أوراق إستراتيجية » التكيف الاستراتيجي: نحو استراتيجية أميركية جديدة في الشرق الأوسط

...
التكيف الاستراتيجي: الأولويات والتوجهات
الشرق الأوسط يتغير، والولايات المتحدة بحاجة إلى استراتيجية جديدة لحماية مصالحها. إن الاستراتيجية التي نقترحها هي : التكيف الاستراتيجي". وفي حين أن هذا الأمر يحتم إعادة ضبط بعض الالتزامات الأميركية تجاه المنطقة، فإن الأمر متعلق أكثر بمطابقة طرق ووسائل لتناسب السياق الاستراتيجي الجديد.
هناك عناصر استمرارية مع السياسة والنشاطات الأميركية في المنطقة، لكننا نشدد على التغييرات بخصوص البيئة الاستراتيجية وعلى الكيفية التي ينبغي أن تؤثر بها تلك التغييرات على السياسة الأميركية.
إن الأولوية عنصر حاسم للاستراتيجيات الناجحة. في هذا الفصل نحدد ثلاثة أمور ينبغي للولايات المتحدة القيام بها في المدى القريب لدرء التهديدات الأكثر آنية للمصالح الأميركية، وثلاثة أمور ينبغي للولايات المتحدة القيام بها "في الوقت عينه" لضمان انسجام المصالح الأميركية مع السياق الإستراتيجي المتحول. نحن نختار أولوياتنا بناء على المصالح الأميركية إضافة إلى تحليلنا في الفصول السابقة. إن المرونة المطلوبة للانكباب على معالجة الآفاق في المدى القريب والطويل، في آن معاً، هي ما تتسم به استراتيجية التكيف التي نطرحها. ينبغي للولايات المتحدة أن تستعد لمعالجة أزمة في المنطقة إضافة إلى تشكيل الديناميكيات الإقليمية في المستقبل.

الأولويات للمدى القصير..إيران

ينبغي للولايات المتحدة الاستمرار بإستراتيجيتها " المسار المزدوج" المتعلقة بالعقوبات الشديدة زائد الديبلوماسية لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي. وتظل المحصلة الأمثل حلاً يتم التفاوض عليه يوفر الضمانات ضد جهود التسلح والشفافية الكافية للتحقق من تلك الضمانات. ينبغي أن يضمن هكذا حل أيضاً تعزيز نظام منع الانتشار العالمي. فالهدف الأهم يجب أن يكون منع إيران من تطوير أسلحة نووية فعلية. فإذا ما أنهت إيران عملها تسلحها بشكل يمكن التحقق منه، وعملت بصرامة وشفافية ضمن قيود معاهدة منع الانتشار النووي ( NPT) والموافقة على ضمانات تقنية كافية وعمليات تفتيش تدخلية للتقصي ومنع الغش، هذه الخطوات ستكون كافية لمعالجة التحديات الخطيرة المنبثقة عن برنامج إيران، حتى ولو كان هناك بعض التخصيب المحلي المحدود المسموح.
إن مقاربة إدارة أوباما تهدف، وبشكل صحيح ومحق، إلى منع إيران من الحصول على سلاح نووي. إن التوصل إلى تسوية ديبلوماسية لا تزال السياسة الأكثر جاذبية بما أن الحل المانع المستدام الوحيد، الذي لا يصل إلى غزو إيران واحتلالها لإزالة أسس برنامجها النووي، هو حل يختار فيه الإيرانيون التراجع عن الحافة النووية. فمن العام 2006 وحتى 2008، ساعدت إدارة بوش على تنسيق سلسلة من قرارات مجلس الأمن الدولي الهادفة إلى وضع عقوبات اقتصادية متعددة الأطراف على طهران لتشجيعها على الارتقاء إلى مستوى التزاماتها الدولية بظل معاهدة الحد من الانتشار النووي ( NPT). وقد بنت إدارة أوباما على هذه المقاربة من خلال الجهود المبدئية واللاحقة بالانخراط في صياغة إجماع عام دولي لفرض إجراءات ضاغطة أقسى وأشد بكثير. ويبدو بأن عقوبات الطاقة والمالية الغير مسبوقة تؤثر على الحسابات الإيرانية ـ كما هو ظاهر وواضح باستعداد النظام المتزايد للتفاوض حول برنامجه النووي.
لقد أوضح أوباما بأن السلاح النووي " غير مقبول"، وبأن كل الخيارات ـ بما فيها القوة العسكرية ـ لا تزال على الطاولة لمنع إيران من تطوير أسلحة نووية، وبأن الإدارة لا تؤيد سياسة الاحتواء النووي. في نفس الوقت، صرَّح أوباما أيضاً بأنه يفضل حلاً سلمياً، وبأن هناك نافذة فرصة للاستفادة من الضغط غير المسبوق المفروض الآن على إيران للتوصل إلى تسوية ديبلوماسية دائمة.
أما أحدث العقوبات المشددة والمحكمة فلن تحدث قبل صيف 2012. إيران لن تشعر بالتأثيرات الكاملة للعقوبات حتى إلا بعد عدة أشهر مقبلة. ويبدو النظام الإيراني ملتزماً بشدة بإستراتيجية التحوط النووي، إلا أن الكلفة، بما في ذلك الثمن الاقتصادي وخلفية التهديد بعمل عسكري، قد تصل إلى نقطة يمكن أن تكون فيها القيادة الإيرانية مستعدة للتسوية. ينبغي الاستمرار بالعقوبات وأن تكون على نفس الوتيرة مع المفاوضات، فتشدد إلى الحد لضروري لفرض لضغط وترخى إن حصل تقدم بالمفاوضات يسوغ ذلك.

وكخطوة حكيمة، ينبغي للولايات المتحدة إعادة موضعة أصول عسكرية في الخليج الفارسي والمنطقة بناء على الحد الأدنى من المتطلبات لحالة طارئة إيرانية. ونظراً حتى للرهانات الهامة المشتملة في حالات إقليمية طارئة إزاء إيران التي تمت مناقشتها في وقت سابق، فإن تقديرات موثوقة حول التقدم النووي الإيراني تؤشر إلى أن الوقت لا يزال متاحاً للديبلوماسية كي تنجح، بمساندة العقوبات القاسية.
ورغم أن إيران النووية قد لا تكون تهديداً وشيكاً كما يتصور البعض، فإنها مع ذلك تشكل تحدياً هاماً للمصالح الأميركية وتزيد فرص حدوث صراعات إقليمية. لذا، فإن منع إيران من تطوير أسلحة نووية، بدلاً من تبني سياسة ردع واحتواء نووية، أمر ينبغي أن يظل أولوية.
إذا ما فشلت الجهود المانعة، بإمكان الولايات المتحدة، ربما، العمل إلى جانب إسرائيل ودول إقليمية أخرى لمعالجة عدد من المخاطر المرتبطة بإيران النووية والتخفيف من حدتها. ومن بين الخيارات المحتملة لردع إيران النووية واحتوائها، بإمكان الولايات المتحدة القيام بالأمور التالية:

