أوراق إستراتيجية » حملة أفكار استراتيجية لمكافحة التحديات الإيديولوجية للأمن القومي الأميركي

دوغلاس ج. فيث ( زميل كبير ومدير، مركز دراسات الأمن القومي، معهد هادسون)
وليام أ. غالستون ( رئيس Ezra k. Zilkha وزميل كبير، دراسات الحكم، معهد بروكينغز)
أبرام ن. شولسكي ( زميل كبير، معهد هادسون)
Hdson Institte ( ورقة موجزة / الشؤون الأمنية والخارجية)

الحلقة الثانية:

الاستنتاج والخطوات التالية
إذا كانت الولايات المتحدة تريد مكافحة الإيديولوجية العدائية للإسلامويةالمتطرفة، فإنها بحاجة لأن تكون قادرة على شن حملة أفكار استراتيجية. أما في الوقت الحاضر، فإن الحكومة الأميركية ليست منظمة بشكل صحيح ومناسب لهذه المهمة. فليس هناك من مسؤول أو وكالة تتحمل مسؤولية توجيه أو القيام بمجهود استراتيجي لمكافحة التطرف الإسلامي وابتكار طرق لتشجيع أنشطة المنظمات والمؤسسات الخاصة والتأثير عليها؛ وليس هناك فهماً مشتركاً لما ينبغي أن يتشكل منه مجهود من هذا النوع.
وفي حين أن الخطوات التي حددناها لا تعتبر مثالية، فإن بحثنا ومشاوراتنا جعلونا نقتنع بأنها ستمثل تحسناً بارزاً وهاماً يفوق الترتيبات الحالية الموجودة. أما السؤال التالي الأساسي فهو ما إذا كانت الإرادة السياسية موجودة – أو يمكن إحداثها- للتحرك بهذا الاتجاه.
في الوقت الحاضر، ينبغي الإجابة على هذا السؤال سلباً. لكن يمكننا تصور حدثيْن، أي منهما لا يعتبر حدثاً بعيد الاحتمال، لكن يمكنهما تحويل الرأي العام باتجاه العمل. الحدث الأول، يمكن لاستمرار النزاع في بلدان كالصومال أن يوفر فرصاً للإسلاميين المتطرفين لتكثيف نشاطاتهم ونشرها في بلدان أخرى. ( توفر أفريقيا ، تحديداً، أرضاً خصبة لهم ). وإذا ما انتشرت الإسلاموية الراديكالية في أفريقيا، فستبحث الولايات المتحدة عن طرق للرد غير الوسائل العسكرية أو المالية، وقد ينظر إلى مكافحة الهجوم الإيديولوجي على أنها مجموعة خيارات.
ثانياً، وفي حين أن استمرار الاضطرابات في مصر أمر واضح، فإن نتائج الربيع العربي لا تزال موضع شك. فعدم الاستقرار على امتداد الشرق الأوسط والمغرب العربي يرفع احتمالات الظروف التي يمكن للإسلاميين المتطرفين أن يزدهروا فيها، ما يبدد الآمال بديمقراطية لا تزال طرية العود. وفي أسوأ الأحوال، يمكن للمتطرفين أن يمدوا تأثيرهم ونفوذهم ليتجاوزوا بذلك موطئ قدمهم في غزة وجنوب لبنان، ويهددوا أمن الولايات المتحدة وحلفائها. إن أحداثاً كهذه يمكن أن تقنع المشرعين والمسؤولين الأميركيين بالأهمية الملحة المتعلقة ببذل جهود أميركية جدية لمحاربة الإسلاموية المتطرفة في المجال العقائدي.
لا يمكننا أن نتكهن متى تنضج الظروف داخل الحكومة الأميركية والنظام السياسي لإنشاء مؤسسة جديدة مسؤولة عن مكافحة الإيديولوجيات العدائية. نأمل بأن يقدم هذا التقرير حجة واضحة وطريقاً إلى الأمام لتغيير بنيوي وعقائدي نحن على قناعة بأن بلدنا بحاجة له.

الفهرس: حملات الأفكار والنظرية الديمقراطية الليبرالية
نشأت بعض قضايا النظرية الديمقراطية بسبب مناقشةفكرة " حملة أفكار" بمزيد من التفصيل في مسودة بيان العقيدة المرافق للتقرير. ففي مناقشات حملات الأفكار، هناك ثلاث هواجس على الأقل تميل للظهور وتعكس عدم الارتياح لتنفيذ مجهود من هذا النوع. من الصعب التقييم ما إذا كانت هذه الهواجس لديها تأثير الإعاقة العملية لجهود الحكومة الأميركية بمحاربة الإيديولوجيات المعادية. مع ذلك، فإن واضعي التقرير، وكلهم ممن خدم في الحكومة، قد صادفوا هذه التحفظات في مسار المناقشات المشتركة بين الوكالات. وهذه الهواجس هي :

لا ينبغي للحكومة الأميركية أن تعمل في مجال توجيه الحملات الإيديولوجية على شعبها، لذا عليها أن تمنع الحملات الموجهة للأجانب من التأثير على الرأي العام الأميركي المحلي. ( يشار لهذا الأمر أحياناً بمشكلة " النكسة").

يجب على الحكومة الأميركية البقاء خارج الجدل الديني. ( هذا يمكن تسميته مشكلة " الفصل بين الدين والدولة")
رغم أن الواجب يلزم بالحفاظ على " سوق الأفكار" وحمايته، فإنه لا ينبغي على الحكومة الأميركية العمل كممون ومزود للأفكار في ذلك السوق. ( هذا يمكن تسميته مشكلة " حرية التعبير").

" النكسة"
كانت النظرة التقليدية هي وجوب أن تكون الجهود الإعلامية للحكومة الأميركية موجهة للخارج. ومهما كانت " البروباغاندا" مناسبة عند توجيهها نحو شعوب أجنبية، فإنها غير مقبولة محلياً.
كانت وجهة النظر هذه منسقة ومنظمة في نظام أساسي، بدءاً بـ " قانون Smith-Mndt عام 1948) و المعزز بـ "التعديل القانوني Zorinsky عام 1985"؛ صفقات تشريعية أخيرة بجهود من قبل وزارة الدفاع. ومن المفهوم أن الكونغرس كان يريد إبقاء الحكومة الأميركية خارج مشروع محاولة إقناع الأميركيين بما يفكرون.
في كل الأحوال، إن عزل الجماهير المحلية عن محاولات التأثير على الرأي العام الأجنبي أمر مستحيل عندما تكون النشاطات الإعلامية منفذة على الإنترنت. ونظراً لأهمية هذا الوسط للإسلاموية المتطرفة، فليس هناك من مجال للجهود الإيديولوجية للحكومة الأميركية كي تتجاهله. وبشكل مشابه،يعتبر التلفزيون أكثر عولمة الآن مما كان عليه في العقود الماضية. وسيكون المكان الرئيس لمناقشة القضايا ذات الصلة بالتطرف الإسلامي قنوات ناطقة باللغة العربية كالجزيرة والعربية. وتلك القنوات متوفرة في العالم،وفي أية حال، غالباً ما تذكر وسائل إعلامية ما تقوله هاتان المحطتان. مجدداً، لن يكون هناك من طريقة لعزل الجماهير الأميركية.
إذن، وفي نهاية المطاف، ينبغي أن تكون قضية جعل الحكومة الأميركية منخرطة في حرب إيديولوجية قوية كفاية بحيث يتقبل الأميركيون احتمال أن تكون لنشاطات من هذا النوع تأثير في الداخل كما في الخارج.

