخرى، إلى حزب أكثر تعبيراً عن انتقاده لسجل بيكين في مجال حقوق الإنسان. حتى أن رئيسه السابق، يوسي ساريد – الذي لا يعتبرعاشقاً للمحافظين الجدد الأميركيين- دعا إلى مقاطعة الألعاب الألومبية في بيكين بسبب القمع السياسي. وبشكل مشابه، فقد اجتمع ليبراليون إسرائيليون أمثال أبراهام بورغ مع الدالاي لاما وأيد عقائده اللاعنفية في الوقت الذي كان يعمل فيه كمتحدث باسم الكنيست. ربما يكون الصوت المتميز الوحيد الذي يرصع النقاش اليساري المتطرف الإسرائيلي هو ذاك الذي للأكاديمي يوري باينز من " الجامعة العبرية"، وهو الأبرز من بين الجيل الثالث من المختصين بالشؤون الصينية، إضافة إلى كونه ناشط سلام ومعارض مشهور من أصحاب الضمير.

توصيف "إسرائيل" في الصحافة الصينية
من جانبه، كان إعلام الدولة الصينية على مدى السنوات أكثر انتقاداً لإسرائيل مما قد يعرضه المواجهون المتدخلون للعلاقة الصينية ـ الإسرائيلية بكثير. فوسائل الإعلام تلك كانت تعرض إسرائيل، على نحو تقليدي، ككيان سعيد، لكن فحوى ذلك خف نوعاً ما في السنوات الأخيرة. يبدو بأن هناك مسحة إعجاب حقيقية في أوساط النخبة المثقفة بخصوص إنجازات العلماء، رجال الدولة، والمفكرين اليهود التي ربما تم تناقلها من حقبة ما قبل الحرب، والتي غالباً جداً ما تسري وتدور حول الانطباعات الشعبية عن إسرائيل، في تحد لمحتوى الافتتاحيات الصحفية. وبالتالي فإن مفاهيم النطاق الخاص عن إسرائيل قد لا تكون متلونة بعد اليوم بخطاب الحرب الباردة القديمة.
إذا كان أول كتاب صيني عن "إسرائيل" ( نشر في العام 1956) حذراً ودقيقاً في تجنب معاداة السامية على الطريقة السوفياتية المنتشرة في تلك الحقبة، فإنه ممتلئ، كما هو متوقع، بإدانة الصهيونية كمظهر واضح من مظاهر الإمبريالية وبالتالي في عملية تواطؤ مع هتلر وموسيليني. وفيما عدا مقالات الصحف السلبية، ظهرت منذ ذلك الحين، وبشكل مثير للدهشة، بضعة كتب في الصين مخصصة، وبتفرد، عن إسرائيل. أما أحدثها فيعبر، وبشكل سلبي تماماً، عن ظروف العمل لآلاف عمال البناء الصينيين المتعاقدين للعمل في إسرائيل بدلاً عن الفلسطينيين.
وحيث أن أول كتاب صيني عن إسرائيل كان قد نشر في العام 1956 فإن الأمر ليس مصادفة. بالواقع، لقد كان " مؤتمر بانانغ" ( 1955) نقطة تحول حاسمة برز بعدها الموقف الصيني المؤيد للعرب بشكل علني وصريح أكثر من اي وقت مضى، والذي لا يزال إرثه، بمعنى من المعاني، يلقي بظلاله على العلاقات الصينية – الإسرائيلية. ثم شهدت " القفزة الكبرى إلى الأمام" و " الثورة الثقافية" تكثيفاً واشتداداً أكبر في حدة البيانات المناهضة لإسرائيل، بما في ذلك ماو نفسه. وحتى بعد انتهاء الحرب الباردة، بالإمكان تقصي إرث " باندانغ" في امتناع الصين عن التصويت في الأمم المتحدة حول سحب أو عد م سحب معادلة الصهيونية بالعنصرية.