تعديل سياسة تفسيرية إعلانية نووية لإبلاغ إيران الخطوط الحمر الواضحة وبذلك زيادة احتمال الردع الناجح.
توفير ضمانات رادعة واسعة ومساعدات أمنية إضافية، وإعادة موضعة القوات الأمامية المنتشرة لثني إيران عن القيام بعدوان وطمأنة الحلفاء القلقين.
دعم منظومات الإنذار المبكر للولايات المتحدة وشركائها، الدفاعات الجوية والصاروخية البالستية المدمجة، والقدرات لردع والدفاع ضد الهجمات الإرهابية.
تعزيز الجهود الديبلوماسية، الاستخبارية، العسكرية والاقتصادية لتعطيل العمليات الإيرانية والنشاطات السرية.
المساعدة على تأسيس آليات الحوار الإسرائيلية- الإيرانية- الأميركية، التواصل في الأزمة والسيطرة على التسلح.
تشجيع إسرائيل وإيران لتبني تعهدات متبادلة "على عدم الاستخدام أولاً" إضافة إلى إجراءات السلامة التقنية للتقليل من مخاطر التصعيد بالصدفة.
وفي حين أن استراتيجية الردع والاحتواء القابلة للحياة يمكن تصورها نظرياً، فستكون، عملياً، مهمة الشروع بها معقدة جداً. إن احتواء الإرهاب والتطرف المدعوم إيرانياً صعب أساساً ومن المرجح أن يصبح أكثر صعوبة إذا ما حصلت إيران على السلاح النووي. فضلاً على ذلك، وخلال فترة البداية بعد تطوير أسلحة نووية، من المرجح أن يصطدم الإصرار الإيراني المتنامي بالقلق الإسرائيلي الحاد والشعور المتبادل بالاستهداف، ما يجعل استقرار أية ترتيبات تتعلق بالردع والاحتواء هشة جداً ـ وسيكون ثمن الفشل باهظاً جداً. ولذلك، فإن تبني سياسة الردع والاحتواء النوويين ليست مستحسنة وينبغي درسها فقط كموقف احتياطي إذا ما فشلت كل الجهود المانعة الأخرى.

العلاقات الإسرائيلية ـ المصرية

تحافظ الولايات المتحدة على مصلحة قوية لها في أمن إسرائيل وحصول تقدم أكبر بالسلام العربي- الإسرائيلي. وفي حين أن الولايات المتحدة كانت متموضعة بطريقة فريدة لرعاية معاهدة كامب ديفيد الأصلية بين مصر وإسرائيل في العام 1978، فإن الولايات المتحدة متموضعة جيداً لمنع حصول تمزق في اتفاق السلام. وبرغم الجدل والنزاع الدائر حول المنظمات غير الحكومية الممولة أميركياً في مصر في الشتاء الماضي، فإن الولايات المتحدة تتمتع بعلاقات وثيقة مع كل من حكومتيْ مصر وإسرائيل ولديها ثقة المؤسسات العسكرية في البلدين. كما أمضى الديبلوماسيون الأميركيون وأعضاء الكونغرس وإدارة أوباما قسماً كبيراً من الوقت في العام الماضي وهم يؤسسون لعلاقات مع وسطاء السلطة الإسلامية الجديدة في مصر.
بإمكان الولايات المتحدة القيام بأمرين للحفاظ على السلام. أولاً، بإمكان الولايات المتحدة العمل من خلال سفاراتها في البلدين للتصدي لأية أخطاء تتعلق بسوء الفهم والتصور والتي قد تجعل القادة في البلدين يقومون بأمر ما طائش ومتهور. إن قادة إسرائيل لا يثقون أو يعرفون القادة المدنيين الجدد في مصر وقد يفسرون العنف في سيناء أو غزة على أنه يتم بمباركة هؤلاء القادة. في هذه الأثناء، لا يثق قادة مصر المدنيين الجدد بقيادة إسرائيل أو يعرفونها. ينبغي للولايات المتحدة أن تعقد اجتماعات وتسهل لقاءات بين الفاعلين السياسيين والعسكريين من كلا البلدين وتكون مستعدة للقيام بجولات ديبلوماسية مكوكية، أو تسهيل حصول حوار بين الجانبين، للتقليل من تصاعد التوتر إذا ما برزت أزمة ما. ولا بد للبلدين من الاختلاف حول قضايا ذات صلة بحقوق الفلسطينيين، لكن على الولايات المتحدة العمل من خلال قنوات ديبلوماسية لضمان ألا يتسبب العنف في سيناء بصراع متبادل بين الدولتين ـ العنف الذي كانت تدفع به مجموعة من العوامل الاجتماعية، السياسية والاقتصادية ذات الصلة، إلى حد كبير، إما بإسرائيل أو بقضية الفلسطينيين.
ثانياً، ينبغي للولايات المتحدة أن تحدد لحليفيها الأثمان الاستراتيجية المرتفعى للصراع. إذ ينبغي للولايات المتحدة أن تذكِّر أصدقائها الإسرائيليين بالعواقب الطويلة الأمد للتدخل الإسرائيلي في جنوب لبنان عاميْ 1978 و 1982 والكيفية التي أحدثت فيها عمليات عسكرية محدودة مبدئياً مشاكل أكثر بدلاً من حلها ـ كإنشاء مجموعات المقاومة اللبنانية المتشددة. ينبغي للولايات المتحدة أيضاً أن توضح للقيادتين المدنية والعسكرية المصرية بأن المساعدات العسكرية والاقتصادية لمصر ـ والتأييد الأميركي لمصر في المؤسسات المالية الدولية- تعتمد على حفاظ مصر على سلامها مع حليفتها( حليفة أميركا) الرئيسة في المنطقة.

