أوراق إستراتيجية » لبننة سوريا: تقرير حول الجهات الفاعلة في الأزمة السورية

Centre International de Recherches et duEtudes Sut Le Terrorisme & LuAide aux Vctimes du Terrorisme - ( CIRET-AVT
باريس ـ كانون الثاني/ يناير 2012

شكر
يشكر المؤلفون المواطنين السوريين الذين قبلوا اللقاء بنا والإجابة عن أسئلتنا، إضافة إلى الموظفين الديبلوماسيين العرب والأوروبيين، رؤساء الوكالات الاستخبارية، أعضاء المنظمات الإنسانية وصحافيين من الصحافة الدولية كنا قد أجرينا مقابلات معهم.

ملاحظات تمهيدية
بتنظيم وحث من المركز الفرنسي للأبحاث الاستخبارية- CF2R ( Centre Francais de Recherche sur le Renseignment ) والمركز الدولي للأبحاث والدراسات حول الإرهاب ومساعدة ضحايا الإرهاب – CIRET-AVT ( Centre internationalde recherché et duetudes sur le terrorismee et duaide aux victims du terrorisme)، سافر وفد دولي من الخبراء إلى سوريا من 3 إلى 10 كانون الأول لتقييم الوضع هناك بشكل مستقل ونزيه ومقابلة الفاعلين في هذه الأزمة الممتدة منذ تسعة أشهر. وأنهى الوفد مهمته التقييمية بلقاءات مع مختلف الممثلين للمعارضة السورية في الخارج، إضافة إلى هيئة من الخبراء بشؤون الشرق الأوسط من أوروبا.

وهنا الجزء الثالث من التقرير...

دور " شبكات التواصل الاجتماعي"
إضافة إلى الإعلام، لعبت " شبكات التواصل الاجتماعية والالكترونية" دوراً هاماً في التظاهرات. لقد احتسبنا على التويتر ممثلين لحوالي 50 حزباً مسماة " حزباً سياسياً"، من دون التمكن من تحديد هوية أو دور المراسلين. فهم ينظمون تظاهرات تحدث في غالب الأحيان عند هبوط الليل، وتجتذب ما بين عشرات الأشخاص إلى بضع مئات في الحد الأقصى، والذين يهتفون بشعارات معادية للنظام قبل أن يختفوا بعد بضع دقائق ( تقنية flash Mob). تبث الجزيرة هذه الصور على مدار الساعة لإعطاء الانطباع بأن هناك تظاهرات شعبية واسعة تحصل باستمرار.
كما أن هناك منظمة أميركية ( AVAAZ) تلعب دوراً هاماً في سوريا، بعدما تورطت في " ثورات" عربية أخرى. ويتحدث رايكن باتل، مؤسس AVAAZ ( وعضو سابق في مؤسستي روكفلر وبيل غايتس)، هنا عن الأنشطة التي قامت بها منظمته غير الحكومية: كانت AVAAZ في قلب النضال لأجل الديمقراطية في العالم العربي. وبفضل 1.5 دولار من هبات عبارة عن تبرعات صغيرة قدمها لنا الأعضاء في منظمتنا، كنا قادرين على وضع حد للتعتيم الذي حاول فرضه الديكتاتوريون بطردهم كل الإعلام الأجنبي. هذا التمويل سمح لنا بتدريب عدد أساسي وجوهري من الصحافيين من مواطني البلاد، تجهيزهم بالمودم والهواتف الذكية العالية التقنية المتصلة بالأقمار الصناعية وتوفير التواصل عبر الإنترنت".
تصرح منظمة AVAAZ، بما يخص سوريا، بأن 30% من المعلومات المنشورة من قبل أكبر الشبكات الإعلامية العالمية كالـ BBCوالـ CNN والجزيرة تأتي من الناشطين الرقميين العاملين في شبكته. " في الوقت الذي لم تكن هناك منظمة أخرى قادرة على القيام بذلك، قامت شبكتنا، وبشكل سري، بشحن تجهيزات الإسعافات الأولية الأساسية بقيمة أكثر من مليون دولار لأشخاص واقعين تحت حصار عنيف في سوريا. كما جلبنا، وبشكل سري، مناضلين وعائلاتهم عبر الحدود، أشخاص خاطروا بأنفسهم بالتعرض للقتل أو التعذيب. وتؤمن منازلنا الآمنة ملجأً سرياً لعشرات المناضلين المطلوبين من قبل جلاوزة النظام وتتيح هذه المنازل الآمنة للمناضلين الاستمرار بعملياتهم بأمان. يبدو نظام الأسد المجرم غير سعيد أبداً لأن تلفزيون الدولة السورية سمى رئيس حملاتنا بأنه " أخطر رجل في العالم بالنسبة للنظام". وبالتوازي مع انخراطنا الناشط مع الحركات المؤيدة للديمقراطية، أبقينا أيضاً على ضغط عالمي مستمر وثابت على حكوماتنا لإجبارها على جعل الحياة صعبة جداً على تلك الأنظمة الوحشية: نفذ ملايين الأعضاء في AVAAZ حملات مظفرة انتهت بتمرير العقوبات النفطية من قبل الإتحاد الأوروبي وعقوبات أخرى من قبل الجامعة العربية ضد سوريا".
في تشرين أول الماضي، استمرت Avaaz بأنشطتها، مؤسسة أعمالها على قاعدة أحداث خاطئة أو لا يمكن التحقق منها، كما يظهر المثال هنا: " لقد وصل النظام إلى مستوى جديد من القسوة: إن فرق الموت لديه تستخدم سيارات الإسعاف والمستشفيات لجذب واغتيال جرحى المتظاهرين. لكن بإمكان روسيا، حليف سوريا الأساسي ومزودها بالسلاح، إنهاء هذه المجزرة. نحن، مواطني هذا العالم، نطلب منكم استخدام كل الوسائل السلمية للطلب من النظام السوري وقف المذبحة والسماح بحصول انتقال سريع إلى الديمقراطية. نحن ندعوكم لتعزيز الضغط الدولي لجعل روسيا توقف دعمها للنظام الحالي وتزويده بأسلحة الموت الروسية المستخدمة لقتل متظاهرين سلميين إضافة إلى العاملين في المجال الإنساني".

الرد الفاشل للسلطات السورية
في وجه هذا السيل من التضليل، كانت الحكومة السورية، غير المستعدة جيداً للحرب الإعلامية، غارقة بالكامل. إذ كان ردها أخرق وغير مناسب ولم يعمل إلا على تعزيز الشكوك المحيطة بالنظام.
سقط التلفزيون السوري هو أيضاً في فخ التضليل الإعلامي. وهناك مثال على هكذا تضليل ويتضمن الهجوم على السفير الفرنسي وموكبه، يوم السبت 24 أيلول، 2011، في باب الشرقي (دمشق)، عندما كان ذاهباً إلى اجتماع مع بطريرك الروم الأرثوذوكس. وتحدث المعلقون عن استفزاز من قبل الفرنسيين، أدى إلى قيام " حشد" من الناس برمي البيض والحجارة على الديبلوماسي.