توقفت العلاقات الديبلوماسية بين موسكو والقدس في العام 1967. مع ذلك، وخلال العقد الأخير من الوجود الديبلوماسي الإسرائيلي هناك، جرت محاولات دائمة للحوار مع الصين. وفي العام 1956، في نفس العام الذي نشر فيه أول كتاب معاد لإسرائيل، سُمح لسفير إسرائيل في الإتحاد السوفياتي لزيارة بيكين لكن أبلغ بأن الوقت غير مناسب لفتح موضوع علاقات ديبلوماسية. أما الإسرائيليون الوحيدون الذين تمكنوا من اللقاء بـ " ماو" شخصياً في ذلك الحين كانوا قادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وقبل خروج الانشقاق الصيني- السوفياتي إلى الضوء، على سبيل المثال، زار "شموئيل ميكونيس" ماو بناء على توصية من نظيريْه الشيوعيين الأوروبيين، "موريس ثوريز" و "بالميرو توغلاتي". وقد طلب ميكونيس من ماو حتى التوسط لدى خروتشوف لرفع القيود عن الحياة الثقافية اليهودية في الإتحاد السوفياتي. في كل الأحوال، لم تعترف بيكين رسمياً أبداً بالتصويت الدولي المستمر لإسرائيل لصالح قبول جمهورية الصين الشعبية كدولة عضو في الأمم المتحدة في وجه احتجاجات جمهورية الصين. أما الإشارة الأخيرة عن الاعتراف الصامت من جانب جمهورية الصين الشعبية قبل أن يترنح بسبب تطرف الثورة الثقافية كانت في معرض "الصين اليوم" في العام 1960 في تل أبيب، مع الصور التي تبرعت بها اللجنة الصينية للشؤون الخارجية.
بحلول عام 1965، نقلت صحيفة الأنوار المصرية عن ماو تصريحه بأن " الإمبريالية تتخوف من الصينيين والعرب. وبأن إسرائيل وتايوان قاعدتين لإمبرياليتين في آسيا". وعند تأسيسها في العام 1959، نالت حركة فتح الفلسطينية اعترافاً فورياً من بيكين، وقيل لاحقاً بأن ناشطين في منظمة التحرير الفلسطينية قد تدربوا مع جيش التحرير الشعبي الصيني. ولم يكن لعقود الصين مع إسرائيل المتعلقة بشراء أسلحة متطورة تأثير في البداية على رعاية الصين لمنظمة التحرير الفلسطينية. وفقط في العام 1988 اعترفت بيكين علناً بأنه تم إبرام عقود مع إسرائيل، لكن في نفس الوقت رفعت من مستوى مكتب منظمة التحرير هناك إلى سفارة متكاملة لتهدئة الهواجس الفلسطينية.

فكرة " الحب الغير متبادل"
برغم العلاقات الصينية القديمة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وربما لإثارة استياء أميركا، وفيما عدا توسط مختصر في أواخر الستينات، استمرت إسرائيل بالتصويت لصالح قبول بكين كعضو في الأمم المتحدة. ولم تعد المعارضة الأميركية للعقود المبرمة مع الصين تشكل قضية بالنسبة لإسرائيل إلا عندما عقد نيكسون صفقته مع " ماو" في بيكين في العام 1972 فقط. لكن لسوء حظ إسرائيل، لقد حال الانشقاق الصيني – السوفياتي بين الصين وبين منافستها للاتحاد السوفياتي على النفوذ في العالم العربي فحسب، وبالتالي تصلب موقف الصين تجاه إسرائيل. بهذا المعنى، لقد تساوى "الحب من طرف واحد" الإسرائيلي للصين مع " الحب من طرف واحد" الصيني للرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي ظل، مع ذلك، مشككاً ببكين. بالواقع، كان ناصر مذعوراً من " القفزة الكبرى إلى الأمام" رغم أنه لم يكن مفتوناً بالشيوعية على النمط السوفياتي. من جانبها، نددت الصين بجمال عبد الناصر فقط عندما حظر الحزب الشيوعي السوري كجزء من تحرك لتأسيس الجمهورية العربية المتحدة.