الانكباب على معالجة التهديدات من سوريا واليمن
تواجه الولايات المتحدة تهديدات أمنية على المدى القصير في كل من سوريا واليمن، التي كل تخوض كل منهما حرباً أهلية. وفي حين أن سوريا هي في المراحل الأولى من الحرب الأهلية، يواجه اليمن تهديدات مستمرة لحكومته من الجماعات الإرهابية وحالات التمرد والعصيان المحلية الأخرى.
وفي سوريا، حيث تقول تقديرات الأمم المتحدة بأن أكثر من 9000 مدني قد قتلوا في هجمات للحكومة على المتظاهرين المعارضين للأسد منذ عام حتى الآن، ليس هناك من سبب كبير يدعو لتوقع حصول حل سريع للصراع. في الوقت الراهن تتمتع قوات النظام السورية بمزايا هائلة بما يتعلق بالقوة البشرية والتجهيزات، وليس هناك من سبب يدعو النظام كي يفكر بأنه سوف يخسر. فالأقلية العلوية السورية ـ التي تتخوف من فقدانها سلطتها السياسية والاقتصادية ـ لديها دوافع قوية للعمل كمخرب لأية تسوية سياسية محتملة.
ينبغي للولايات المتحدة مواصلة سياسة " الديبلوماسية الإجبارية" للضغط للوصول إلى حل للصراع، بالترويج لحرية وعدالة أكبر للشعب السوري من دون الغرق في مستنقع الحرب الأهلية السورية. وبالعمل مع مجلس الأمن الدولي وائتلاف أصدقاء سوريا، إضافة للعمل من خلال مبادرات واشنطن الخاصة، سوف تستمر سياسة من هذا النوع بنشر استبداد النظام على الملأ وتحاول تثبيت التجانس والضم في المعارضة السورية ( بما في ذلك توفير مساعدات غير فتاكة) وفرض ضغط دولي وعقوبات على مسؤولي النظام لتعزيز حصول انتقال سياسي يتم التفاوض عليه بين المعارضة السورية والحكومة. ينبغي للجهود أن تستمر لإيجاد خليط صحيح للمفاوضات والضغط لحمل روسيا على تخفيف دعمها لنظام الأسد والتوقف بشكل خاص عن استعمال حق الفيتو في عمل متضافر لمجلس الأمن . وبينما ينبغي التحضير للطوارئ العسكرية، في غياب معارضة سورية أكثر انسجاماً وتفويض دولي واستراتيجية قابلة للتطبيق، لا ينبغي للولايات المتحدة الشروع بعمل عسكري. فبظل الظروف الحالية، " سيبدل التدخل العسكري في سوريا دينامية صراع طويل لكنه لن ينهيها، مورطاً الولايات المتحدة في حركة تمرد وحرب أهلية دموية ومطولة.
في كل الأحوال، وفي الوقت الذي تعمل فيه الولايات المتحدة لتسهيل عملية الانتقال، فإن عليها أيضاً أن تدرك حدود قوتها ونفوذها لدى الفاعلين السوريين، التحضير لأعمال طارئة محتملة لصراع طويل في سوريا والعمل على التخفيف من حدة تأثيرات تلك الحرب على المصالح الأميركية. هذا يعني احتواء الصراع وعدم تشجيع انتهاكات حقوق الإنسان في الوقت الذي يتم فيه السعي لحل الصراع. ولاحتواء الصراع، ينبغي للولايات المتحدة محاربة جهود الآخرين، بما فيها تلك التي لائتلاف " أصدقاء سوريا"، لتسليح وكلاء المعارضة السورية بأسلحة متطورة أو استغلال الوضع بطرق تخدم مصالحهم الوطنية المذهبية أو الضيقة.
ينبغي للولايات المتحدة أن تقلق بشأن نتيجتين محددتين للصراع في سوريا: الإرهاب وانتشار الأسلحة البيولوجية والكيميائية. فأحداث العنف التي جرت عام 2007 بين القوى الأمنية اللبنانية وجماعة فتح الإسلام الإرهابية، بقيادة مسلح متشدد كانت السلطات السورية قد أطلقت سراحه والتي انتهت بتهجير حوالي 30000 لاجئ فلسطيني، هي نذير لنوع العنف الذي قد ينتشر من سوريا. وللتخفيف من حدة اندلاع عنف مذهبي محدود إرهابي في لبنان والبلدان المحيطة، ينبغي للولايات المتحدة توفير المساعدة الأمنية والدعم الاستخباري للأجهزة الأمنية في البلدان المجاورة لسوريا ـ كما فعلت في العام 2007 بالسلاح والتجهيزات إضافة للدعم الاستخباراتي. لدى الولايات المتحدة علاقات ممتازة مع الأجهزة الأمنية في كل بلد من البلدان المجاورة لسوريا، الأمر الذي يعتبر شيئاً ثميناً في حال حدوث أمور طارئة.
إن انتشار الأسلحة البيولوجية أو الكيميائية أمر من الصعب للغاية التخفيف منه. فليس هناك من أي بلد مجاور لسوريا لديه مصلحة في عبور أسلحة كهذه لحدوده. لكن السهولة التي كان يتم بها تهريب الناس والسلاح عبر الحدود الدولية خلال الصراعات في كل من سوريا والعراق تظهر مدى سهولة اختراق الحدود السورية مع العراق ولبنان. وقد حافظ كل من لبنان والعراق على علاقاته مع نظام الأسد، وينبغي لكل بلد ممارسة الضغط على النظام لحماية مخزونه من الأسلحة البيولوجية والكيميائية. في هذه الأثناء، ينبغي للولايات المتحدة العمل مع الأجهزة الأمنية لدى كل بلد من البلدان المجاورة لتطوير خطط لوقف حركة أسلحة كهذه وانتقالها إلى خارج سوريا.
أما في اليمن، فقد أسس أتباع القاعدة ملاذاً آمناً لهم هناك وبدؤوا بتوفير الخدمات والحكم برغم تحذيرات القيادة العليا للقاعدة بعدم محاولة الإمساك بالمنطقة وتأسيس إمارة. أما القاعدة في شبه الجزيرة العربية فقد أثبتت مواصلتها المستمرة لجهودها بمهاجمة الولايات المتحدة؛ فمنذ تشكيلها في كانون الثاني 2009، حاولت، بحسب ما قيل، تفجير قنابل على متن طائرات أميركية وشجعت على القيام بأعمال إرهابية في كل من اليمن والولايات المتحدة. وفي الأشهر الأخيرة، تعزز وضع "القاعدة في شبه الجزيرة العربية " بسبب نجاح واجهتها السياسية، أنصار الشريعة، التي يبدو بأنها تعمل بالموازاة مع القاعدة في شبهة الجزيرة العربية وهي الآن تشن حملة تمرد محلية ضد الحكومة اليمنية.
كان يتم وزن الاستراتيجية الأميركية تجاه اليمن بميزان مكافحة الإرهاب. وقد اشتمل هذا على تدريب وحدات مكافحة الإرهاب ضمن الجيش اليمني وعلى برنامج الضربات الموجهة بواسطة الطائرات من دون طيار ضد أهداف القاعدة هناك. ورغم أن هذه الاستراتيجية نجحت في قتل عدد من مسؤولي القاعدة في اليمن، بمن فيهم الداعية أنور العولقي وفهد القوصو، اللذان يعتقد بأنهما مسؤولان عن تفجير المدمرة USS Cole في العام 2000، فإنها فشلت في كبح نمو " القاعدة " في اليمن. فقد تضاعفت قوة القاعدة في شبه الجزيرة العربية " أكثر من ثلاثة أضعاف منذ العام 2009، كما أن تكتيكاتها تحولت بحيث أن القاعدة في اليمن قد بدأت بالإمساك بالأرض في المناطق الريفية الجنوبية من اليمن. ورغم بعض النجاحات على الأمد القصير، فقد أثبتت المبادرات الأميركية عن عدم ملائمتها لمعالجة دوافع الصراع.
أما الاستراتيجية الأكثر شمولية فستكون التشديد أكثر على الإصلاح السياسي والتنمية الاقتصادية لمعالجة الشكاوى التي استثمرتها القاعدة في شبه الجزيرة العربية لتحريك الدعم لها. ومن المفارقات أنه ينبغي للولايات المتحدة أن تكون أكثر نجاحاً في القيام بهذا الأمر في اليمن، حيث تنفق موارد أقل نسبياً عما تنفقه في أفغانستان والعراق، حيث الاستثمار الأكبر للموارد جعل حكومات الدول المضيفة تشعر بالرضا. ينبغي للولايات المتحدة مواصلة هذه الاستراتيجية حتى ولو كانت تضغط على العلاقة الأميركية مع الحكومة اليمنية الجديدة في المستقبل القريب. ففي المناطق الواقعة في المحيط الواقع تحت سيطرة الحكومة اليمنية، استثمرت القاعدة في اليمن ( القاعدة في شبه الجزيرة العربية) وأنصار الشريعة النقص الحاصل في التمثيل السياسي والخدمات الحكومية في محافظات معينة. وباستخدامها القوة والنفوذ المكتسبان من المساعدات العسكرية، ينبغي للولايات المتحدة الدفع باتجاه وجود نظام أكثر شمولاً يمثل الشعوب بشكل أفضل لمكافحة تأثير ونفوذ هذه الجماعات الإرهابية.
ينبغي للولايات المتحدة إبقاء التهديد الذي يشكله المتطرفون المتمركزين محلياً في اليمن في منظورها. فبرغم دمجهم تكراراً مع القاعدة في شبه الجزيرة العربية، لا يمثل هؤلاء الفاعلين خطراً وجودياً على الولايات المتحدة وليس لديهم سوى قدرة محدودة على استعراض القوة خارج اليمن. ولا ينبغي للولايات المتحدة القيام بضربات جوية ضد منظمة تصرفت كواحدة من حركات التمرد المحلية العديدة الأخرى في اليمن ـ والتي هي متأصلة الآن في مجتمعات معينة بحيث أن القيام بضربات جوية بأقل ضرر مصاحب ممكن هو أمر مستحيل تقريباً. إن القيام بذلك يمثل خطراً لجهة تحول عدد أكبر من اليمنيين إلى التطرف وتنفير السكان عموماً في وقت بدأت فيه الحكومة تصبح مسؤولة وعرضة للمحاسبة أمام شعبها أكثر فأكثر.
ينبغي للولايات المتحدة الضغط في المستقبل بعملية شاقة تتعلق بإعادة هيكلة الجيش اليمني وفقاً لاتفاقية عملية الانتقال التي أدت بعلي عبد الله صالح إلى التنحي عن السلطة. هذه العملية، التي سبق وبدأت، ستتضمن برامج تدريب، تغييرات في القيادة لكسر احتكار السلطة التي احتفظت بها عائلة صالح وما يرجح أن يكون عملية طويلة الأمد لجعل الجيش مسؤولاً ومحاسباً أمام السلطات المدنية في الحكومة. إن إعادة الهيكلة هذه مطلب مسبق لمواجهة "القاعدة في شبه الجزيرة العربية" ( في اليمن) بشكل مناسب. أما بما يتعلق بالأشهر الثماني عشر الماضية، فقد أبقت الحكومة اليمنية قواتها المدربة والمجهزة أميركياً لمكافحة الإرهاب مركزة في صنعاء، في حين أن الجيش اليمني الأقل استعداداً استلم مسألة محاربة القاعدة وأنصار الشريعة. وإلى حين وجود إمكانية لنشر قوات عسكرية أكثر قدرة في مناطق تسيطر عليها " القاعدة في شبه الجزيرة العربية"، فإن الهجمات العسكرية للجيش والإصابات المرتفعة ستثبت قدراً من المسؤولية بالنسبة لقيمتها الإعلامية إزاء القاعدة بالقدر الذي ستثبت فيه قيمتها في مسألة أهداف مكافحة الإرهاب الأميركية واليمنية. أخيراً، ينبغي للولايات المتحدة المساعدة على معالجة الضغوط الاقتصادية على المدى الطويل على اليمن عن طريق المساعدة في الجهود الدولية لإعادة تطوير مرفأ عدن، الذي لديه إمكانية التخفيف من البطالة في صفوف الشباب اليمني. هذه مصالح تتقاسمها الولايات المتحدة مع الحكومة اليمنية، المهددة أيضاً من قبل القاعدة في شبه الجزيرة العربية والتي تدرك الحاجة إلى إصلاحات حكومية واقتصادية، إلا أن الولايات المتحدة قد تحتاج إلى إبقاء الحكومة مركزة على مقاربة واسعة وشاملة لتلبية التحديات التي تواجهها اليمن.