انخراط الحكومة في القضايا الدينية
إن السؤال الأكثر جوهرية حتى هو المتعلق بانخراط الحكومة في الجدل الديني. إن مبدأ الحفاظ على الفصل بين الدين والدولة متأصل بعمق؛ إن عدداً من المسؤولين ليسوا مرتاحين مع فكرة إشراك الحكومة الأميركية نفسها في القضايا الدينية.
في هذا الصدد، من المهمالإشارة إلى أنه ينبغي النظر إلى التطرف الإسلامي على أنه أكثر من مجرد مدرسة فكر ديني وببساطة. إنه إيديولوجية وبرنامج سياسي شامل – ما يعني، برنامج يهدف إلى إعادة إنشاء المجتمع من أساسه. فالتطرف الإسلامي مبني على أفكار صدرت وفرضت قسراً من قبل طلائع المتطرفين الذين يفهمون الأفكار أكثر من الناس عموماً وهذا يعتبر أكثر التزاماً بها. وبهذه الطريقة، يماثل التطرف الإسلامي الإيديولوجيات التوليتارية في القرن العشرين. فشعاره –"الإسلام هو الحل"- يعني بأن الإسلام لا يشكل فقط الإجابة لكفاح الفرد للحصول على معنى لحياته، بل يعني الإجابة على مشاكل المجتمع السياسية، الاقتصادية والاجتماعية.
وفي أوساط المسلمين، يتركز الجدل حول الإسلاموية المتطرفة على ما إذا كانت في الواقع التفسير الصحيح للإسلام بالضرورة. وبرغم الأسباب المتعلقة بالفعالية والمصداقية، إلا أن بإمكان المسؤولين الأميركيين التدخل في جدل كهذا لكن بشكل غير مباشر فقط، والنتيجة ستكون أكبر مصلحة للولايات المتحدة. أما إذا كانت الحكومة الأميركية هي التي ستدير حملة الأفكار الاستراتيجية فعلى المسؤولين الأميركيين أن يتقبلوا مسألة هي أن معارضة إيديولوجية الإسلاموية لا تعني معارضة دين الإسلام.

مشاركة الحكومة في " سوق الأفكار" الإيديولوجي
إن الوضع الصحيح والمناسب للحكومة الأميركية بما يتعلق بالمسائل الدينية جزء من السؤال الواسع حول علاقة الحكومة بالمعتقدات الفلسفية عموماً. وإحدى وجهات النظر هنا هي وجوب محافظة الولايات المتحدة على " سوق الأفكار" وحمايته، لكن من دون الدخول إلى السوق كمشاركة فيه. بالأحرى، وكما كتب جاستس أوليفر ويندل هولمز في كتابه المعارض " Gitlow v. New York"، " إذا ما كان مقدَّراً في المدى الطويل تقبل المعتقدات المعبَّر عنها في الدكتاتورية البروليتارية من قبل القوى المهيمنة في المجتمع، فإن المعنى الوحيد لحرية التعبير سيكون وجوب إعطائهم الفرصة وسلوك طريقهم".
أما مضمون كلام هولمز فهو أنه، ولمصلحة حرية التعبير، أو الحرية عموماً ربما، ينبغي للحكومة البقاء خارج المجال الإيديولوجي، للسماح لكل المعتقدات – تلك المتطابقة مع الديمقراطية الليبرالية وتلك المؤيدة للديكتاتورية أو البدائل الأخرى للديمقراطية الليبرالي – بالتنافس على مستوى اللعب في الميدان ضمن " سوق الأفكار".
بظل الظروف العادية، لموقف هولمز مزايا واضحة. إذ ينبغي على حكومة ديمقراطية ليبرالية، كقاعدة، أن تتقبل خوض المعارك الفلسفية على أفضل وجه من دون انخراط الحكومة بها. وصرّح توماس جفرسون معبراً الرؤية الأميركية المتفائلة بجوهرها عندما كتب في Notes on Verginia يقول، " الخطأ وحده يحتاج إلى دعم الحكومة. أما الحقيقة فتصمد لوحدها". إلا أن قناعة جفرسون المليئة بالأمل قد لا تكون صحيحة دائماً. فهل يمكن لجفرسون أن يتصور بأنه كان من الممكن لدولة ديمقراطية ليبرالية كألمانيا Weimar، ذات سوق أفكار واسع ، مفتوح وحر جداً، أن تجلب هتلر إلى السلطة من خلال آليات ديمقراطية؟
السؤال بالنسبة لنا هو ما إذا كانت التهديدات الأمنية التي تشكلها الإسلاموية المتطرفة تتطلب من الحكومة نفسها التحرك والانتقال إلى ما هو أكثر من دورها الأساسي كحارس لسوق الأفكار لأميركا والدخول في السوق الإيديولوجي العالمي كمدافع موضوعي عن المبادئ الديمقراطية الليبرالية.
بهذا الخصوص، يعتبر خطاب رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ذي أهمية. ففي شباط 2011، وفي اجتماعات Wehrknde في ميونيخ، دعا كاميرون إلى " لبرلة قوية" تدافع عن المعتقدات الليبرالية:
نحن بحاجة إلى ما هو أقل بكثير من التسامح السلبي ( الإسلاموية المتطرفة) الموجود في السنوات الأخيرة وإلى لبرلة قوية أكثر نشاطاً وفاعلية بكثير. إن المجتمع المتساهل بطريقة سلبية يقول لمواطنيه، طالما أنكم تطيعون القانون فإننا سنترككم وشأنكم. إنه يقف محايداً بين قيم مختلفة. لكني أعتقد بأن البلد الليبرالي حقيقة يفعل أكثر من هذا بكثير؛ إنه يؤمن بقيم معينة ويروج لها بفعالية، كحرية التعبير، حرية العبادة، الديمقراطية، حكم القانون، الحقوق المتساوية بصرف النظر عن العرق، الجنس، أو الجنسية. فهو يقول لمواطنيه، هذا ما يحددنا كمجتمع: كي تكونوا منتمين له يعني أن تكونوا مؤمنين بهذه الأمور.
وفي حين أن التعددية الثقافية التي رفضها رئيس الوزراء كاميرون في هذا الخطاب هي أكثر تطرفاً من أي شيء مألوف ومعتاد في الولايات المتحدة، فإن مفهومه عن " اللبرلة القوية" ذات صلة بالنسبة لأية ديمقراطية ليبرالية. لا حاجة لحظر الخطاب اللا قانوني ( رغم أن هناك في بريطانيا، وأوروبا عموماً، جهوزية أكبر لحظر أنواع معينة من الخطاب من ذاك الموجود في الولايات المتحدة بسبب تاريخ من الاحترام الموجود لـ " القانون المعدَّّل الأول". فبالنسبة لأية ديمقراطية ليبرالية، يعتبر حظراً كهذا خطوة متطرفة. لكن ذلك ينبغي ألا يمنع الحكومات الديمقراطية الليبرالية من استخدام أساليب أخرى – وليس فرض عقوبات جنائية بالضرورة- لتعزيز وحماية المبادئ التي تقف عليها أنظمة هذه الحكومات.

