قراءات إعلامية » تمثيلية أبواق واشنطن

أحمد فؤاد
مع تجاوز "طوفان الأقصى" ـ صراع الأمة الوجودي ـ مع عدوها اللدود لعتبة المئة يوم، كثاني أطول جولة حرب بعد النكبة ــ حرب 1948 ــ والتي استمرت عامًا و7 شهور بفترة فصل زمنية، وما تحقق فيها من تأثير مدوٍ بفعل ما استدعته قضية فلسطين من آمال تبعث بزمن عنفوان عربي قادر على سحق إرادة أميركا وأوروبا، ويحمل ثورة لإسقاط سنوات الظلم والقهر والسجن في أقبية الغيبوبة العربية الجماعية والتشتت والتللي، فقد جاء الوقت على أبواق واشنطن الزاعقة النابحة لتنهض معًا في محاولة واحدة للقيام والذود عنه وإعادة عقارب التفكك القومي والعصبيات الذميمة إلى صدارة المشهد وعنوانه الرديء الباهت.

رغم كل ما تحقق للعالم العربي من إنجاز حقيقي، ولد في لحظة نور ومجد بالمقاومة وعبرها، لا يزال طرف واحد من أطراف الصراع مصممًا على نشر صراخه المستجدي الذليل بطول الوطن العربي وعرضه، مؤمنًا بحق إلهه الأميركي في كل ذرة داخل نفسه وكيانه وبلده، مدافعًا مكرسًا عن هذا الوثن من أي فرصة قد تتاح لآخرين لمعاينة الحقيقة ولمسها كما هي في الواقع، واقفًا وحده وداعيًا الكل للتوقف لوحده، مهما كانت القيم العليا كالإنسانية والأخلاق والشرف الإنساني بمعناه المبسط جدًا داعون إلى الحل الجماعي لأزمة هذا الجزء من العالم كله ضرورية، كضرورة الهواء لاستمرار البقاء.

اليوم يجب الاعتراف بحقيقة واحدة للبؤساء العرب، عبيد الأميركي والصهيوني، وهو أنهم خونة أغبياء جدًا، صورهم وأصواتهم وتواجدهم يدنس ويسقط أية قضية، ووقفتهم في خندق الباطل ليست إلا نذير شؤم وبداية إفلاس وتعثر، وهم مع ذلك يقلون كثيرًا عن خونة سابقين كانت لهم درجة من الشيطانية تزين بيعهم الدائب والدائم للأوطان وهتكًا لحرمها، كان مداحو أنور السادات ــ الخائن الأول ــ أذكياء حين طرحوا الرخاء كنتيجة حتمية ووحيدة للإرتماء تحت قدم العدو، منحوا بعض العبيد المختارين ثمنًا للقبول بالذل، أما يوم الدم، وأمام القدس حتى، فهوان الخيانة وسلاسلها مجانية.

لم يكن غريبًا على الإطلاق أن تتزامن على فضائيات عربية، تنتمي وترعى تحت ظلال ما يعرف بـ "محور الاعتدال العربي" كلمة تمثيلية من جديد لوصف ما تقوم به المقاومة ضد كيان العدو، وبالطبع فإن نفوسهم الرخيصة لا تتصور النبل وتعجز عن فهم أرقى آيات الفداء وأعز التضحيات وهي تقدم بالرضا على عتبات علا الفخر والمحبة الصادقة، لن يفهموا أبدًا مغزى فكرة الإيمان التي تدفع شهيد وراء شهيد في سبيل القيام بواجب الجهاد نيابة عن أمة الملياري صامت، لن يشعروا سوى بالأرقام، ولا تترجم قلوبهم سوى أوراق الملكوت الأخضر الحقير المناسب.