التوجهات على المدى الطويل
وبينما ينبغي للولايات المتحدة تركيز اهتمامها ومواردها على أولويات المدى القصير كما ناقشنا آنفاً، فإن عليها، في نفس الوقت، أن تكيف سياساتها الإقليمية إزاء التوجهات التالية على المدى الطويل: عودة الحياة السياسية إلى العالم العربي، الاعتماد الأميركي المخفض على الخليج الفارسي وتوتر العلاقات الأميركية- الإسرائيلية. إن تصنيف هذه التطورات على أنها توجهات للأمد الطويل لا يعني بأنه ينبغي تجاهلها حتى مرحلة لاحقة. بالأحرى، إن السياسات الأميركية الساعية لتسخير الإمكانات والتخفيف من حدة مخاطر هذه التوجهات الطويلة الأمد ستتطلب انخراطاً وضغطاً مستداماً وسيستلزم الأمر وقتاً قبل أن تعطي هذه السياسة ثمارها. فبتكييف سياساتها مع هذه التوجهات، قد تكون واشنطن قادرة على التقليل من ضعفها وتحقيق مستوى من الاستقرار في المنطقة أكثر ثباتاً وتحملاً.

عودة الحياة السياسية إلى العالم العربي
أول ما اكتسح الربيع العربي المنطقة، كانت المعضلة بالنسبة لصناع القرار السياسي الأميركيين واضحة: لقد أفرطت الولايات المتحدة في الاستثمار في أكثر الأنظمة لا ديمقراطيةً في العالم الناطق بالعربية. برغم ذلك، كان الربيع العربي معادياً للنظام أكثر مما هو معادِ لأميركا. وفي الوقت الذي لا تزال فيه واشنطن مدركة بأن هذه الثورات لا تتعلق بالولايات المتحدة، فإن عليها التركيز أكثر على منع الأنظمة المعادية لأميركا من البروز بدلاً من دعم تلك المؤيدة لأميركا. وفي المستقبل، سيظل من المناسب للولايات المتحدة تبني الاستقرار الإقليمي كغاية وهدف لها. إلا أن على صناع السياسة الأميركيين أن يفهموا بأن إدراك الطموحات الديمقراطية للشعوب العربية هو السبيل المستدام الوحيد نحو استقرار حقيقي.