العقيدة – مكافحة الإيديولوجيات العدائية
هذه الوثيقة يمكن أن تعمل كبيان عقائدي لمنظمة تحمل مهمة مكافحة الإيديولوجيات العدائية. (الإيديولوجية العدائية هي التي تحفز أفراداً أو جماعات على العمل بشكل معاد ضد الأمن القومي الأميركي). إن هدف الوثيقة هو تقديم مقترحات أكثر صلابة ومتانة والموجودة في التقرير المرافق حول مكافحة الإيديولوجيات العدائية.
إن القصد من هذا البيان العقائدي هو أن يكون مستقلاً عن البنية الدقيقة المحكمة للمؤسسة المعينة لتولي مهمة مكافحة الإيديولوجيات العدائية، بصرف النظر عما إذا كانت جزءاً من الحكومة الأميركية أو القطاع الخاص ( حتى لو كان ممولاً، إلى حد كبير، من قبل الحكومة الأميركية). بدلاً من ذلك إنه يتعامل مع قضايا ستواجهها أية مؤسسة، بصرف النظر عن الكيفية التي تتشكل منها بنيتها أو مكانها بيروقراطياً.
 يغطي البيان العقائدي مساحة كبيرة. إذ يقدم التقرير، من بين أمور أخرى، أسباباً جوهرية لوجود المؤسسة كما يقدم مراجعة تاريخية للإيديولوجية التي تسعى المؤسسة لمكافحتها، ويطور المقاربة الإستراتيجية لمهمة المؤسسة، ويوفر أمثلة عن الأنشطة التي قد تبدأ بها المؤسسة.
وفي حين قد يكون لدى المؤسسة تفويضاً عاماً، فإن وظيفتها الرئيسة، في هذا الوقت، ستكون مكافحة الإيديولوجية الإسلامية المتطرفة التي تحث وتحرض على الأعمال الإرهابية الموجهة ضد الولايات المتحدة وحلفائها وأصدقائها.

الاعتبار التمهيدي: تناول الإيديولوجية بجدية في سياق الأمن القومي
قبل أن نناقش الكيفية التي قد تنفذ بها حكومة جديدة أو مؤسسة ممولة حكومياً مهمتها في مكافحة الإيديولوجيات العدائية، من الضروري تبرير المهمة نفسها. ينبغي لتلك المؤسسة أن تظهر سبب أهمية الإيديولوجية في تحديد سلوك الأفراد، الجماعات، أو البلدان؛ وهي بحاجة لأن توضح السبب وجوب اهتمام الحكومة الأميركية بما يؤمن به الناس ( بمن فيهم المواطنين الأميركيين)، بصفتها معارضة لما يقومون به.