إن خطط التواصل للحكومة السورية تستهدف، وبشكل رئيس، الجماهير المحلية، وتستهدف، بشكل هامشي، الرأي العام الدولي. إن محاولاتهم النادرة في إستراتيجية التواصل أثبتت أنها غير مثمرة، إلى حد كبير. فالافتقار للاستعداد، والصياغة المتواضعة، إضافة إلى التوقيت غير المناسب للبرامج، جعل عمليات التواصل تأتي بنتائج عكسية للسلطات في دمشق في كل مرة. مثال بارز على ذلك المقابلة التي أعطاها رئيس الدولة السورية لمحطة ABS-News ، في 6 كانون أول 2011. ففي خلطه بين مسؤوليات الجيش ومسؤولياته كرئيس، أعطى الرئيس الأسد انطباعاً مضاعفاً بكونه غير كفؤ، مظهراً افتقاراً إلى التحكم برسالته الإعلامية وافتقاراً أكثر ضرراً لقيادة إستراتيجيته الأمنية وإدارة الأزمة على الأرض.
ينبغي لوكالة الصحافة التابعة للرئيس تنظيم برامج خاصة على التلفزيون الوطني لشرح رسالة الرئيس الحقيقية. فالناطقون باسمه ينبغي أن يفسروا السبب الذي لأجله خانت محطة ABS- News ثقته ببثها مقاطع صوتية معدلة وغير مفهومة التقطتها لاحقاً شبكات إعلامية أخرى حول العالم. هناك عدد من أعضاء الحكومة السورية، بمن فيهم بعض المقربين جداً من بشار الأسد ممن يعترفون ويقولون " نحن لا نعرف كيفية التواصل!".

البعد الدولي للصراع
بنظر العالم الغربي، النظام السوري يتمتع بكل العيوب التي يمكن للمرء أن يتصورها. فهو عدو لإسرائيل، حليف لإيران، وروسيا والصين، داعم لحركات إرهابية كحزب الله وحماس، كل هذه العوامل تجعل من البلد عضواً مصادقاً عليه في " محور الشر" الحصري، الذي هو جزء لا يتجزأ من الخطاب الأميركي.

أسباب الصورة الدولية السلبية لسوريا

التحالف مع الاتحاد السوفيتي. يعود السبب الأول إلى الحرب الباردة. لقد اختار حافظ الأسد، كجمال عبد الناصر قبله، انحياز بلده إلى جانب موسكو. إن ربط مصالح سوريا بتلك التي للاتحاد السوفياتي ودول حلف وارسو من السهل تفسيره نظراً لسياق الحرب الباردة التي اعتبرت إسرائيل بمثابة جسر عبور لـ " العالم الحر" في الشرق الأوسط. كان لهذا التحالف طلعاته ونزلاته، ما حفز وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسينجر على قول تعليقه الشهير، " في الشرق الأوسط ليس هناك حرب من دون مصر ولا يمكن أن يكون هناك سلام من دون سوريا". ورغم أن حافظ الأسد توقع نهاية الحرب الباردة عندما بدأ بمنح ضمانات للأميركيين في أواسط الثمانينات، فإن صورة سوريا لا تزال مرتبطة بشكل متين بـ " الجانب الشيوعي"، برغم مشاركة دمشق في الائتلاف الدولي ضد العراق في العام 1991.

التدخل في لبنان. السبب الثاني يرتبط بشكل وثيق بالخمسة عشر عاماً الأخيرة من الحرب الأهلية والإقليمية في لبنان ( 1975-1990)، التي برزت فيها سوريا كواحدة من اللاعبين الرئيسيين، في نفس الوقت الذي برزت فيه إسرائيل والقوى الغربية. من السهل تناسي أن الجيش السوري دخل لبنان في ربيع 1976 بطلب رسمي من رئيس الجمهورية المسيحي الماروني سليمان فرنجية، والمعسكر المسيحي، للتقليل من عدد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. وبعد تحولات عديدة في التحالفات، قامت دمشق باللعب وفق قواعدها الخاصة وفرضت سلاماً سورياً بدعم فعال من واشنطن وباريس. مع ذلك، اتهمت دمشق بالاستفادة من الانقسامات بين الفئات اللبنانية لاستعادة "سوريا الكبرى" التي تغطي لبنان وفلسطين، بمساعدة موسكو.
في مقابل هذه الخلفية، تم إعطاء منظمات متطرفة مختلفة الملجأ والملاذ بالفعل إضافة إلى تسليحها من قبل جهات أمنية سورية مختلفة وبرزت سوريا كواحدة من مراكز الإرهاب الدولي الرئيسة. وفيما عدا أي من هذه الاعتبارات التاريخية تماماً، وفي الذاكرة الجماعية لجيل " الحرب اللبنانية" وبشكل دقيق أكثر أولئك الذين عانوا على أيدي المنظمات المسيحية اللبنانية المختلفة، تظل سوريا أحد الجناة الرئيسيين الذين يقفون خلف أكثر الحروب الأهلية دموية في تاريخ القرن العشرين.
أخيراً، السبب الثالث هو اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، في 14 شباط 2005 في بيروت. ففي الدقائق الأولى التي تلت الانفجار القاتل، كان عدد من السفارات والشبكات الإعلامية الغربية يتهم سوريا ونخبها الحاكمة بأنها هي التي تقف وراء الهجوم.
بعد بضعة أشهر، اتهم التقرير الأول الذي نشرته لجنة التحقيق الدولية الرئيس الشاب بشار الأسد والأجهزة الأمنية السورية بالجريمة بناء على دليل لشهادة ظهر لاحقاً أنها غير موثوقة بالكامل. أما استنتاجات التقارير اللاحقة فكانت متذبذبة، متهمة، على التوالي، حزب الله وإيران، قبل العودة دائماً وبشكل ثابت إلى مسار سوريا. وفي نفس السياق، لم تتوقف واشنطن أبداً عن اتهام سوريا بتغذية الإرهاب المستهدف للجنود الأميركيين في العراق. ومن تحالفها التاريخي مع روسيا السوفياتية وصولاً إلى اغتيال الحريري، عبر التدخل في لبنان، تصنف سوريا على الدوام كـ " دولة إرهابية"، الخطر الثاني بعد إيران ضمن محور الشر؛ هذا هو الإطار التفسيري لإيديولوجيات إدارتيْ بوش.
برغم التغيير بالأسلوب، لم تبدل إدارة أوباما الطريقة التي تقرأ بها الوضع ولا هي بدلت أولوياتها الإستراتيجية في الشرق الأوسط. وبرغم المصالحة المذهلة التي تم التوصل إليها مع فرنسا في ربيع 2008 بعد القمة العربية في دمشق ( 29-30 آذار) والتي أصبحت واقعاً ملموساً بدعوة فرنسا بشار الأسد للقدوم إلى باريس لافتتاح قمة الاتحاد من أجل المتوسط، في 13 تموز 2008، لا تزال سوريا على قائمة الدول الإرهابية والحليفة لإيران.