في ذلك الوقت، كانت فرنسا لا تزال الحليف الإستراتيجي الرئيس لإسرائيل، مع نضال واشنطن للبقاء على الحياد في الصراع العربي – الإسرائيلي. وفقط بعد انسحاب شارل ديغول من الجزائر عام 1962، وبرود العلاقات مع الدولة اليهودية " العنيدة" جاءت واشنطن بالفعل بقوة أكبر دفاعاً عن إسرائيل. لذا، فإن الأصل الرسمي المتين للتحالف الأميركي – الإسرائيلي لم يسبق حرب يوم الغفران عام 1973 بوقت طويل، الحرب التي ساعد فيها نيكسون إسرائيل، بحسب ما هو مشهور، وأنقذها من هزيمة مذلة بنقل جوي غير مسبوق للإمدادات العسكرية.
مهدت زيارة نيكسون الطريق في نهاية المطاف للصين لتعبر أولاً عن رغبتها بلعب دور في مفاوضات السلام العربية – الإسرائيلية في أواخر الثمانينات، في مقابل ترسيخ علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل في العام 1992. بعد عقود من " الحب الغير متبادل"، سلكت المؤسسة الإسرائيلية ككل طريقها لتعزيز الاتصالات الثنائية الحديثة العهد. فقد شرعت حكومة حزب العمال برئاسة رابين، على سبيل المثال، والتي كانت قد استلمت الحكم من حزب الليكود برئاسة شامير، بالحفاظ على صمت إسرائيل الرسمي حول إجراءات Tiananmen لتمهيد الطريق لجمهورية الصين الشعبية للاعتراف بإسرائيل في وقت لاحق من ذلك العام.
إلا أن إشكالية تعديل الإصطفافات التاريخية للصين في العالم العربي أصبحت واضحة عندما زار شيمون بيريز– الذي أصبح رئيساً للوزراء بعد اغتيال رابين – بيكين للمرة الأولى في العام 1994. وكجزء من جدول محكم ، كان من المفترض ببيريز - وفق مصادر مستقلة- أن يفتتح "مركز الدراسات الإسرائيلية " في " جامعة بيكين، وتسميتها ببن غوريون. وقد تمت المصادقة على المركز سلفاً من قبل وزارة الخارجية الصينية. في كل الأحوال، ألغت الجامعة احتفال الافتتاح قبل ساعتين من بدئه بسبب الحساسيات العربية. وفي رد انتقامي قيل بأن إسرائيل سحبت تمويلاً أساسياً لها من الجامعة ولم تعيده إلا في الآونة الأخيرة.

الاستنتاج
إذا أمكن القول بطريقة ما مسبقاً، فإن رؤى آرينز تعتبر شاذة عن رؤى المحللين السائدين في بلد كإسرائيل، المعتادة منذ زمن طويل على الشراكة الحزبية المكثفة مع واشنطن، والتي لديها أكبر أكبر مجتمع شتات لها مقيم في الولايات المتحدة. من ناحية أخرى لم يترك صعود الصين سوى بصمة سطحية على النقاش العام الإسرائيلي يتخطى الدعوات العامة للالتفات أكثر إلى جنوب وشرق آسيا. بهذا المعنى، فإن نقاش " صعود الصين" أكثر وضوحاً، كما هو متوقع، في بلدان ذات أحجام تجارية أكبر مع الصين عند المقارنة. إن النمو التجاري الإسرائيلي مع الصين قد تراجع كثيراً منذ صفقة Phalcon الفاشلة قياساً إلى البلدان الموجودة في المنطقة؛ فالصين هي خامس أكبر شريك تجاري فقط لإسرائيل، وتأتي بعد أوروبا والولايات المتحدة بأشواط. أم فيما يتعدى التجارة، فلا تزال الصين تمارس قوة ناعمة نسبياً في إسرائيل، ما يعكس ربما، وبشكل أوسع، أوجه القصور الأكثر حدة في سياستها الخارجية.
في بداية الإطاحة بمبارك، كان " مينكسين بي" استاذ العلوم السياسة المشهور، واحداً من كثيرين عرضوا إلى أن الاضطرابات في الشرق الأوسط قد تشعل، عاجلاً أم آجلاً، غضب المحرومين في الصين، وبأن الحزب الشيوعي الصيني كان يستعد، وبقلق، لحصول تظاهرات بالقيام بحملة على ناشطي حقوق الإنسان. وقد عرضت تقارير أخرى حتى إلى أن الموجات التي أرسلها المتذمرون اوالساخطون

موقع الخدمات البحثية