أهمية الإيديولوجية في سلوك وزارة الخارجية
عند التفكير بشأن الأمن القومي، نركز تقليدياً على التهديدات التي يمكن لدول أخرى أن تشكلها على أمننا ومصالحنا. وفي التحليل للتهديدات المحتملة، فإننا ننظر إلى نوايا الدول وقدراتها لتحديد ما إذا كان علينا العمل لمحاربتها أو التخفيف من حدتها. لسنا بحاجة للتعامل في هذه الورقة مع التساؤل المطروح حول تقييم قدرات دول أخرى – قواتها العسكرية بشكل رئيس، وإنما بحاجة للتعامل مع موقعها الجغرافي ونقاط قوتها وضعفها الاقتصادية والديبلوماسية. في أي حال، إن تقييم القدرات، عموماً، بسيط وصريح نوعاً ما.
إنها نوايا الدولة التي غالباً ما يكون من الصعب التأكد منها. بإمكان المرء أن يحاول تحديد النوايا عن طريق ما قد تتطلبه الدولة لحماية أمنها والدفع قدماً بمصالحها المادية. وقد يكون بالإمكان العثور علىتصريح واضح لهذه المقاربة تحديداً وذلك في " الاستخبارات الإستراتيجية للسياسة الخارجية الأميركية" لـ شيرمان كنت:
إذا كان لديك المعرفة بالمكانة الاستراتيجية لبلد ما ( مصطلح " كنت" للقدرات الكلية لبلد ما – العسكرية، السياسية، والاقتصادية – للعمل على المسرح الدولي)، فإن معرفة مواطن الضعف لدول أخرى هي طرف في الوضع، عندها أنت في طريق مقبول لتكون قادراً على التكهن " بمسار عملها المحتمل".
يتابع " كنت" فيقول بأن تحليل النوايا يكون أقوى عندما يأخذوا في حسابهم الكيفية التي يقيِّم قادة بلد ما مكانته، وكيفية تصرف البلد في الماضي.
تعكس رؤية " كنت" عقيدة "الواقعية"، التي تفترض بأن الدول تتصرف على أساس المصالح المادية وبأن التصريحات الإيديولوجية التي يدلون بهالتفسير أعمالهم ( على سبيل المثال، الدفاع أو تعزيز الاشتراكية أو الديمقراطية) هي مبررات ومسوغات ذات أثر رجعي. هذه المقاربة، التي تنطوي على وجوب تحديد الأعمال الأميركية كذلك بواسطة المصالح " الشديدة" بدلاَ من القيم أو الإيديولوجية، كانت مستحسنة، وهذا شائع الأمر، من قبل المختصين بالسياسة الخارجية، بمن فيهم أولئك الذي يشكلون فريق عمل الخدمات الخارجية التابع لوزارة الخارجية.
مع ذلك، وحتى في الفهم الواقعي، من المعترف به أن العوامل الإيديولوجية تلعب دوراً هاماً وبارزاً بظل بعض الظروف. على سبيل المثال، لقد استثنت النظرية الواقعية التقليدية، عادة، الدول " الثورية" التي تسمحللدوافع الإيديولوجية– على عكس مفاهيم ومبادئ الواقعية السياسية –بتجاوز مواصلة العمل وفق مصالحها المادية. ومما لا شك فيه أن النظرية الواقعية تصر على القول بأن الفصول " الثورية" من هذا النوع هي فصول عابرة ومؤقتة، وبأن هذه الدول تكيف نفسها، حتماً، مع النظام الدولي الموجود ووفقاً لذلك، فإنها تواصل العمل على مصالحها الوطنية بشكل تقليدي نوعاً ما.
في كل الأحوال،قد تدوم المرحلة " الثورية" عقوداً، كما هو الحال في الثورة الفرنسية وحقبة نابليون، وبالتالي يمكنها لعب دور رئيس في تحديد مسار الحياة السياسية الدولية لجيل كامل.
إضافة لذلك، يرى أحد المفكرين الواقعيين مثل " هانز موريغنثو" الإيديولوجية بمثابة رابط هام بين الحكومة ومواطنيها. فقد أشار، على سبيل المثال، إلى أن بروز مفهوم " الحرب الكاملة" كان يمكن أن يكون مستحيلاً لولا وجود الإيديولوجيات التي تعطي المواطن العادي رهاناً عاطفياً قوياً في الصراع، أمر لم يكن لدى المواطن العادي في حروب الأسر الحاكمة في القرن الثامن عشر.
... كانلا بد للحرب من أن تكون عادلة مع جانب وظالمة من جانب العدو لإثارة الحماسة الأخلاقية دعماً لقضية الأول وإثارة المشاعر العدائية ضد الثاني.
فضلاً عن ذلك، إن جاذبية الإيديولوجية ليست بحاجة لأن تكون محدودة بالدولة الثورية نفسها – وعادة لا تكون كذلك. بالأحرى، غالباً ما تكون دولة كهذه قادرة على اجتذاب أفراد في بلدان أخرى على أساس إيديولوجيتها وتلتمس الدعم لهم. قد تقوم الدولة الثورية بمجهود هام لنشر وتسهيل هذا النوع من الدعم،كما فعل الإتحاد السوفياتي، مثلاً، بوسيلة " الكومنترن" ( الشيوعية) في الثلاثينات.
هذا النوع من النشاط يمكن أن يكون مفيداً للدولة الثورية بطرق مختلفة: بإمكان الأتباع والمناصرين الخارجيين تقديم الدعم السياسي لأهداف الدولة الثورية؛ قد يكونوا مستعدين حتى للانخراط بالتجسس والخيانة لصالحها. وبالتالي، وحتى لو كان الإيمان بالثورة يتأرجح محلياً، فإن قادة الدولة الثورية قد يتطلعون إلى اجتذاب الأجانب على قاعدة كونها طريقة مفيدة لكسب الدعم في الخارج لمواصلة أهداف " الواقعية السياسية " للدولة.
وفقاً لذلك، قد يكون من الصعب فصل " الواقعية السياسية" عن الدوافع الإيديولوجية في السلوك الدولي لدولة ما. إن تحديد المدى الذي تعكسه دوافع عدو محتمل في الواقعية السياسية أو الاعتبارات الإيديولوجية تعتبر مهمة كبرى في صياغة سياسة دولة تجاه ذلك العدو، وغالباً ما يكون ذلك عرضة لجدل ساخن.

الإيديولوجية والجهات الفاعلة غير الحكومية
في التعامل مع جهات فاعلة غير حكومية، يكون دور الإيديولوجية أكثر حساسية حتى. فبينما يمكن لدولة فرض الضرائب والحصول على مجندين بوسائل التجنيد الإجباري، فإن مجموعة إرهابية كالقاعدة تعتمد على جاذبيتها الإيديولوجية لجهة قدرتها على تجنيد أفراد، جمع التمويل، واجتذاب أشكال أخرى من الدعم. هذا الأمر صحيح عموماً في حالة مجموعة تمرد كطالبان الأفغانية أو الباكستانية، رغم أنه في بعض المناطق الجغرافية، حيث تمارس مجموعة من هذا النوع سيطرة مادية، قد تكون قادرة على استخدام القهر والإلزام القسري كالدولة.
قد يصدر قادة المجموعات الإرهابية أو التمرد، من وقت لآخر، أحكاماً محددة بناء على قاعدة الواقعية السياسية بدلاً من العوامل الإيديولوجية. ( على سبيل المثال، قد تختار القاعدة تجاهل، أو التقليل من أهمية، سوء المعاملة الصينية للمسلمين في " كسينغيانغ" لأنها لا تريد أن تصبح بيكين منخرطة بالكامل إلى جانب الغرب في محاربة التطرف الإسلامي). مع ذلك، فإن من الحاسم بالنسبة للقيادة المحافظة على الجاذبية الإيديولوجية للجماعة، وإن أي انحراف عن الإيديولوجية يعرض هذه الجاذبية لخطر الاضمحلال أو تفريخ حالات الانقسام.
ورغم أن الجاذبية الإيديولوجية هي الوسيلة الأساسية التي يمكن بها لجهات فاعلة غير حكومية تجنيد أفراد والحصول على دعم مادي وأشكال أخرى من الدعم، فليس كل عمل يتعلق بالانضمام إلى مجموعة إرهابية أو ارتكاب عمل إرهابي يمكن تفسيره بالإيديولوجية وحدها. فنادراً ما يفسر السلوك الإنساني، هذا إن فسِّر، بإحالته لمتغير واحد. في كل الأحوال، وفي حين أن العوامل النفسية الخصوصية الغريبة والاجتماعية المختلفة قد تجعل أحد الأفراد عرضة للتجنيد في صفوف الحركة أكثر من غيره،فإنها لا تفسر السبب الذي لأجله يصبح الفرد، دعنا نقول، إسلامياًبدلاً من شيوعي أو فاشستي أو عضو في طائفة دينية. أما الأمر ذي الأهمية الأساسية فيبدو بأنه يتعلق بالعملية التي يشكل فيها فرد يشعر بالنفور والانعزال رابطة مع أفراد آخرين ويجد "هوية" داخل هذه المجموعة الصغيرة. لكن من دون الإيديولوجية، يمكن لهذه المجموعة الصغيرة أن تصبح، وبسهولة ، مجموعة من المتعصبين لكرة القدم أو مجموعة تافهة من المجرمين.
وفقاً للطبيب النفسي الجنائي، مارك سايغمان، فإن الإيديولوجية تلعب " دوراً مركزياً " في"الالتزام المستدام" بالإسلاموية الراديكالية:
لعبت الإيديولوجية دوراً مركزياً أيضاً في الالتزام المستدام بهذه النسخة من الإسلام. ورغم أن الانتماء هو ظاهرة اجتماعية، فإن ازدياد حدة الإيمان والمعتقدات مرحلة تتصف بالمعرفة الشخصية الفعالة عن المذهب الجديد... فالملتمسون لهذه العقيدة... يتقبلون تدريجياً المعتقد الجديد لأنه منطقي في تفسيرهم الجديد للعالم ودورهم فيه... هذا الاكتشاف للتناسب القوي ما بين الأحداث الماضية والتفسير الجديد أمر حاسم لتقبل الالتزام الطويل الأمد للمعتقد الجديد وتعزيزه.
باختصار، وسواء كان من يحمل الإيديولوجية العدائية دولة أم مجموعة فاعلة غير حكومية، فإن لها تأثير على الأمن القومي، ولذا لا يمكن أن تكون مسألة موضع خلاف بالنسبة للحكومة الأميركية.