أما السبب الرابع فهو الشراكة الاستراتيجية بين إيران وسوريا الموجودة منذ العام 1980 والتي تعتبر عاملاً جيوسياسياً حاسماً في المنطقة. ولا تزال إيران تستخدم سوريا كأرض انطلاق (وحليف مخلص) يتيح لها مد نفوذها في منطقة سنية بغالبيتها الساحقة. إن سوريا جزء مما كان الملك عبد الله، ملك الأردن، قد سماه " الهلال الشيعي"، والذي يعني به نطاق النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
إن التعاون ما بين إيران وسوريا موجود في الجيش، والأمن، والمجالين الاقتصادي والعلمي. لقد أعلن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي الخامنئي، في شباط 2007، أن إيران وسوريا تتقاسمان " عمقاً إستراتيجياً" مفيداً للجانبين. كما أكد الرئيس محمود أحمدي نجاد على أن " إيران وسوريا تتقاسمان أعداء مشتركين، ما يتطلب تنسيقاً فعالاً للتعامل مع خطط أولئك الأعداء؛ هذا الأمر أصبح ممكناً عن طريق تحسين وتعميق العلاقات بين البلدين على أفضل وجه".
وبعيداً عن التعاون العسكري الذي يتيح لسوريا طلب السلاح مع تحمل طهران التكلفة، ارتفع مستوى العلاقات الاقتصادية، تحديداً في مجالات الصناعة، والزراعة، والأبحاث، والطاقة. ويرجح أن تكون الاستثمارات الإيرانية في سوريا قد وصلت إلى 3 مليارات دولار في العام 2010. حتى أن طهران اقترحت أن تشارك دمشق المعرفة النووية " المدنية".
أخيراً، إن كلا البلدين يدعم حزب الله اللبناني. وتُستخدم سوريا كمركز عبور ( ترانزيت) لإمدادات الأسلحة للمنظمة السياسية - العسكرية اللبنانية.

عائق أمام السياسة الأميركية في الشرق الأوسط
يمر الشرق الأوسط، حالياً، باضطرابات عميقة. فمنذ حربي العراق الأولى ( 1990/1991) والثانية ( 2003)، والعالم يشهد تنفيذاً للسياسة الأميركية المعروفة بـ " الشرق الأوسط الكبير"، خطة لتثبيت " شرق أوسط كبير من خلال تفكيك أنظمة معادية لإعادة قولبة المنطقة وفقاً للمصالح الأميركية- الإسرائيلية".
وقد تم إطلاق مصطلح " الفوضى الخلاقة" على هذه السياسة. وهي مبنية على مبادئ ثلاثة:
• الحفاظ والإشراف على صراعات منخفضة الشدة؛
• تعزيز الانقسام السياسي والحدودي؛
• تشجيع الحالة المذهبية والطائفية، أو، في حال فشل ذلك, تشجيع التطهير العرقي والديني.

تأثرت هذه السياسة، وإلى حد كبير، بمسودة البيان الموجز لـ " عوديد إينون"، مسؤول رفيع في وزارة الخارجية الإسرائيلية، والتي يعود تاريخها إلى شباط 1982، والتي تفصّل المشروع الجيواستراتيجي لتقسيم كل منطقة الشرق الأوسط إلى أصغر وحدات ممكنة، والتي توصي، بمعنى آخر، بالتفكيك الكلي للدول العربية الواقعة على حدود إسرائيل.
وقد كتب عوديد إينون يقول: " إن التفكيك الكامل للبنان إلى 5 مقاطعات سيكون بمثابة سابقة لكل العالم العربي بما فيه مصر، سوريا، العراق، وشبه الجزيرة العربية وهي تتبع أساساً ذلك المسار. إن تفكيك سوريا والعراق لاحقاً إلى مناطق فريدة إثنياً أو دينياً كلبنان، هو هدف إسرئيل الأولي والرئيس على الجبهة الشرقية في المدى البعيد، في حين أن تفكيك القوة العسكرية لتلك الدول يشكل هدفاً رئيساً على المدى القصير. سوريا سوف تتفكك وتنهار، وفقاً لبنيتها الإثنية والدينية، لتصبح عدة دويلات كما هو حال لبنان اليوم، لذا سيكون هناك دولة علوية شيعية على طول ساحلها، دولة سنية في منطقة حلب، دولة أخرى سنية في دمشق تكون معادية لجارتها الشمالية، والدروز الذين سيشكلون دولة، ربما في جولاننا حتى، وبالتأكيد سيشكلونها في حوران وشمال الأردن. هذه الحالة ستكون ضماناً للسلام والأمن في المنطقة على المدى الطويل، وهذا الهدف هو في متناول أيدينا اليوم أساساً.
إن استغلال المذهبية والطائفية عامل قوي في زعزعة استقرار البلدان في المنطقة المستهدفة بسياسة " الفوضى الخلاقة" كما صاغها المحافظون الجدد الأميركيون. ففي سوريا، تسعى الإدارة الأميركية للحث على تغيير النظام. وبحسب تعليق لروبرت ساتلوف، مدير " معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى"، "ليس لدى الأميركيين مصلحة في بقاء نظام الأسد، نظام أقلية أسسه الهشة عمادها التخويف والتهويل. إن التشققات الموجودة في بنيان النظام يمكن أن تتحول وبسرعة إلى تصدعات ومن ثم إلى زلازل". ومن وجهة نظره، ينبغي للولايات المتحدة أن تركز على ثلاث أولويات:

• جمع أكبر قدر من المعلومات حول الديناميات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية و"العرقية" داخل سوريا؛
• إطلاق حملة حول مواضيع الديمقراطية، وحقوق الإنسان وسيادة القانون؛
• رفض خطة هروب لسوريا ، إلا إذا صرح الرئيس بشار الأسد بأنه مستعد للسفر إلى إسرائيل كجزء من مبادرة سلام أو قام بطرد كل المنظمات المعادية لإسرائيل من سوريا وصرح علناً بأنه يدين العنف، " النزاع المسلح، المقاومة الوطنية، بحسب اللغة المحلية".

حصل هجوم كبير على سياسة " الفوضى الخلاقة" في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2005. فقد قدم ديبلوماسي أميركي أولوياته الشرق أوسطية على الشكل التالي:

• الحفاظ على وجود ضغوط على سوريا، المتهمة بأنها مركز عبور لعدد من المناضلين المسلحين الدوليين إلى داخل العراق. وتتعلق الاتهامات ضد دمشق أيضاً بالمسألة اللبنانية. ورغم أن سوريا التزمت بالتعاون الكامل مع لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، فإن واشنطن مستمرة في سعيها لنزع سلاح حزب الله، أمر مطلوب بحماس من قبل تل أبيب.
• إقناع المجتمع الدولي بأهمية توجيه الاتهام لإيران من قبل مجلس الأمن الدولي بخصوص القضية النووية.