إشراك الشعوب العربية، وليس الأنظمة فقط
لقد ولت الأيام التي كان فيها الديبلوماسيين الأميركيين والمسؤولين العسكريين يقررون بتكتم مصطلحات النشاطات الأميركية في الشرق الأوسط مع حفنة من الحكومات الملكية العربية والجنرالات. ففي عصر الويكيليكس ووسائل التواصل والإعلام الاجتماعي، أصبحت نتائج السياسة الأميركية أكثر شفافية وأكثر عرضة للنقاش على نطاق واسع من قبل. إضافة لذلك، إذا ما حقق الربيع العربي وعوده، فإن الأنظمة في الشرق الأوسط ستصبح، وعلى نحو متزايد، أكثر تجاوباً مع مصلحة الشعب. عندها لن يكون كافياً تسويق حفنة من مسؤولي النظام في سياسة أو ضمن مبادرة أميركية. ينبغي للولايات المتحدة أن تجعل الشرق الأوسط نموذجاً لما تسميه آن ماري سلاتر " محور الشعب... الحوار مع المدونين في مصر إضافة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة" و " عقد الاجتماعات مع رجال أعمال شباب في تونس، الجزائر والمغرب والتواصل معهم للتمويل والتوجيه". ينبغي للمسؤولين الأميركيين الآن إقناع مجموعة أوسع من قادة الرأي وشرائح أساسية لدى الشعوب العربية بأن العمل مع الولايات المتحدة هو من مصلحة بلدانهم, يجب على الولايات المتحدة أن توسع مقاربتها للتفاعل مباشرة، ومن خلال مجموعة متنوعة من وسائل الإعلام، مع مجموعة واسعة من منظمات المجتمع المدني، الجماعات الدينية، المنظمات النسائية، الجامعات ومجموعات من أصحاب الاختصاص، من بين مجموعات أخرى أيضاً. هنا يأخذ تنافس الأفكار مجراه وهنا تنطوي التكنولوجيا الجديدة على إمكانيات تمكين الشعوب.

ينبغي أن يكون الهدف في إشراك الشعوب العربية ثنائياً. الأول، ينبغي للولايات المتحدة السعي إلى تأسيس علاقات مع وسطاء السلطة الطالعين. ثانياً، ينبغي للولايات المتحدة أن تنقل رسالة مفادها أنها ستدعم الدعوات للإصلاحات السياسية، الاقتصادية والأمنية التي تلبي حاجات وطموحات الشعوب العربية، في الوقت الذي تعزز فيه هذا الهدف في المشاورات الخاصة مع مسؤولي الأنظمة.

لقد سبق وأن بدأت التحولات الهامة تجاه هذا الإشراك المجتمعي الأوسع منذ بدايات الربيع العربي، وقبله حتى في بعض الجوانب. لقد كان الشرق الأوسط بؤرة تركيز هامة لـ " فن الحكم في القرن 21" المشدد عليها في " مراجعة الديبلوماسية والتنمية" التي تصدر عن وزارة الخارجية الأميركية كل أربع سنوات والتي بانت في الالتزام العالي المستوى بقضايا المرأة، الشباب في العالم، المجتمع المدني والديمقراطيات الطالعة، والشراكات العالمية. ينبغي لهذه الجهود المبذولة لإشراك الشعوب إضافة إلى جهود أخرى، بما فيها مقابلات مع محطات تلفزيونية كبرى واجتماعات على نسق اجتماعات دار البلدية، أن تدمج لتكون ضمن الواجبات والمسؤوليات الطبيعية للسفارات والقنصليات. إذ ينبغي للسفراء في مصر والأردن، على سبيل المثال، لعتبار أنفسهم مبعوثين ليس فقط لحكوماتهم وإنما للناس في الشارع. يجب أن يصغوا ويغذوا الرؤى التي يجمعونها ويضموها إلى السياسة الأميركية بحسب ما يروا ذلك مناسباً.
يتم استخدام وسائل الإعلام الاجتماعي و الـ " e-diplomacy" ( الاعلام الالكتروني) بشكل مكثف أكثر من قبل وزارة الخارجية الأميركية إضافة إلى " الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" ( USAID)، البنتاغون وقنوات رسمية أميركية أخرى. وتجدر الإشارة بوجه خاص إلى الكيفية التي كان السفير الأميركي في سوريا قادراً على الحوار مع سوريين والرد على اتهامات الموالين للنظام السوري من خلال صفحة فايسبوك ناشطة حافظ على وجودها برغم إغلاق السفارة الأميركية في دمشق.

كما جلبت الوزيرة كلينتون هيبتها وكفاءاتها إلى اجتماعات مجالس المدينة، توعية المجتمع الأهلي، مبادرات المرأة وجهود أخرى للحوار مع الشعوب العربية وإشراكها. وفي حين أن هذه الجهود نادراً ما تحل الخلافات والتباينات السياسية وتلقى في بعض الأوقات انتقادات قوية للسياسة الأميركية، فإنها تنقل رسالة التزام بإشراك الشعوب العربية. وينبغي للوزير المقبل البناء على مبادرات من هذا النوع، التكيف والابتكار بحسب ما هو مناسب.
ينبغي للولايات المتحدة أن تكون واقعية بخصوص المدى الذي يمكنها فيه، كحكومة، إشراك الشعوب العربية نظراً لاشتمال الموضوع على طيف واسع من الفاعلين، نظراً لوتيرة وتعقيدات الإعلام الاجتماعي وشبكات الاتصالات المنتشرة وإرث الشك العام العربي بالدوافع الأميركية في الشرق الأوسط. لكن من خلال الشراكات العامة - الخاصة والانخراط المباشر الموجود بين جهات فاعلة خاصة ينبغي للولايات المتحدة أن تشجع الجامعات الأميركية ورجال الأعمال الأميركيين على تأسيس مراكز وفروع مكاتب للانخراط مع الشعوب والمشاركة في المشاريع وقطاع الأعمال في الشرق الأوسط. إذ غالباً ما يعتبر هؤلاء هكذا مبادرات بأنها تصب في مصلحتهم العليا الخاصة. وقد سبق لجامعات أميركية، بحوافز تمويل سخية، أن أسست حرماً جامعياً فضائياً وبرامج تبادل مع دول الخليج الفارسي منذ التسعينات.

ومهما يكن من أمر التقنيات، فإن قيمة الشراكة العامة تعتمد على تدفق التواصل بالاتجاهين ـ وليس فقط بعث الرسالة الأميركية وإنما، بالواقع وبشكل خاص، تناول ما تفكر فيه الشعوب العربية وتتصوره ومعرفة ماهية طموحاته. قد يكون هذا العنصر هو الأصعب لكنه الأكثر حسماً وحساسية للتغيير في المقاربة الأميركية: فهم ذهنية الشعوب العربية لتكون السياسة الأميركية على علم أفضل بما يجري ويكون هناك تواصل بما يتعلق بالأهداف الأميركية في المستقبل. إنها مقاربة لن تجعل الجهود الأميركية أكثر فاعلية فحسب وإنما ستنقل رسالة مفادها مستوى من الاحترام لشعوب مفوضة الصلاحيات حديثاً.