محاربة الإيديولوجيات العدائية: بعض الجهود السابقة
لا ينبغي أن تكون الولايات المتحدة قلقة ومهتمة بالإيديولوجيات العدائية كمسألة أمن قومي فحسب. لقد كانت كذلك في الحقيقة مع إيديولوجيات أخرى في الماضي، أشهرها خلال الحرب الباردة. بالواقع، إن الوضع الحالي للحكومة الأميركية فيه بعض التشابه مع وضعها بداية الحرب الباردة.
بعد الحرب العالمية الثانية، وما أن نشرت الحكومة الأميركية قيم الحرية بصراحة، واجهت اعتراضات تقول بأن القيام بذلك يشكل تدخلاً في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى. وأصبحت جهود نشر القيم الأميركية قضية كبرى في بعض الأجزاء من العالم، تحديداً في بلدان أوروبا الغربية حيث كان الجاذب الإيديولوجي الشيوعي عظيماً. أما ما ضاعف من القلق وعدم ارتياح عدد من الأوروبيين الغربيين فكان ارتباط الولايات المتحدة برأسمالية السوق الحرة، الذي، في أعقاب"الإحباط الكبير" لم يعد يحتفظ بتقدير عال.
بالتالي، وفي حالات كالانتخابات الإيطالية عام 1948، التي كان يتخوف حينها من مكاسب الحزب الشيوعي القوي، تم بذل الكثير من الجهود الأميركية للتأثير على نتيجة الانتخابات بشكل سري، عبر "مكتب الـ CIA الجديد للتنسيق السياسي".
أما الأمر ذي الصلة تحديداً بالوضع الحالي، في الواقع، فهو أنه في أعقاب الحرب العالمية الثانية كان هناك جدل أوروبي هام لم يكن بإمكان الحكومة الأميركية التدخل فيه مباشرة – صدام في الدوائر اليسارية بين الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين. وكان من مصلحة أميركا جداً أن يتمسك الإشتراكيون بموقفهم في ذلك الجدل الدائر. في هذه الأثناء، كان الإتحاد السوفياتي يمول الشيوعيين. ( كانت المساعدات السوفياتية توفر بطريقة سرية ومن خلال " مجموعات واجهة " مختلفة للحفاظ على الوهم بأنها لا تشكل تورطاً سوفياتياً في الشؤون الداخلية للدول الأوروبية). مع ذلك، فإن تورط الحكومة الأميركية الصريح كان يمكن أن " يلطخ" القوى الديمقراطية ويجعلها أقل فاعلية.
هذا الأمر أدى إلى جهود عمل سرية للـ CIA لتمكين الإشتراكيين الديمقراطيين من شن " نزاع ايديولوجي" ضد الشيوعية. على سبيل المثال، لقد قدمت لهم الـ CIA الموارد للمؤتمرات والمنشورات. هذا الدعم سهل تأسيس هكذا منظمات كـ Congress of Cltral Freedom ونشر مجلات مثل Enconter. وكانت منظمات أميركية – أشهرها رابطة الطلاب الوطنية – مدعومة أيضاً بحيث كان يمكنها مواجهة مجموعات مدعومة سوفياتياً في الاجتماعات الدولية.
في الستينات والسبعينات، أصبح التورط السري للـ CIA في هذه الأنشطة معروفا ًعلناً وكانت مجبرة على وضع حد له. وبدأت الحكومة الأميركية آنذاك بتوفير دعم علني لبعض المؤسسات، مثل"راديو أوروبا الحرة" و "هيئة البث الدولي ( BIB)" وبعدها، بعد العام 1995، من خلال BBG.
خلال سنوات حكم ريغان، روَّج فاعلون في القطاع الخاص فكرة المؤسسة الخاصة التي ستعزز القيم الديمقراطية في الخارج. وتبنت إدارة ريغان الفكرة وطورتها، ومرر الكونغرس آنذاك " قانون National Endowment for Democracy (NED). إن مؤسسة NED ليست وكالة تنفيذية فرعية؛ إنها مؤسسة خاصة لا تبغي الربح، رغم أنها تتلقى مخصصاتها من الحكومة. وهي لا تقوم ببرامج بنفسها وإنما تمول مشاريع لتعزيز الأفكار والمؤسسات الديمقراطية في الخارج. أما المتلقين لأموال NED فغالباً ما يجدوا الأمر مفيداً ومكسباً كون دعمهم لا يأتي مباشرة من الحكومة الأميركية. ويبرهن نجاح NED عن أن بإمكان مؤسسة خاصة لعب دور هام وبارز في فرض التأثير الإيديولوجي لصالح المبادئ الأميركية.