مع وجود العراق في مأزقه، أصبحت مسألة احتواء النفوذ الإيراني الأولوية الجديدة بالنسبة لواشنطن. إن السؤال الآن هو زيادة الضغط الدولي على إيران لحمل طهران على التخلي عن برنامجها النووي، أو على الأقل، الحد من قدرات ردها في حال حدوث هجوم ما على مواقعها النووية. هذا الاحتواء يشمل إجبار سوريا، آخر دولة حليفة لإيران في الشرق الأوسط، على كسر تحالفها مع إيران ونزع سلاح حزب الله اللبناني.
لذا تبقى دمشق على لائحة الدول الإرهابية لأنها ترفض تنفيذ " الشرق الأوسط الكبير"، ولأنها كانت حليفاً ليران منذ العام 1980، بداية الحرب العراقية- الإيرانية ( 1980-1988). إضافة لذلك، إن هجوماً على سوريا هو هجوم على إيران وتعتبر دمشق الخاصرة الرخوة لإيران. وقد أعلن عدد من المسؤولين في الإدارة الأميركية مؤخراً أنه " إذا ما كانت سوريا ترغب بالخروج من الأزمة، فإن كل ما عليها القيام به هو الانسحاب من علاقتها مع إيران والجماعات الإرهابية ( حزب الله وحماس)". إن إضعاف إيران سيتيح المجال لتركيا بأن تصبح القوة الإقليمية الكبيرة القادرة على جعل حدود إسرائيل الشمالية آمنة.
علق عدد من الشخصيات في المعارضة المحلية بالقول إن " الولايات المتحدة تخطط لكل شيء مع الأتراك، لكن مع الإخوان المسلمين أيضاً، كجزء من صفقة بثلاث شعب. هذا الحلف تمت المصادقة عليه خلال اتفاقيات 2008 في اسطنبول".
ينبغي تذكر أن واشنطن قدمت، تاريخياً، الدعم للإخوان المسلمين، باعتبار أن الإخوان هم الترياق الأكثر فاعلية ضد الاتحادات العمالية، والأحزاب القومية اليسارية، وكونهم مؤيدين للسياسة الاقتصادية الليبرالية المفيدة للقوى الغربية. ففي تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا، الجزائر، المغرب، الأردن ودول الخليج الغنية بالنفط، هذا عدا أفغانستان وباكستان، استمرت الولايات المتحدة بلعب ورقة الإخوان المسلمين كما كانت تفعل دائماً منذ توقيع " معاهدة كوينسي"، بين الرئيس روزفلت والملك ابن سعود في 23 شباط 1945. هذا التحالف الصارم الذي خصص أكبر الحقول النفطية في العالم للشركات النفطية الأميركية مقابل الحماية العسكرية والسياسة للعائلة السعودية، تم تمديده في العام 2005 60 عاماً أخرى. أما بما يتخطى ثورات " الربيع العربي"، لا تزال " معاهدة كوينسي" بمساعدة الإخوان المسلمين مستمرة بتوجيهاتها بخصوص كيفية إدارة القوى المسلحة، قوى " الثورات العربية" المختلفة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
في مقابل مساعدة الولايات المتحدة ودعمها، كرر المجلس الوطني السوري مرات عدة أنه إذا ما جاء إلى السلطة، فإن النظام الجديد سيقطع علاقاته مع حزب الله، وحماس، وإيران ويفتح محادثات مباشرة مع إسرائيل.
لكن بالنسبة للإخوان المسلمين، تتعارض الديمقراطية مع المبادئ الإسلامية. إن الترويج للديمقراطية هو، وببساطة، وسيلة لإنهائهم، فخ للوصول إلى أهدافهم: خداع الغرب والإطاحة بالنظام بمساعدة قطر.

استراتيجيات خصوم سوريا الآخرين
يعلق لؤي حسين، رئيس جبهة إعادة بناء سوريا، فيقول إنه بما يتخطى الإستراتيجية الأميركية، " فإننا شهدنا تدخلاً فاضحاً من قطر، وتركيا، وفرنسا". كما ينتقد عمر أوسي التدخل الخارجي أيضاً، تحديداً تدخل القوى الغربية، إضافة إلى إسرائيل وتركيا.
تتصرف دول الخليج والاتحاد الأوروبي كمجرد أرقام مساعدة لواشنطن في معالجتها الأزمة السورية. وكانت البلدان الأقل عداء لسوريا ( إسبانيا، إيطاليا) قد أعلنت أن من المستحيل مقاومة ضغوط الموقف الأوروبي، المنفذ في بروكسل بالتعاون مع الناتو ودول الخليج.
تبقى قطر بلداً مساعداً للولايات المتحدة، أداة بخدمة الإستراتيجية الأميركية ( ليبيا، سوريا). فالإمارة دولة غنية ( الغاز ، النفط) لكنها تضرب بما يفوق وزنها بكثير حتى، بسبب تحالفها مع واشنطن وشبكتها الإعلامية "الجزيرة". ويعلق عمر أوسي على ذلك بقوله إن " قطر بلد صغير ومصطنع – عدد سكانها 1.7 مليون، بمن فيهم 80% من المهاجرين- حيث لا وجود للديمقراطية وحقوق الإنسان. وهي لا تتردد، برغم ذلك، بإعطاء الدروس لبلد كسوريا، مهد الحضارة والتاريخ الممتد لآلاف السنوات".
أما أمير قطر فيقدم نفسه على أنه سلفي معتدل. لقد سعى، تقليدياً، إلى استبدال الهيمنة السعودية الموجودة في العالم الإسلامي السني. هذا التنافس مع السعودية تحول لصالحه في هذه اللحظة، حيث إن العائلة المالكة السعودية تمر الآن بعملية خلافة جديدة تجعل العشائر المختلفة تتبارى ضد بعضها بعضاً.
السعودية، التي لديها سيطرة على أقلياتها من الجماعات الشيعية، لا ترغب بالظهور في الجبهة الأمامية في النزاع ضد سوريا. كما أنها تتخوف أيضاً من الاضطرابات على أراضيها. علاوة على ذلك، ونظراً للأحداث الأخيرة في البحرين، لا تستطيع الرياض القيام بعمل ما ضد إيران أو حزب الله مباشرة. في كل الأحوال، لم تفوت المملكة الفرصة بالقيام بضربة غير مباشرة ضد النظام في دمشق، الخاصرة الرخوة في " محور الشر"، عن طريق التمكين بحصول اضطرابات عبر الحدود.
حضرت الجامعة العربية في المشهد بعد ثمانية أشهر من الأزمة، بإيعاز وضغط دولي، من الولايات المتحدة تحديداً. وبحسب رأي البطريرك غريغوريوس الثالث لحام، بطريرك الروم الكاثوليك، " لو أن الجامعة العربية فعلت للفلسطينيين عشر ما فعلته للديمقراطية في سوريا، لكان للفلسطينيين دولتهم الخاصة منذ زمن طويل جداً".
يقول أحد الديبلوماسيين العرب الموجودين في دمشق إن " الجامعة العربية مجموعة غير متوازنة، مؤلفة من حوالي ست دول خليجية، تملك هذه الدول البترودولار ولها تفسيرها الأكثر رجعية للإسلام. وتسعى الدول الخليجية لشراء الأعضاء الآخرين، بما في ذلك مصر وبلدان المغرب العربي، وهذه الأخيرة هي في الخط الأمامي لـ " الثورات العربية ". ومنذ كانون الثاني 2011 و"الثورات" العربية، يبدو سنشهد حكومات ملكية نفطية خليجية تنتقم من " جمهوريات عربية".
تركيا لاعب رئيس في هذه الأزمة. " تسعى أنقرة لأن تعيد إنتاج النموذج الليبي في سوريا وتريد رؤية نموذجها الخاص للحكومة وقد صدرته إلى البلدان العربية بدعم من الولايات المتحدة"، هذا ما قاله عدد من رؤساء المعارضة المحلية السورية، ثم أضافوا معلقين بقولهم، " إن تركيا بحاجة لإضعاف سوريا وإيران لضمان وضعها كقوة إقليمية". تركيا مترددة؛ هي تريد لعب دور في مستقبل سوريا، لكنها تتخوف من عدم الاستقرار لبلد تتقاسم حدوداً معه بطول 800 كلم. فالأتراك قلقون ومتقلبون. فهم لا يريدون القيام بمغامرة حيث إنهم حذرون من جبروت الجيش السوري.
لا يمكن لأنقرة أن تغفل المسألة الكردية أيضاً. " أعلنت تركيا رسمياً للسلطات السورية أنها لن توفر ملجأ للمقاومين المسلحين على الأرض التركية أو تدعمهم. لكن هذا الأمر غير صحيح. تركيا لن تكون قادرة على إنشاء منطقة عازلة على طول حدودها. إذا ما فعلت ذلك، فإن أكراد سوريا سوف يتحالفون مع حزب العمال الكردستاني لمهاجمة اسطنبول. لذا أنقرة لديها مشكلة خطيرة بين يديها"، يقول عمر أوسي.
يقول عمر أوسي أيضاً إن " أنقرة مسؤولة عن الإبادة ضد الأكراد وضد شعوب أخرى. فقد قتلت تركيا، منذ العام 1984، 50000 كردي. لقد قصفت قرى مدنية بطائرات زودتها بها الولايات المتحدة وهي تتعاون مع إسرائيل. وتريد إعطاء دروس لسوريا!".