مواصلة استراتيجية متمايزة تجاه الإسلام السياسي
بينما تنخرط الولايات المتحدة مع الشعوب العربية على نطاق أوسع، عليها أن تكيف سياساتها لمواصلة مقاربة أكثر تمايزاً تجاه الإسلام السياسي. فالإسلام السياسي لا هو بالغير متوافق بطبيعته مع الديمقراطية ولا هو معاد أتوماتيكياً للولايات المتحدة. فمظاهر الإسلام السياسي تختلف من دولة إلى دولة ضمن المنطقة، وينبغي للولايات المتحدة أن تكون حساسة تجاه الفروقات الوطنية بما يتعلق بالأهداف، الاستراتيجيات، الرؤى وقيادة الأحزاب والحركات الإسلامية السياسية التابعة لتلك البلدان. هناك حاجة لتفصيل السياسات كي تعارض الأفراد والجماعات المعادية للقيم الأميركية الذين يهددون المصالح الأميركية، في الوقت الذي تظل فيه منفتحة على الأفراد والجماعات الذين قد يكون الانسجام والتعاون معهم ممكناً برغم الاختلافات الموجودة. وفيما عدا تصدي مجموعة إسلامية بمعارضة صريحة وغير مرنة لمصالح أميركية حيوية في المنطقة ـ كما يفعل حزب الله بما يتعلق بالأمن الإسرائيلي على سبيل المثال ـ فإنه ينبغي للولايات المتحدة أن تكون مستعدة للانخراط والحوار ديبلوماسياً من دون شروط مسبقة. وفي كل من تونس ومصر، قد يساعد حتى العمل مع أحزاب معتدلة تلك الأحزاب على تهميش منافسيهم السياسيين السلفيين الأكثر تطرفاً.
ينبغي أن يكون الهدف التأثير في سلوك الجماعات الإسلامية أكثر منه رفض دور الفاعلين الإسلاميين السياسيين تماماً. إن القدرة الأميركية على التأثير وسط ديناميكيات سياسية أوسع وأعمق محدود بطبيعته، كما أن محاولة استبدال حركات سياسية مشروعة لن يؤدي سوى إلى الحد من التأثير أكثر. فبعض القوى، كالجماعات السلفية الطالعة، قد تدفع باتجاه الأصولية. إلا أن الضغط لإنتاج مكاسب اجتماعية- اقتصادية والحفاظ على ائتلاف واسع، بما في ذلك أجيالهم الشابة، يمكن أن يقدم قوى معتدلة بإمكان السياسة الأميركية تعزيزها. هذا الأمر يصف بدقة الوضع في تونس، على سبيل المثال. ينبغي للولايات المتحدة، مع ذلك، أن تدعم بقوة وهدوء حكومة حزب النهضة في جهودها لمكافحة السلفيين حول قضايا كحجم وامتداد" قانون الشريعة الاسلامية". هذه السياسة، رغم أن ليس كل العلمانيين يوافقون عليها، لديها فرص قابلة للتطبيق لجهة تحقيق توازن بين التفضيل الأميركي الطبيعي لليبرالية والوقائع السياسية على الأرض.
سيكون على الولايات المتحدة، في فتحها لحوار مع أحزاب إسلامية سياسية، أن تحكم على أعمال الأحزاب في مقابل خطابهم ( تحديداً بما يتعلق بالإصلاح السياسي والاقتصادي و إسرائيل). سيكون على الولايات المتحدة أيضاً أن تحدد إلى أي مدى ينبغي أخذ كلام الأحزاب بجدية ـ أو إلى أي حد يمكن للولايات المتحدة تحمل التساهل مع خطاب كهذا من دون تعليق أو القيام برد محدود فقط. وفي المدى القصير، فإن الشراكة مع هذه الأحزاب تنطوي على مخاطر فتح تصدعات في العلاقات الأميركية مع إسرائيل، إضافة إلى مقاومة أنظمة عربية حالية للإصلاح أو التخوف من بروز هذه الأحزاب، بما أن عدداً من هذه الأحزاب يفضل عدم اعتراف الولايات المتحدة بالخصوم الديمقراطيين للنظام الراسخ. في كل الأحوال، الإسلام السياسي واقع في المشهد السياسي العربي ويتطلب من الولايات المتحدة معالجة هذا الخطر إذا ما كانت تريد بناء علاقات مع وسطاء السلطة الطالعين وتأمين مصالحها في المنطقة على المدى الطويل.
أما في حالة مصر، فينبغي للولايات المتحدة أن تكون منفتحة على العمل مع الإخوان المسلمين وذراعهم السياسية، حزب الحرية والعدالة، إلى الحد الذي تظل فيها أعمالهم ( الإخوان المسلمين) منسجمة مع عملية سياسية حرة ونزيهة، وألا تكون سياسة الإخوان في السلطة قمعية بشدة وأن تكون إدارتهم للسلطة ملتزمة باتفاقية كامب ديفيد. إن جهود الشراكة الأخيرة مع الإخوان المسلمين في واشنطن والقاهرة هي خطوات بالاتجاه الصحيح. وفي حين أن رفع قضايا كالمصالح والقيم الأميركية يعتبر أمراً مبرراً، وكونها واضحة بالتحديد حول خطوط حمر تتخطى ما ستغيره السياسة الأميركية، فإنه ينبغي للجهود المبذولة مع الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة أن تستمر لتطوير تفاهم وثقة أكبر إضافة إلى معالجة قضايا محددة. أما الصعوبات التي تضرب هذا التوازن فواضحة وجلية أساساً. ويرسل الإخوان المسلمون رسائل مختلطة، كما في بند برنامج حزب الحرية والعدالة حول " الحاجة لمواجهة الكيان الصهيوني العدواني والتوسعي" من جهة والتطمينات الصادرة عن قادة الإخوان المسلمين / حزب الحرية والعدالة بأنه سيتم احترام كل المعاهدات الموجودة. وتعارض بعض الجهات السياسية الفاعلة هكذا تواصل وفي بعض الأحيان ترفض الفكرة نفسها حول استراتيجية متمايزة. إن جعل هذه العلاقة تعمل وتنجح سوف يستلزم ديبلوماسية ماهرة وإرادة سياسية من الجانبين الأميركي والمصر للحفاظ على رؤية حول العلاقة الشاملة وتجنب ردود الفعل المبالغ بها إزاء كل حادث من الحوادث وإزاء دوامة الأخبار.