إجراء مسح للإسلاموية
هذا القسم يقصد منه توفير تقديم موجز لظاهرة الإسلاموية المعقدة، التجليات الراديكالية التي سيتم محاربتها. إن مهمة فهم هذه الظاهرة وإبقاء الحالية على تطورها أمر ليس بالتافه على الإطلاق، وأية مؤسسة ستحمل مهمة مكافحة الإيديولوجيات العدائية ينبغي لها أن تشتمل على قسم أبحاث لهذا الغرض.
ورغم أن الإسلاموية تدعي بأنها التفسيرالصحيح لدين الإسلام، فإنها في الواقع إيديولوجية سياسية. وبذلك، يمكن فهمها في ضوء الإيديولوجيات الأخرى للقرن العشرين ( كالفاشستية والشيوعية) التي تعارض المعتقدات الديمقراطية الليبرالية. إنها مجموعة أفكار حول مصدر الشرعية السياسية، الوسيلة الصحيحة لحكم مجتمع، والإدارة الصحيحة للسياسة المحلية والدولية.
إن مصطلح " الإسلاموية" في حالة تغير مستمر الآن، خاصة في الوقت الذي نقلت فيه الثورات السياسية الأخيرة في العالم العربي والحزم الدولي الجديد لتركيا هذه الظاهرة خارج نطاق النظرية إلى الأمور العملية، وعلى نحو متزايد. لقد قال قادة الأحزاب الإسلامية في تونس، مصر، وأماكن أخرى لصحافيين أجانب، بحسب ما تردد، بأنهم يفضلون الحداثة، التسامح، السلام والديمقراطية – وهي ممارسات وأهداف رفضتها الكتابات التأسيسية للحركة الإسلامية بحدة.
كان هناك الكثير من التكهنات في أوساط الباحثين والمعلقين حول ما إذا كانت الإسلاموية ستحتفظ بسمات التطرف، العدائية والعنف التي اتصفت الحركة بها عموماً منذ تأسيسها في أوائل القرن العشرين، أم أنها ستتطور إلى شيء حميد أكثر بما أن أتباعها يمارسون السلطة السياسية على أعلى مستوى في عدد متزايد من الدول. أما السؤال الأساسي فهو ما إذا كانت الحركة الإسلامية ستنشق وتنقسم إلى فئات معتدلة ومتطرفة معادية لبعضها البعض – وما إذا كان بإمكان الغرب التعاون مع الفئة الأولى لتقويض تأثير ونفوذ الثانية.
هناك أسباب وجيهة لنكون مشككين بشأن إمكانية تطور الأحزاب الإسلامية لتصبح قو ى معتدلة وديمقراطية في بلدانها. فالوثائق التأسيسية للحركات الإسلامية الكبرى زاخرة بالمواضيع الدينية المعادية للديمقراطية. وفي تركيا، التي يتم التمسك بها غالباً كنموذج للتوفيق بين الإسلاموية والديمقراطية، انتقل حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى جعل معارضيه السياسيين عاجزين كما حد من حرية الصحافة. مع ذلك، ونظراً للاضطرابات واللغط الحاصل في الحياة السياسية الشرق أوسطية ونظراً لبعض الإشارات عن بروز انشقاقات في الإسلاموية، فإن الأمر يتخطى الدليل للتأكيد على أن كل الأحزاب الإسلامية، بطبيعتها، متطرفة بشكل لا يمكن إصلاحه.
لذا، نحن مهتمون، تحديداً، في هذه الوثيقة بالإسلاموية المتطرفة. إن أهم سمة لهذه الإيديولوجية، من وجهة نظر الأمن القومي، هو أنها تفترض وجود عدائية متأصلة بين الإسلام والغرب، بناء على المفهوم القائل أن القوة الغربية هي العائق الأساسي أمام تنفيذ برنامج الإسلاموية.
تلتمس الإسلاموية الحساسيات الدينية، ( بما في ذلك مثال النبي محمد وأصحابه في القرن السابع)، كما التمست النسخ المختلفة للفاشستية الحساسيات القومية. لكن، وتماماً كما كانت الفاشستية إيديولوجية حديثة في التصويب على إعادة صنع المجتمع وفق برنامج على أساس ديني، كذلك الإسلام. وكما كتب الباحث الفرنسي أوليفر روي، " إن الوهم الذي يتمسك به الراديكاليون الإسلاميون هي أنهم يمثلون التقاليد والسنةفي حين أنهم في الواقع يعبِّرون عن شكل سلبي من أشكال التغرُّب.

ما هي الإسلاموية؟
في معناها الأعم، قد تُفهم الإسلاموية على أنها رد فعل سياسي من قبل المسلمين إزاء شعورهم بالضعف السياسي والاقتصادي والعسكري في مقابل الغرب المسيحي. فخلال الألف سنة الأولى من تاريخه، تمتع الإسلام بنجاح دنيوي منقطع النظير (أي نجاح سياسي، عسكري، ثقافي، واقتصادي).أما برنارد لويس فقد كتب ملاحظة قال فيها:
لقرون عديدة كانالعالم الإسلامي في مقدمة الحضارة والانجازات البشرية. ففي مفهوم المسلمين الخاص،كان الإسلام نفسه متزامناً مع الحضارة بالفعل، ولم يكن هناك سوى البرابرة والكفار ما وراء حدوده... وفي حقبة انحدار العصور الوسطى وبزوغ فجر الحداثة... لم يكن الزعم الإسلامي ينقصه المبرر.
في المصطلحات العسكرية، مثل الاحتلال العثماني للقسطنطينية عام 1453، والتي كانت تعتبر نفسها بمثابة عاصمة الإمبراطورية الرومانية والتي كانت ترمز للعالم المسيحي بالنسبة لمعظم مسلمي العصور الوسطى، نصراً هاماً وبارزاً ، تحديداً، في الحرب المتقطعة التي دامت ألف عام تقريباً بين الإسلام والمسيحية. وبعد المحاولة المبدئية في الثلث الأول من القرن السادس عشر لمد سيطرتها من البلقان إلى النمسا، حاصرت جيوش الإمبراطورية العثمانية فيينا في العام 1683 وكانوا على وشك احتلالها.
في كل الأحوال، وبعد نقطة الذروة التي وصلت إليها، بدأت حظوظ العثمانيين وثقتهم بأنفسهم تضمحل وتتلاشى بسرعة، وأحدثت خسارتهم لهنغاريا في أوائل القرن الثامن عشر شعوراً بأن خطباً ما قد حصل. في نفس الوقت كانت الامبراطورية المغولية في الهند قد بدأت انحدارها لتصبح بلا حول ولا قوة وتندثر وتصبح في غياهب النسيان.
كان لهذه النكسات السياسية تأثيرات في المجالات الفكرية، وهذا طبيعي:
مع الهجمة الاستعمارية والنشر التدريجي للتغرب كظاهرة ثقافية في المحيط الإسلامي التقليدي، شعر المفكرون الإسلاميون بالخطر من جراء كثرة التصدعات السياسية، الاجتماعية ، الاقتصادية وحتى اللغوية في مجتمعاتهم.