مناصرو سوريا
بإمكان سوريا الاستمرار بالاعتماد على الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن الدولي. فهذان البلدان مستمران بالعمل بشكل وثيق مع دمشق حول الأزمة. وتسعى موسكو لجلب الجميع إلى طاولة المفاوضات، وهو أمر يرفضه المجلس الوطني السوري. ولن يتخذ بشار الأسد أي قرار يمكن أن يضع شركاءه في وضع صعب.
لقد أصدر الروس تحذيرات للقوى الغربية في عدة مناسبات، " انتبهوا إلى عدم تهديد سوريا كثيراً جداً!". فموسكو، ورغم أنها تعتقد بأن الحكومة كانت مسؤولة عن العنف، إلا أنها زودت سوريا بأول منظومة من صواريخ كروز الدفاعية الساحلية المتحركة المضادة للسفن من نوع " Yakhont"، لتجنب أي تدخل عسكري أجنبي عن طريق البحر.
إن سوريا ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة لروسيا، حيث أنها توفر للأسطول الروسي مرفأه الرئيس في البحر المتوسط. إذا بإمكان المياه العميقة لمرفأ طرطوس تأمين وجود الغواصات والسفن الروسية إضافة إلى الفرقاطات والسفن الكبيرة. ونحن نقدر وجود ألفاً من المساعدين التقنيين الروس في سوريا.
أما الرواية التي تقول بوجود من 2000 إلى 3000 من الحرس الثوري الإيراني البازداران مزروعين في القوى الأمنية السورية فتبدو مسألة بعيدة وغير مؤكدة حتى كتابة هذه السطور. لا تبدو الحكومة السورية بحاجة لأحد للحفاظ على النظام في البلد. مع ذلك، أعلنت إيران أن سوريا لن تواجه هجوماً خارجياً وحدها، مهما يكن شكل هذا الهجوم.

العقوبات الاقتصادية وتأثيرها
يعتقد البطريرك غريغوريوس الثالث لحام بأن " التلويح والتهديد بالعقوبات أمر سلبي تماماً". أما رئيس المبادرة الوطنية للأكراد السوريين فيضع تأثير هكذا عقوبات في التصور التالي عندما يقول إن " البلد ينتج 3 مليون طن من القمح ولا يستهلك سوى نصف الكمية. سوريا لديها اكتفاء غذائي ذاتي بنسبة 80%. ولديها احتياطي من الغذاء يكفي عامين".
يوفر القطاع الزراعي السوري، الذي يوظف 35% من السكان الناشطين، 80% من حاجات البلاد، رغم أن سوريا تعاني من مستوى تحديث غير كاف وهي تواجه قضايا نقص المياه. وقد بدأ العمل بمشروع ري كبير للأراضي الزراعية في الشمال وشمال شرقي البلاد. ومن المفترض الانتهاء منه في السنوات العديدة المقبلة، ما يزيد الإنتاج الزراعي. كما أن مشاريع زراعة الفاكهة والخضار في البيوت الزجاجية، وتوضيب الإنتاج الزراعي للمواد الغذائية أمور قيد التطوير.
هناك 22 مصنعاً ملك للدولة تغطي كامل قطاع الأعمال الزراعية، بما في ذلك إنتاج الألبان والأجبان، والفاكهة والخضار، وزيوت الطبخ، والبسكويت، والتبغ، الخ. هذه المصانع تقع تحت سيطرة "المؤسسة العامة للصناعات الغذائية ( GOFI)". تحافظ سوريا أيضاً على احتكارها لسلع أساسية معينة كالسكر، والقمح، والمياه المعدنية، الخ.
وفقاً لمصادر مالية مختلفة، " إن الطبقة البرجوازية السنية ستكون مرتاحة حتى لو تم قطع الواردات التركية، حيث أن هذه الواردات تسببت باختفاء جزء هام من الصناعة السورية. هناك مصانع مختلفة ومتنوعة أعادت بدء عمليات التصنيع لديها لملأ الفراغ". لقد وصل حجم الصادرات التركية إلى سوريا قبل الأزمة إلى 2.3 مليون دولار ، في حين لم تصل الصادرات السورية إلى تركيا إلا إلى 600000 دولار فقط. وبذلك يكون الميزان التجاري منحرفاً.
لا يعتقد معظم ممثلي المعارضة المحلية بأن الحصار سينفذ بالكامل على أساس مدى طويل. فالدول المجاورة لسوريا، بما فيها تركيا، تخسر أكثر مما تربح من هذا الحصار. إذ هناك استياء متنامٍ في أوساط الصناعيين الأتراك الذين يشعرون بأنهم معاقبون ويشكون ذلك لأردوغان.
في كل الأحوال، وبالنسبة للطبقة العاملة، بدأت العقوبات الاقتصادية تقرصهم مع ارتفاع أسعار الوقود، وانقطاع الكهرباء، الخ. أما التأثير الأول والواضح الآن للعقوبات على الاقتصاد الوطني فهو ارتفاع أسعار الغاز. وبحسب عدد من المحللين الماليين، سيصل التضخم إلى 20% تقريباً (كانون أول 2011) كما ستطال البطالة 35% من السكان. لقد انهارت السياحة وتسبب الحظر النفطي بخسائر تقدر بملياري دولار.