أولوية الإصلاح السياسي
ينبغي للولايات المتحدة أن تضع الإصلاح السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط كأولوية عالية ليس فقط لأن هكذا إصلاح ينسجم مع القيم الأميركية وإنما لأن الإصلاح سيعزز المصالح الاستراتيجية الأميركية أيضاً. واليوم، الولايات المتحدة مهتمة بالاستقرار في الشرق الأوسط كما لم تكن من قبل. في كل الأحوال، إن السبيل لاستقرار " طويل الأمد" هو الانكباب على معالجة الشكاوى السياسية والاقتصادية في المنطقة. لا يمكن للولايات المتحدة أن تتحمل بعد الآن، كأولوية، وضع المكاسب القصيرة الأمد المتراكمة بسبب الاعتماد على أنظمة تتعاون حول القضايا الأمنية إنما مترددة بالإصلاح. وكما رأينا خلال الربيع العربي، يمكن لأنظمة أتوقراطية غير محاسبة واقتصادات دولتية أن تكون غير مستقرة في الأساس. وإن أشهر مثالين على ذلك، تونس ومصر، يسلطان الضوء على نتائج رفض القادة القيام بالإصلاح.
سيكون على الولايات المتحدة تحمل بعض المخاطر في الأمد القصير في علاقاتها مع أنظمة إقليمية لتحقيق هذا الهدف. وقد أوضحت أنظمة إقليمية بأنها مترددة بتبني إصلاحات سياسية أساسية ـ ولديها وسيلتها التي تمارسها في مكافحة النفوذ ( الحقوق الأميركية الأساسية هي المثال الأبرز). في كل الأحوال، وبينما تضع الولايات المتحدة مسألة الإصلاح كأولوية لها على نحو متزايد، فإنها قد تعزز نفوذها وتأثيرها في أوساط الشعوب العربية عن طريق محاربة المفهوم والنظرة لها بأنها تضع العلاقات الأمنية التقليدية كأولوية إلى درجة أنها لن تتصرف أو تتكلم ضد القمع المحلي الحاصل. وبالقدر الذي لا تقوم به هذه الأنظمة بالإصلاح، بقدر ما يكون دوي التعرض الأميركي لتأثيرات سلبية من الدرجة الثانية من سياسات معادية للنظام مخفضاً. إضافة لذلك، سيكون هناك مصداقية أكبر للمزاعم الأميركية، إقليمياً وعالمياً، بأنها قوة لأجل الديمقراطية.
رغم أن الولايات المتحدة قد لا تحب دوماً نتائج الانتخابات الديمقراطية، فإن عليها دعم العمليات السياسية التي لها شرعية داخلية حقيقية في نظر شعوبها. ينبغي للولايات المتحدة أن تحكم على الانتخابات بناء على ما إذا كانت عادلة ونزيهة ـ وليس الحكم على من يفوز. قد تمثل مصر الاختبار الوشيك جداً لهذا الأمر. ومهما كانت النتيجة، ينبغي للولايات المتحدة أن تصر على عودة المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى ثكناته وأن تتم مأسسة الحكم المدني.
ينبغي أن تكون العلاقات الأمنية الثنائية مشروطة بالإصلاح السياسي. إذ ينبغي لبرامج إصلاح القطاع الأمني الاستمرار بغرس دروس الاحترام للسلطة المدنية وحقوق الإنسان في الجيوش الشريكة التي تتلقى التدريبات من قبل الولايات المتحدة. فبرامج التعليم والتدريب العسكري الدولية لاقت نجاحاً في المساعدة على التحديث والمناقبية المهنية العسكرية. ولدى العديد من كبار المسؤولين في وزارة الخارجية، البنتاغون، جماعة الاستخبارات والبيت الأبيض علاقات قوية مع نظرائهم العرب والتي بالإمكان استخدامها للضغط لأجل الإصلاح.
قد تدعي بعض الأنظمة الإقليمية ـ تحديداً تلك التي لديها عدد ضخم من الشيعة ـ بأن اليد الحاقدة الإيرانية هي التي تقف وراء حالات الاضطرابات المحلية لتحاشي الضغط للإصلاح.
ينبغي للولايات المتحدة أن تكون سريعة للغاية في التحقق من مزاعم النشاط التخريبي الإيراني، تحديداً من أولئك الذين تم تطويعهم من قبل أنظمة إقليمية تخنق جماعات المعارضة السياسية الشيعية. وعن طريق لعب " الورقة الإيرانية"، قد تكون هذه الأنظمة تحاول تشجيع واشنطن على صرف النظر عما يمكن أن يكون أصوات معارضة مشروعة. ينبغي استخلاص الدروس من مصادر متعددة ومستقلة ـ رسمية وغير رسمية، أميركية ومن مصادر موثوقة غير أميركية- في تقييم مدى التدخل الإيراني.

دعم الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي
تشكل الضغوط الاجتماعية والاقتصادية تحديات هائلة في المنطقة. هناك عدد من المشاكل السياسية المناقشة سابقاً سوف تتلاشى وتضمحل أهميتها إذا ما انهار الاقتصاد المصري ـ احتمال متميز يحمل عواقب هامة وبارزة. وليس هناك من سياسة اقتصادية محتملة النجاح في مصر إلا إذا كان هناك استقرار سياسي كاف بالنسبة للمستثمرين كي يخاطروا برؤوس أموالهم وللسائحين كي يبدؤوا زياراتهم للبلد مجدداً. وقد أوضح صندوق النقد الدولي هذا الأمر بربطه، صراحة، حزمة المساعدات المالية المقدرة بـ 3.2 مليار دولار باعتبارات الاستقرار السياسي.
أما في الجانب المشرق للموضوع، وبعد عام 2011 القاتم، فهو أن تونس تمثل دليلاً على التقدم الاقتصادي النابع من وضع الاستقرار السياسي المتحسن ـ مع تزايد نسبة السياحة والإنتاج الصناعي برغم المشاكل الاقتصادية المستمرة.
إذا ما كان بإمكان مصر التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لدعم الجنيه المصري في الحالات الطارئة، فإنه ينبغي على الولايات المتحدة تقديم عرض لتخفيف أعباء الديون بالتنسيق مع المدينين الرئيسيين الآخرين. هذا الأمر يمكن القيام به كما يقترح جون ويليامسون ومحسن خان من " معهد باترسون للاقتصادات الدولية" ـ إما من خلال " نادي باريس" أو بشكل غير رسمي أكثر من خلال " أصدقاء مصر". فمن أصل 21 مليار دولار من التعهدات حتى الآن، هناك 2 مليار دولار فقط من الولايات المتحدة. فالتعهدات الكبرى هي 4 مليار دولار من السعودية، 4.5 مليار دولار من البنك الدولي و 10 مليار دولار من قطر. وفي حين أن لكل من هذه البلدان قضاياها الثنائية مع مصر، فإن لكل منها أيضاً، كالولايات المتحدة، مصلحة في وجود مصر أكثر استقراراً.
عموماً، الولايات المتحدة بحاجة لدعم الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي عبر المنطقة بطرق تكون مماثلة " للمحور الذي يتطلع اليه الشعب " الذي تم مناقشته في وقت سابق. إن برنامج USAID على سبيل المثال، ينبغي أن يضع في سلم أولوياته الزراعة، الصحة والتعليم، كمجالات يمكن أن تصل فوائدها للناس بشكل مباشر أكثر من غيرها من البرامج. ينبغي للاستثمارات، بما في ذلك الاستثمارات من خلال "شركاء وزارة الخارجية لبداية جديدة"، " شراكة شمال أفريقيا للفرصة الاقتصادية وتعاون الاستثمارات الخاصة عبر البحار"، أن تستهدف تخفيض البطالة البنيوية. إن ملايين الشباب العرب الداخلين إلى سوق العمل من دون وظائف وصفة لعدم الاستقرار السياسي.
برغم تفضيلها الخاص للنيوليبرالية، ينبغي للولايات المتحدة أن تكون جاهزة لدعم استراتيجيات اقتصادية وطنية لا هي بالسوق الحرة بالكامل ولا هي بالدولتية بالكامل أيضاً. ففي توصيف ناثان براون للمبادئ التوجيهية للاستراتيجية الاقتصادية لـ MB ينبغي للولايات المتحدة أن تعثر على الكثير لتعمل عليه: " أولاً، إنها تسعى لحماية حقوق الملكية واقتصاد السوق؛ ثانياً، انها تشعر بأن الدولة لديها التزام قوي لجهة رعاية مواطنيها الأضعف حالاً." هذا برنامج ينبغي للولايات المتحدة أن تكون قادرة على دعمه من حيث المبدأ.