ردة الفعل الإسلامية
كان الرد البارز على هذا الاعتراف بالصعوبات التي تواجه المجتمعات الإسلامية هو الفهم بأنها نتيجة ابتعاد المسلمين عن الإيمان والممارسة الحقيقية للدين. وبالتالي ظهرت وجهة النظر القائلة بأن " الإسلام هو الحل". ما يعني أن العودة إلى الإسلام الحقيقي، كما دلت عليه حياة النبي محمد وصحبه، هو الحل للمشاكل السياسية والاقتصادية والثقافية للعالم الإسلام وطريقة لتدارك تراجعه مقارنة مع نهوض الغرب. وبهذه الطريقة، عُدَّ الدين ليكون، ببساطة، طريقة حياة، والذي كان بحد ذاته إلزامياً أو جديراً بالاختيار، وأصبح ذي أهمية بصفته، وبشكل رئيس، جزءاً من برنامج سياسي.
اعتمد هذا الاستيراد المحدد للبرنامج السياسي، بالطبع، على فهم المرء للإسلام الحقيقي في القرن السابع. فـ" العودة إلى المصدر" يمكن أن تكون تقييداً أو تحريراً، اعتماداً على كيفية تفسير المرء للصيغة الأصلية للدين.
مع ذلك، ما يجعل الحياة السياسية الإسلامية متمايزة ( إن لم يكن فريدة من نوعها) هو الزعم بأنه لأجل تعافي " الإسلام الحقيقي" هناك حقائق واضحة ودامغة تتعلق بتطهيره من الأجنبي والنفوذ الفاسد، إلى جانب الإصرار على إعادة صنع مؤسسات الدولة على صورته.
وفي حالة بعض مفكري القرن التاسع عشر، كان ينظر إلى هذه المقاربة على أنها تنسجم مع مفاهيم "الإصلاح"، ما يعني، تكيف الإسلام مع وقائع الزمن. وتمسك المفكرون بالقول بأنه بنزع تراكمات القرون ( ما يعني أشكال الفهم والتفسير للسلطات الدينية الشرعية المختلفة وغيرها )، يمكن للمرء العودة إلى العقيدة الدينية " الأصيلة العريقة"، الأمر الذي سيكون، بحسب ما هو معتقد، قابلاً للتطبيق فوراً ليتناسب ومتطلبات الزمن.
كان هؤلاء المفكرين النافذين جزءاً من حركة " النهضة"، التي، وبشكل لافت، لم تعتبر كل شيء غربي متناقضاً مع الإسلام. وقد وصفت " النهضة" بأنها:
حركة سياسية ثقافية واسعة هيمنت في الفترة الممتدة ما بين عاميْ1850 و 1914. وسعت "النهضة" من خلال الترجمة وتبسيط الأشياء إلى استيعاب الانجازات العظيمة للحضارة الأوروبية الحديثة، في الوقت الذي تعيد فيه إحياء الثقافة العربية الكلاسيكية التي سبقت قرون التفسخ والهيمنة الأجنبية.
وقد كتب أحد الكتاب والمؤرخين الإسلاميين المرتبطين بهذه الحركة في القرن التاسع عشر يقول:
لقد افترض مفكرو النهضة المسلمين – أشهرهم رفاعة ر. الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده – بأن إعادة إنتاج الإسلام وقبول السمات "الإيجابية" للغرب ( ما يعني المسؤولة عن النجاح السياسي والاقتصادي الغربي) أمران لا يتضاربان على الإطلاق.
أما مصدر هذه الثقة لجهة إمكانية استيعاب السمات المفيدة سياسياً واقتصادياً للحضارة الغربية من دون تعريض جوهر الإسلام للخطر فأمر غير واضح؛ في كل الأحوال، إن ذلك مشابه للتوجهات الفكرية في مجتمعات أخرى ليست غربية التي واجهت، على امتداد القرن التاسع عشر مشكلة مجابهة القوة السياسية والعسكرية الغربية في الوقت الذي كانت تحاول البقاء وفية لتقاليدها الثقافية.
على سبيل المثال، وفي اليابان، صاغ التقني ساكوما شوزان ( 1811-1864) ، في مجهود منه لتبرير التغيرات التقنية التي كان يدرك ضرورتها، شعار " الأخلاقيات الشرقية والعلوم الغربية، مفهوم أثبت، كنظيره الذي تم تطويره في الصين، مدى إراحته لجيل كامل من التحديثيين. في كل الأحوال، وكما أشار الخبير الياباني إدوين ريسشوير، "... عملياً ، ليس هناك من خط واضح يمكن رسمه بين الجوانب الخارجية للحضارة الغربية وبين نظام قيمها الداخلي".
لسوء الحظ، لم يكن العالم ناجحاً كاليابان ( والصين) في صنع هذا التوازن في استيعاب هذه المعرفة الغربية. بدلاً من ذلك، كان هنا تشدد أكبر على الاختلافات الموجودة بين الإسلام والغرب، وعلى الحجة لإعادة خلق حياة سياسية على قاعدة إسلامية.
كان لنتائج هذا الفشل بما يتعلق بالحداثة تأثيراته في الجهود الكبرى في أوائل القرن العشرين لإعادة خلق حياة سياسيةعلى قاعدة إسلامية.، ما يعني إفتراضالإسلام كحل للمشاكل السياسية، العسكرية، الاقتصادية والاجتماعية للدول والشعوب الإسلامية. كان الجهد مركزاً على منطقتين: الهند ما قبل التقسيم، حيث أيد الصحافي والمفكر العام مولانا المودودي قيام دولة إسلامية؛ ومصر، حيث أسس حسن البنَّا في عشرينات القرن الماضي الإخوان المسلمين.
كان المودودي شخصية كبيرة ورئيسة في رفض الإسلاميين الكلي للحداثة، وبشكل خاص، رفضإمكانية وجود تسوية بين الحداثة والإسلام التقليدي. لقد طور النظرية القائلة بأن الحداثة في حالتها الحاضرة تمثل حقبة ما قبل الإسلام من الجهل وعبادة الأصنام، المعروفة بالجاهلية:
... تطورت نظرية " الجاهلية الحديثة" ( ما يعني، الحداثة ، البربرية الجديدة) في الهند منذ العام 1939 من قبل مولانا المودودي. لقد كان أول مفكر إسلامي يصل إلى حد شجب وإدانة الحداثة ويتحدث عن تضاربها مع الإسلام،... أما الاستنتاج الذي توصل إليه رشيد رضا وأصوليون آخرون فقد كان استنتاجاً بطيئاً ويتحرك بتردد خلال الثلاثينات - تلك تسوية بين الحداثة والإسلام كانلا يزال هناك أمل ملتبس بها آنذاك، لكنها لم تحدث – بحسب ما صرَّح المودودي بقوة.
شهدت مصر نشوء الإخوان المسلمين، أقدم منظمة للحركة الإسلامية بناء على مبادئ السلفية، ما يعني الرؤية التي ينبغي أن توجه إعادة بناء حياة المسلمين والتي يجب أن تكون على مثال السلف، أصحاب النبي محمد الأتقياء. ورغم أن المفكرين السابقين ( كمحمد عبدالله " الإصلاحي") تحدثوا عن ضرورة العودة إلى السلف (التخلص في العملية من قرونمن الأعراف والشروحات التي تم تلقينها )، فقد ركزوا على الجدل الفكري ولم يشكلوا منظمات لها ثقل لترويج هذه النظرية. ووفق ما قال الباحث الإسلامي " هلال فرادكين"، كان الإخوان المسلمون " أول تعبير رسمي ومنظم عن الإسلاموية أو السلفية. من المؤكد أن القدماء تصوروها حركة جماهيرية ضخمة وعالمية في نهاية المطاف...وهي اليوم حركة واسعة الانتشار بشكل مؤثر، لديها حتى هذه المرحلة، عدة فروع في البلدان الإسلامية وكذلك في المجتمعات ذات الأقليات الإسلامية في بلدان أخرى.