أي مستقبل لسوريا؟
تمر سوريا بأزمة بنيوية بمستوى لم تعرفه البلاد منذ الاستقلال. فمع بداية تحرك اجتماعي يمكن مقارنته بالاحتجاجات التي بدلت الوضع جذرياً في ربيع 2011في تونس، ومصر، وليبيا واليمن، تحول تسارع التاريخ هذا، وبسرعة، إلى مواجهة سياسية ومذهبية. ثم توسع لتصبح سوريا البؤرة لأزمة إقليمية ودولية جديدة أعادت تفعيل ثلاثة عوامل قديمة مترابطة فيما بينها:
• إعادة تأكيد هيمنة الملكيات النفطية على باقي العالم العربي الإسلامي؛
• مواجهة القيادة السنية مع " الهلال الشيعي"؛
• تنفيذ الخطة الأميركية المعروفة بـ " الشرق الأوسط الكبير" التي تسعى لـ " دمقرطة" كل البلدان في المنطقة، خطة بدأت بتغيير النظام في العراق في ربيع 2003.

لكن على عكس الأحداث التي انتشرت في تونس، ومصر، وليبيا، فإن مستقبل الأزمة السورية غير مرتبط بـ " المصير الشخصي" لرئيس الدولة السورية. فبشار الأسد لا يمثل عائلة فقط وإنما يمثل مجموعة دينية، برغم أقليتها، لها جذور قديمة في المنطقة الجبلية المعروفة بـ " المعقل العلوي". إن التواريخ التي قدمتها الشبكات الإعلامية الغربية المختلفة حول " سقوط النظام" تواريخ مستبعدة وضرب من الخيال. فهذه المواضيع يتم تحديثها بانتظام مع العناوين الرئيسة مثل "كيف يصمد النظام السوري؟". الواقع هو أن بإمكان النظام السوري الصمود وتحمل الأزمة، لأن لدى الحكومة موطئ قدم قوياً في مناطق البلاد، وتحديداً في دمشق وحلب، أكبر مدينتين في البلد واللتين يعيش فيهما نصف الشعب السوري.
في كانون أول 2011، يبقى التدخل العسكري الخارجي – مقارنة مع ذلك الذي حصل في ليبيا في ربيع 2011 – أمراً غير مرجح، وبقوة، ليس فقط بسبب المواقف الروسية والصينية في مجلس الأمن الدولي، وإنما، وقبل كل شيء، لأن الحسابات الجيوسياسة الإقليمية تشمل إيران مباشرة.
فالتدخل العسكري في سوريا مرتبط بشكل وثيق بإمكانية حصول هجوم إسرائيلي على مواقع نووية إيرانية، سيناريو له علاقة حالياً برؤىً سياسية أكثر مما له علاقة بوقائع عملانية.
يرجح أن يقود هذان السيناريوهان، الأول أو الثاني، إلى حرب إقليمية شاملة تقود بدورها بالتالي إلى مواجهة دولية أوسع نطاقاً.
وكما أشار معظم محاورينا، " رغم أن كل شيء قد تغير"، فإن الحل للأزمة سيأخذ بعض الوقت. فإذا كان النظام قد استمر لأكثر من 9 أشهر من الهياج، فمن غير المحتمل أن يسقط غداً. في كل الأحوال، إن التطور الفوضوي للوضع يعني وجود عدد من السيناريوهات المحتملة:

• تعميم الحرب الأهلية، ليصبح صراعاً إقليمياً ينتشر إلى داخل لبنان، الأردن، العراق، وحتى تركيا، ما يحوِّل الأزمة من " لبننة" محدودة إلى مستوى من الصراع أوسع نطاقاً، لينتهي حتى بـ " بلقنة" الشرق الأوسط مع وجود ارتدادات لذلك على الحكومات الملكية المنتجة للنفط ( يقدر الخبراء العسكريون أن سيناريو كهذا يمكن أن يتسبب بسقوط حوالي 300000 قتيل).
• احتواء الأزمة بالحد منها في الأراضي السورية، عبر إدارة أمنية منخفضة الشدة، مع ارتفاع في عدد الضحايا في فترات زمنية.
• حل على " الطريقة اليمنية" للأزمة بوساطة روسيا وإيران.

خطر الحرب الأهلية: " اللبننة" الإجبارية لسوريا
في بداية الأزمة، لم تكن الأزمة السياسية مشكلة سياسية ولا مشكلة مذهبية. بالإمكان تجنب خطر الحرب الأهلية برغم أن تسارع الأحداث يجعل الوضع أمرأً لا يمكن التكهن به للغاية. فالطوائف الدينية المختلفة لا تتوافق والكتل السياسية المضغوطة. وتستمر طبقة التجار السنية الثرية في دمشق بدعم النظام في الوقت الذي يلتقي فيه المرء بعلويين ومسيحيين في أوساط المعارضين للنظام.
قالت لنا أسما كفتارو إنه لا يمكن التخفيض من حدة الأزمة إلى مستوى البعد المذهبي والطائفي: "نحن كلنا سوريون، مهما كان ديننا". وهي لا تدعو للسلم بصفتها مسلمة سنية وإنما بصفتها سورية وطنية. وتستذكر قائلة إنه كان هناك اجتماعات مشتركة لتأدية الصلوات جعلت كل الطوائف الدينية في البلد تجتمع معاً في ثلاث مناسبات، لأجل خلاص ومستقبل البلد: " سوف تترك الأزمة ندوباً عميقة في مجتمعنا ولن تكون الأمور كما كانت مجدداً أبداً. أما الآن، فإن المهمة هي إعادة البناء مع العلويين تحديداً، لأن مشاعر النقمة والعداوات مستمرة بالتزايد نظراً لارتفاع العنف المذهبي".
يزعم بطريرك الروم الأرثوذكس الذي يحض أبناء رعيته على التصويت في الانتخابات البلدية في 12 كانون أول 2011، أن تقديم قانون الشريعة سيكون خطراً ومقيداً للمسلمين أكثر مما هو بالنسبة للمسيحين. ويقول مستذكراً أنه قد تم تدمير مساجد في العراق أكثر من الكنائس على يد جماعات إرهابية: " لقد رحل مسلمون أكثر مما رحل مسيحيون بكثير من البلد. في كل الأحوال، يصح القول إن المجتمع المسيحي دفع ثمناً باهظاً للغاية. فمن أصل 800000 مسيحي عراقي، فر 350000 منهم، وسعى قسم كبير منهم للحصول على اللجوء في سوريا.
ووفقاً للبطريرك غريغوريوس الثالث لحام، " إن أولئك الذين يستهدفون سوريا يستغلون التباينات العرقية والدينية، بالتركيز، تحديداً، على مناطق سنية معزولة، منقطعة حيث يمكن للمجموعات السياسية المتطرفة أن تنمو وتزدهر. وتفتش هذه القوى عن الشرارة التي ستشعل بها حرباً أهلية عامة. لكن لن تحصل حرب أهلية".
إن المسيحيين وجزء كبير من العلويين يتخوفون من المجهول ومن أن تطول مدة العودة للسلم مع وجود حريات أكبر. " الجميع يتخوف من الفوضى، وليس من الإسلام. المسيحيون ليسوا المشكلة بالثورة. الجميع قلقون بسبب هذا التسارع بالأحداث لكن التضليل لا ينجح، حيث إنه لم يخدع الشعب. فالتغطية الإعلامية للطفل المسيحي في حمص لم تدفع المسيحيين للقيام باحتجاجات عنف. إن مسيحيي سوريا ناضجون جداً ولن يسمحوا لأنفسهم بأن يتم التلاعب بهم بهذه الطريقة من قبل الإعلام الخليجي الذي كان دائماً ينظر إلينا بتعالٍ وكأننا شبه بشر"، قال لنا أحد أصحاب المحلات في ساحة العباسيين.