التوجه الاستراتيجي للعراق
إن التوجه الاستراتيجي للعراق ـ بما في ذلك ما إذا كان سيصطف مع إيران، دول الخليج الفارسي، الولايات المتحدة، أم أنه لن ينحاز إلى أي من هذه الدول ـ هو ما سيشكل مستقبل الشرق الأوسط. ينبغي على واشنطن الاستمرار بالضغط على بغداد لتبني الإصلاحات السياسية، الاقتصادية، والأمنية لأنها من مصلحة استقرار العراق ما بعد الحرب. فحتى بعد الجيش القتالي الأميركي من العراق، فإن لدى الولايات المتحدة فرصة للمساعدة في توجيه هذا التحول والانتقال. في نفس الوقت، ينبغي للولايات المتحدة أن تدرك بأن القادة العراقيين سوف يسعون لتوازن في علاقات بلدهم مع الولايات المتحدة، إيران ولاعبين إقليميين آخرين. وبالاحتفاظ بهذه الرؤية، ينبغي للولايات المتحدة استخدام علاقاتها الهامة مع كل الأفرقاء في العراق للتصرف كداعِ لعقد اجتماعات، مسهل للأمور، وراع نزيه، ما يوصل، وبوضوح، إلى أن الشراكة الأميركية الطويلة الأمد مع العراق مستدامة فقط في حال أظهر القادة العراقيون التزاماً بتسوية سياسية وصنع تقدم باتجاه إصلاح مؤسساتي سياسي، اقتصادي وأمني. وإذا كان العراق قادراً على تجاوز إغراء الانزلاق مرة أخرى في الحكم الأتوقراطي والحكم المذهبي الشديد المحتمل، فإن بإمكانه البروز كقائد ومؤيد للإصلاح في المنطقة.

الاعتماد المخفض على الخليج الفارسي

على المدى الطويل، قد يصبح الخليج الفارسي أقل أهمية بالنسبة للولايات المتحدة. إذ سرعان ما ستكون حاجة الولايات المتحدة للهايدروكربون من المنطقة أقل بكثير من حاجة القوى الطالعة كالهند والصين، وبإمكان الولايات المتحدة تخفيض اعتمادها أكثر بزيادة قدرتها على إنتاج طاقة غير بترولية. في كل الأحوال، وحتى في حال الاستقرار الإقليمي، فإن الطلب العالمي المرتفع على الطاقة يمكن أن ينتهي في زيادات في أسعار النفط، الأمر الذي سيؤثر على الاقتصاد الأميركي.
إن استقلال الطاقة أمر غير ممكن في عالم مترابط. إلا أن التقليل من نقطة ضعف الطاقة بزيادة القدرة المحلية من خلال خليط من إنتاج الهايدروكاربون وموارد الطاقة المتجددة وتخفيض الطلب المحلي من خلال الحفظ والصيانة والكفاءة أمر ممكن. هذه أخبار جيدة بما يتعلق بالمصالح الأمنية القومية الأميركية لأن من الأفضل التأكيد على قدرة الولايات المتحدة على المواصلة في حال حدوث صراع أو أزمة عالمية أخرى.
وللاستثمار في إمكانية الاعتماد، في الأمد الطويل، بشكل أقل على الخليج الفارسي، ينبغي للولايات المتحدة التسريع بعملية الانتقال من كونها " المزود" الأمني للمنطقة إلى كونها " المعزز" الأمني، وذلك بالعمل بواسطة، مع ومن خلال، جيوش إقليمية لمساعدتها على توفير الأمن لدولها. هذا الأمر قد يمثل فرصتين للولايات المتحدة في المنطقة في المدى الطويل. أولاً، ينبغي على الولايات المتحدة تكييف وضع قوتها وعلاقاتها في الخليج، مقللة بذلك من الاعتماد الأميركي على أنظمة الخليج للحصول على نقطة ارتكاز لإمكانية الوصول للنفط. ذلك يقود إلى الفرصة الثانية: فبينما تعمل الولايات المتحدة على تكييف وجودها في الخليج، سيكون لا يزال لديها مقدار ما من النفوذ ويجب عليها الضغط، وبشكل متزايد، على الشركاء الخليجيين لتبني إصلاحات سياسية واقتصادية. فالولايات المتحدة وشركائها الخليجيين سيستمرون بتقاسم المصالح المشتركة في ضمان وصول البترول إلى الأسواق العالمية، مكافحة الجماعات الإرهابية وكبح طموحات إيران الخبيثة. هذه المصالح المشتركة وحدها ستضمن وجود تعاون دفاعي واستخباراتي وثيق في المدى الطويل.

تكييف وضع القوة والعلاقات الأمنية في الخليج
ينبغي للولايات المتحدة أن تكيف وجود قوتها في الخليج الفارسي. إن عديد القوات الأميركية في الخليج في انحدار أساساً مع انتهاء العمليات القتالية في العراق ومع الانسحاب الوشيك من أفغانستان، كما كان كبار المسؤولين الأميركيين قد أشاروا أساساً إلى نيتهم بتجنب ارتباطات مطولة في المنطقة. في هذا السياق، إن أي انسحاب متهور للقوات الأميركية من الشرق الأوسط، ما عدا خطط الانسحاب المتوقعة من أفغانستان، ستنبه، على الأرجح، القادة الإقليميين للوضع وتزعجهم. رغم ذلك، وبعد العام 2014، وعندما تكون الولايات المتحدة وحلفائها قد انسحبوا من أفغانستان، ينبغي على الولايات المتحدة تخفيض قواتها في الشرق الأوسط تدريجياً، في الوقت الذي تحافظ فيه على قدرة تدف

موقع الخدمات البحثية