بالواقع، لقد تزايدت المحاولات الأخيرة لجعل الحياة السياسية مبنية على أساس المبادئ الإسلامية من خارج جهود الإخوان المسلمين. ففي العام 2006، فازت حماس، الفرع الفلسطيني للإخوان المسلمين، بالانتخابات التشريعية بظل السلطة الفلسطينية، رغم أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس جاء من " فتح"، المجموعة المنافسة لحماس. وفي العام 2007،، ومن خلال " انقلاب رئيسي"،تولت حماس السيطرة على غزة، لتصبح بذلك أول منظمة للإخوان المسلمين تحكم أرضاً وشعبه.
إن النتيجة المباشرة لرؤية المودودي للحداثة بصفتها " الجاهلية الجديدة" هي أن الدول العصرية، ما بعد الاستعمار في العالم الإسلامي ليست إسلامية بالأصل في الواقع. فطالما أن الإخوان المسلمين المصريين كان بإمكانهم التوحد مع مصريين آخرين في محاربة بقايا الإمبريالية البريطانية التي أصابت الملكية البريطانية بالعدوى، فإن هذه القضية لم تتصدر الواجهة؛ لكن ما أن جاء جمال عبد الناصر المناهض للإمبريالية إلى السلطة، مبشراً بالخط العروبي بدلاً من الإسلام، حتى أصبح من الواجب مواجهته.
لقد تقبل البعض داخل الإخوان المسلمين مصر- ناصر كبلد إسلامي؛ لقد اتبعوا سنة إسلامية تحذر من الحكم على إيمان الآخر:
ليس من شأن الإنسان، الذي لا يرى ما في القلب، أن يحكم على صحة وصدق إيمان مسلم آخر، ولا إعلانه مرتداً إلا إذا تنصل من العقيدة صراحة.
في كل الأحوال، لقد قام آخرون بالحكم ووجدوا مصر راغبة بذلك. فقد أصدر سيد قطب، الذي أصبح رأس الإيديولوجيين في الإخوان المسلمين، رؤية مشابهة لتلك التي للمودودي: ينبغي النظر إلى المجتمع الإسلامي الظاهري لمصر، إضافة لبلدان إسلامية أخرى، على أنها مجتمعات غير إسلامية. هذه المجتمعات جاهلية، ما يعني، أنها تتصف بالجهل وعبادة الأصنام المشابهة لتلك التي كانت موجودة في شبه الجزيرة العربية ما قبل النبي محمد.
كان رفض قطب لهذا المجتمع غير الإسلامي تاماً ومطلقاً. وكانت مهمة المسلمين الحقيقيين خلق مجتمع إسلامي مكان المجتمع الجاهلي الذي ساد العالم الإسلامي كله بحسب الظاهر. وكان السؤال الوحيد هو كيفية جلب مجتمع إسلامي حقيقي إلى الوجود. بالنسبة لقطب، كان العنف، من حيث المبدأ، أسلوباً مشروعاً؛ أما الإخفاق باختيار العنف فكان بسبب اعتبارات تحوطية فقط.
جاء تحول الإسلاميين العام إلى العنف نتيجة عوامل مختلفة، أشهرها القمع الشديد الذي عانى منه الإخوان المسلمين في مصر في عهد جمال عبد الناصر. في نفس الوقت، ومن وجهة نظر الإسلاميين، كان الوضع يسوء أكثر فأكثر بسبب اختراق وسائل الإعلام المتزايد للمجتمع. كان لمجيء التلفزيون،تحديداً، وقع كبير، لأنه دخل البيت نفسه – ما يعني، أن النساء والأطفال أصبحوا عرضة للتأثير الثقافي الذي كان من الصعب السيطرة عليه – ووصل إلى القسم الأمي من الشعب. هذه العوامل حالت دون اعتبار العنف كحل وحيد.
كتب الباحث إيمانويل سيفان واصفاً بروز رؤية الإخوان المسلمين المصريين والسوريين في السبعينات فقال:
فضلاً عن ذلك، إن التحدي الحديث الموجود في كل مكان – خاصة القرية الإعلامية العالمية وانتشار سيطرة الدولة– جعل رد الفعل الانسحابي ( إلى مجتمع مضاد) أقل وأقل قبولاً، إن لم يكن للجميع فعلى الأقل بالنسبة للمجموعات الصغيرة. إن الجهود التعليمية على المدى الطويل، المصمَّمة لتحويل المجتمع شريحة أثر شريحة إلى " الإسلام الحقيقي"، فرصها بالنجاح اليوم أقل مما كانت عليه حتى عندما بدأ سيد قطب يشكك بفعاليتها كوسيلة وحيدة قبل ثلاثين عاماً مضت،قبل عصر راديو الترانزستور، التلفزيون، والنمو الضخم لنظام التعليم العالي. وبالتالي أصبح ينظر إلى الاستيلاء على السلطة وأخذها من أيدي " حكام مغول" مثل أنور السادات وحافظ الأسد كجواب وحيد على التهديد.
عموماً، إن الرؤية الناشطة للإسلام التي تمسك بها منظرون في الإخوان المسلمين، كسيد قطب، احتجت بالعنف بصفته وسيلة ضرورية:
بالواقع، إن القرآن لا يفتح كنوزه لأي كان إلا للذين يتقبلون هذه الروح – الروح التي تأتي من الوعي بأن المعرفة هي للعمل.
يثبت حكم الله عندما يُفرض حكمه ويُحكم على كل المسائل وفق قانونه وحكمه المكشوف... لا شيء (يفضي إلى ترسيخ الحكم الإلهي) يتم تحقيقه من خلال التأييد الكلامي للإسلام. المشكلة هي أن الناس الموجودين في السلطة الذين اغتصبوا سلطة الله على الأرض لن يتنازلوا عن سلطتهم لمجرد تفسير الإيمان الحقيقي وتأييده.
ويصل قطب إلى الاستنتاج القائل بأنالقوى الموجودة في العالم غير الإسلامي ( ما يعني الغرب بالأساس) هي قوى عدائية بأساسها للإسلام حتماً:
...إنها حالة الأوضاع الدائمة التي تجعل الحقيقة غير قادرة على التعايش مع الكذب على الأرض. وبذلك، وعندما يعلن الإسلام عن تحريره للبشرية على الأرض، بحيث أنهم لا يكونوا إلا بخدمة الله وحده، يحاول هؤلاء الذين اغتصبوا سلطة الله إخراسهم. هم لن يتساهلوا معهم أبداً أو يتركوهم بسلام. والإسلام لن يجلس خاملاً هو الآخر. فهو سيتحرك ليحرمهم سلطتهم بحيث يصبح بالإمكان تحرير الناس من الأغلال التي تقيدهم. هذه هي حالة الأوضاع الدائمة التي تفرض ضرورة استمرار الجهاد حتى يكون الخضوع والإذعان كله لله وحده.

الحلقة الأولى

الحلقة الثالثة

موقع الخدمات البحثية