يتم تصنيع " لبننة" سوريا بمجموعة عوامل رئيسة ثلاثة:
• النظام السوري، وحداته العسكرية وأجهزته الاستخبارية المختلفة؛
• قادة سياسيون ومذهبيون بمن فيهم الإخوان المسلمين وقادة الجماعات السلفية المدعومون من قبل حكومات أو قوى سياسية في بلدان مجاورة: الأردن، لبنان، تركيا، والعراق إلى حد ما أقل؛
• قوى إقليمية ودولية متورطة في المنطقة: قطر، السعودية، الولايات المتحدة، وفرنسا إلى حد ما.
إن خطر اندلاع مواجهة طائفية ومذهبية شاملة، " لبننة" وحرب أهلية كاملة ليسا بالأمر المحتوم. إلا أن الجماعات المسلحة لن تلقي سلاح حربها، مع ما هو معلوم من انخراطها الآن في دوامة العنف الجارية. فهذه الجماعات تعتمد على تدخل المجتمع الدولي، بشكل مشابه لما حصل في ليبيا. أما بالنسبة للأقليات كالعلويين، المسيحيين، الأكراد، والدروز إلى حد ما، فإن نهاية نظام البعث ورحيل بشار الأسد سيعني إثارة حرب أهلية وإقليمية ستكون لها عواقب وخيمة، تقارن بتلك التي حصلت في البلقان وضحاياها الذين بلغ عددهم 300000 قتيل.
برغم عدد الضحايا حتى الآن، إلا أن كل شيء يعتمد على قيادة بشار الأسد لجعل القوى التقدمية في البلد تتحد ومنحها تنازلات سياسية والتحرر الاقتصادي الذي ترغبه. هناك اليوم خطر هائل ماثل في "لبننة" سوريا مع ، وإضافة إلى، توسيع فتنة عالمية بين العلويين/ الشيعة من جهة والمجتمعات السنية في المنطقة من جهة أخرى. في كل الأحوال، هذا السيناريو الكارثي الذي سيقود بالتأكيد إلى موت مئات آلاف الناس ليس أمراً محتوماً.

نهاية النموذج الاجتماعي ـ الديني السوري
إن كل الناس الذين تحدثنا إليهم أصروا على أنهم لديهم الخصوصيات الاجتماعية، الثقافية والدينية لبلدهم، خصوصيات متعلقين ومرتبطين بها بقوة. ويعتقد عمر أوسي بأن هذه الخصوصيات تضمن السلم والانسجام وينبغي حمايتها. وقالت لنا أسما كفتارو إنه من الإجرام التضحية بهذا المجتمع الذي يظل نموذجاً للتسامح في المنطقة: "يجب على المسلمين السوريين محاربة التطرف من خلال التأسيس لهيئة وطنية تمثيلية". ولم يتردد البطريرك غريغوريوس الثالث لحام، بطريرك الروم الكاثوليك، بأن يقول مستذكراً، " هناك حريات دينية وتسامحاً في سوريا أكثر من أي بلد عربي آخر".
سوريا مجتمع تعددي. إذ ينتمي 40% من السكان إلى أقلية طائفية: مسيحيون كاثوليك أو أرثوذكس، مذاهب إسلامية أقلية ( شيعة، دروز، إسماعيليين)، مسلمون متشددون من غير العرب (أكراد). ولا يرغب أحد منهم بمواجهة قوة إسلامية سنية أصولية متطرفة.
مع ذلك، أجمع كل الذين أجرينا مقابلات معهم على القول إن " لا شيء سيكون كما كان مرة أخرى". إن النموذج الطائفي التعددي السوري وبنيته الاحتكارية للسلطة التي يتحكم بها نظام سلطوي سيخضعان لتغييرات جدية يمكن أن تقود إما إلى :
• تقسيم وتطهير إثني ومذهبي ( مشابه لاتفاقية دايتون في يوغوسلافيا السابقة)؛
• حل على النموذج الليبي يقود إلى رحيل جماعات الأقليات إضافة إلى طوائف أخرى إلى لبنان؛
• محاولة للإصلاح وتأسيس نظام طائفي تعددي مقارنة باتفاق الطائف ( 1989) في لبنان.
إن الهدف الرئيس لهذه الاستراتيجيات، المحلية، الإقليمية والدولية، المنفذة ضد دمشق، ليس الإطاحة بالنظام، الذي إذا ما كان قادراً على تحديث نفسه فإن بإمكانه لعب دور اعتدالي بين الفئات المختلفة في البلد وفي منطقته، وإنما الهدف هو اختفاء نموذج المجتمع السوري.

يمكن تعريف الـ "dictocracy" بأنه نظام سياسي يمثل القواعد الرسمية للديمقراطيات الغربية ومبادئ اقتصاد السوق، نتيجة لضغوط خارجية، عبر عقوبات اقتصادية أو تدخلات عسكرية بدرجات مختلف الشدة.
يلعب الدين دوراً ذا أهمية رئيسة في تثبيت الهوية الوطنية. وكما شهدنا في تطبيق اتفاقية دايتون في البلقان، بإمكان الـ "dictocracy" أن تولد ليس فقط انقسامات سياسية وحدودية، وإنما جولات جديدة من التطهير العرقي.
إن تونس، مصر، ليبيا، اليمن وسوريا تمر كلها الآن بمراحل من التحول ستدوم لفترة طويلة من الزمن. ورغم أن هناك تشابهاً بين بلد وآخر، إلا أن الأوضاع المختلفة تتحدى وتقاوم التعميمات السهلة ومقاربة " حجم واحد يناسب الكل". ونظراً لتاريخ سوريا، ونموذجها الاجتماعي- الديني ومحيطها الاقليمي، يقاوم هذا البلد تعميمات من هذا النوع بشكل أكبر حتى.
إن الثورات تتبع سياق بعضها بعضاً لكنها تختلف وتتباين بشكل واسع. فمهما تكن النتيجة، لا يزال من المبكر جداً، نظراً للجداول الزمنية الانتخابية لـ " الثورات العربية"، معرفة ما إذا كانت الأسلمة المتطرفة تتوافق مع الديمقراطية أو مع " dictocracy" ما بعد العالمية.
باريس، كانون الثاني 2012

فهرس

الفهرس 1
قائمةالمحَاورين

ميشال كيلو، عالم اجتماع، ممثل لهيئة التنسيق السورية وشخصية في المعارضة المحلية ( نهاية تشرين الثاني، في باريس).
أفراد من طائفة الروم الأرثوذكس من Saint-Paul le Damascene ( الأحد ، 4 كانون الأول).
لؤي حسين، رئيس " حزب بناء دولة سوريا" ( الإثنين 5 كانون أول، في مكتبه).
فايز ساره، كاتب وصحافي، مفكر في المجتمع المدني، مؤسس لجان التنسيقيات في العام 2005 (الإثنين 5 كانون أول).
غريغوريوس الثالث لحام، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الكاثوليك ( الاثنين 6 كانون أول، في الصرح البطريركي).
حسين العودة، كاتب وصحافي عمل كمستشار لمدة 14 عاماً لرئيس الوزراء ( الثلاثاء 6 كانون الأولـ، في مكتبه).
عمر أوسي، رئيس " المبادرة الوطنية للأكراد السوريين". مستشار سياسي لأوجلان للشرق الأوسط مدة 15 عاماً إلى حين اعتقاله في العام 1999 ( الثلاثاء 6 كانون الأول).
الأم آغنيس مريم دو لا كروا، الأم الكبرى اللبنانية- الفرنسية التي ترأس " وحدة"أنطاكية لطائفة الروم الكاثوليك، دير سان جيمس، الموجود على بعد 90 كلم من دمشق ( الثلاثاء 6 كانون أول).
جورجينا لانيوس نجمة ( والدة الطفل المقتول في حمص) وعائلتها ( حماه، الأربعاء 7 كانون الأول).
حسن عبد العظيم، محام، المنسق الرئيس للجان التنسيق السورية ( الثلاثاء، 6 كانون أول، في مكتبه).
أسما كفتارو، مديرة منظمة المرأة السنية، جمعية نسائية أهلية، عضو في منتدى المرأة السورية المسلمة والمنتدى الدولي للاقتصاد الاجتماعي والتضامني ( الخميس 8 كانون الأول، في منزلها).
الدكتور عدنان محمود، وزير الإعلام ( الخميس 9 كانون الأول، في مكتبه في الوزارة).
غالب قنديل، عضو مجلس الإعلام المرئي والمسموع الوطني اللبناني ( الخميس 8 كانون أول).
كما اجتمع المؤلفون مع عدد من الديبلوماسيين الأوروبيين وديبلوماسيين عرب للدول الأعضاء في الجامعة العربية المعينين في دمشق وباريس إضافة إلى فاعلين آخرين ومراقبين للأزمة السورية لم يرغبوا بذكر أسمائهم.
الفهرس 2
بضع نقاط مرجعية تاريخية

بدأ تاريخ سوريا كدولة مستقلة بفهم خاطئ. فلمكافأتهم على ثورتهم ضد الإمبراطورية العثمانية (1916)، وعدت بريطانيا العظمى الحركة القومية العربية بقيادة شريف مكة بتأسيس مملكة تكون عاصمتها دمشق. وفي العام 1918، دخلت القوات العربية دمشق وأسست المملكة بإدارة فيصل، أخ عبد الله بن الحسين، ابن شريف مكة، المولود لعائلة هاشمية عظيمة.
كان عمر المملكة قصيراً لأن الفرنسيين والبريطانيين وقعوا اتفاقاً لتقاسم بقايا الإمبراطورية العثمانية. ووضع اتفاق سايكس- بيكو حداً لسوريا الكبرى – بلاد الشام- التي كانت تشمل أراضي سوريا الحالية، لبنان، الأردن، وفلسطين. وبعد معركة ميسلون في تموز 1920، دخلت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال غويبت إلى دمشق. وفرضت فرنسا انتدابها على البلد بقرار من رابطة الأمم، الأمر الذي أدى إلى نفي فيصل إلى العراق.
شهدت فترة الانتداب إزدياداً في المشاعر القومية والثورات المتكررة ضد الحكم الفرنسي. وبعد انهيار حزيران 1940، سيطر البريطانيون والفرنسيون الأحرار على البلد. وقد أعادت الحملة السورية في حزيران/ تموز السلطة مرة أخرى إلى الفرنسيين الأحرار. وبمساعدة البريطانيين، استمر السوريون بالمطالبة برحيل الفرنسيين. حدث هذا في العام 1946، العام الأول من تاريخ سوريا الحديث. وأصبح هاشم الأتاسي أول رئيس للجمهورية السورية. بعد الحرب العربية- الإسرائيلية في العام 1948، قام الكولونيل حسني الزعيم بانقلاب عسكري وضع حداً للنظام البرلماني السوري في آذار 1949. وقد فر أنطون سعادة المتحزب لاستعادة بلاد الشام ( " سوريا الكبرى" أو "سوريا الطبيعية")، ومؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي،إلى لبنان، حيث واجه عقوبة الإعدام واتخذ سوريا ملجأً حيث وعده الكولونيل الزعيم بالحماية. في كل الأحوال، وبعد بضعة أشهر، قام الزعيم بتسليم انطون سعادة للسلطات اللبنانية وتم إعدامه. عقب هذه الخيانة، تمت الإطاحة بالزعيم نفسه بانقلاب عسكري آخر. وفي آب 1949، اعتقل الكولونيل سامي الحناوي، عضو الحزب التقدمي السوري الاجتماعي الكولونيل الزعيم وأعدم.
حصل الانقلاب الثالث في كانون الأول 1949، والذي قام به أديب الشيشكلي. وقد نصَّب هذا الأخير نفسه رئيساً للجمهورية في العام 1951 وحل البرلمان. وأملت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى منه التقيد باتفاقية حلف بغداد. ( حلف بغداد:هي منظمة معاهدة الشرق الأوسط والتي وقعت عليها كلمن العراق، تركيا، باكستان، إيران وبريطانيا في 24 شباط، 1955. انضمت الولايات المتحدة للجنة العسكرية التابعة للتحالف في العام 1958. أعيد تسمية المعاهدة بـ " منظمة المعاهدة المركزية" ( CENTO)، بعد انسحاب العراق في 24 آذار 1959. تم حل المنظمة في العام 1979. ومع قولبته بعد الناتو وتصميمه كامتداد لـ SEATO، ألزم هذا التحالف الموقعين عليه بالتعاون والحماية المتبادلة من دون التدخل بالشؤون الداخلية. كان هدفه الرئيس إحتواء نفوذ الاتحاد السوفياتي عن طريق إنشاء خط من الدول القوية على حدوده الشمالية).
وبأمل التوقيع على معاهدة سلام مع إسرائيل، قدمت له واشن

موقع الخدمات البحثية