ليس جديدًا أن تستعاد لفظة التمثيلية في لبنان تحديدًا، وفي لحظة أعقبت صيحة مدوية هزت الكيان من رد حزب الله في قاعدة "جبل ميرون" العسكرية الأخطر، ردًا أوليًا شافيًا للصدور على ارتقاء المجاهد الصالح صالح العاروري، في عملية قذرة معتادة للكيان الجبان بالضاحية الجنوبية، وفي يوم سيعتبر إرساءً ــ من جديد ــ لقاعدة الفعل في لبنان ليس ترفًا يملكه الكيان، وأنه قد فقد من زمن بعيد، وإلى الأبد، القدرة على إعادة ترميم صورته كحيوان شرس يخشى الجميع الاقتراب من فكه ولا يأمنون لغدره، في ايار/ مايو 2000 جرى كسر كل مألوف في أي ثابت عربي عن جيش الكيان، وفي تموز 2006 جرى دفن هذه الفكرة إلى الأبد، ومع عملية الثأر يجري التأكيد عليها بسواعد رجال الله المخلصين، بل وتحولت أقصى طاقات فعله وأعظم انتصاراتها أمام هول الضربة العسكرية إلى اختراق تلفاز في مطار بيروت.

ليس غريبًا على عقلية توابع السياسة الخليجية، والتي لا هي عقلًا ولا سياسة، أن تستعيد قصة التمثيلية من أرشيف التيه العربي لتضعه أمام جمهور يرى "طوفان الأقصى" وإصدارات المقاومة في فلسطين وعمليات حزب الله في جنوب لبنان وشمال فلسطين، وصواريخ المقاومة العراقية، وبأس أنصار الله في اليمن وصمودهم وعنادهم الشامخ، وتحاول إقناعه بأن ما يجري على كل جبهات القتال ما هو إلا تمثيلية أعدتها إيران والمقاومة بالتعاون مع أميركا لإقناع هذا المواطن العربي بحقها.

يجتهد صبية زمن العجز الأميركي وقواديه لمحاولة بائسة في إعادة استنساخ خطابات السادات الوقحة في مصر، بأن مصر حاربت الكيان قيامًا بواجبها ومسؤوليتها العربية، وهو خطاب يقول نصف الجملة ويترك للحمقى استنتاج نصفها، وكأنهم وصولوا لحقائق الكون المركزية وحدهم، الحقيقة أن مصر حاربت لأن مصلحة مصر الأولى والمجرة تنتفي بوجود الكيان، هي حاربت في طرف الحق لأن الباطل يعني على الفور الموت البطيء، وهي أن قادت في حكم عبد الناصر أمتها العربية، فلأنها كانت تؤدي دورها الطبيعي والأمين في طليعة أمتها، وأن العالم العربي منحها أثمانًا مؤكدة على هذا الدور، أضاف إلى صورتها الذهنية وقوتها المعنوية ونفوذها ورصيدها السياسي والثقافي ما هو مستمر بحصده مجانيًا إلى اليوم، وأنها حين تخلت عن واجبها المؤكد فإنها كانت تخون نفسها قبل أن تخون أخوانها وأهلها، وأن مصير الانتحار الجماعي اليوم أيضًا قائم وله شواهد تؤيده وتطرحه، ليس أوله سد النهضة ولا آخره سيناء المعزولة.

نخبة العار العربية لا تزال تجتهد لمحاولة إعادة بث خطاب الخائن للجموع، لكنها وبحقيقة كونها نخبة بائسة الإمكانيات وبليدة الحس وفقيرة في كل شيء، من المنطق إلى الذكاء، لا تستطيع رؤية الواقع الذي تشكل منذ زمن بعيد حولها، وصنع ثورة هائلة في تكنولوجيا الاتصالات، مكنت الجميع من الاصطدام مباشرة بصخرة الواقع، ومنحت الحق فرصة نادرة لعرض قصته وتوصيل رسالته، "غزة" ليست موجودة في قاموسهم هم، لكنها حقيقة أفرزتها تجربة الدم والمحنة والانتماء، المقاومة بالنسبة لهم تكلفة، وهي بالنسبة لبعضنا إيمان داخلي ويقين بالنصر الآتي من الله يتجاوز كل صندوق تفكيرهم المصمم بنظام أميركي للفهم والتشغيل والاستيعاب.
..
طوفان الأقصى رغم أنها عملية عسكرية هجومية فائقة القدرة والتميز، تضاهي أعقد عمليات المشاه التقليدي في التاريخ تكتيكيًا، بشكل قد تكاد تخطت معه بحدود نجاحها الواقعي المذهل يوم السابع من أكتوبر خطوط الفكرة الأصلية المرسومة، ليست عسكرية بالمعنى المألوف، بل يكمن نبل قيمتها وصدق تجربتها وإخلاصها في أنها استصراخة لضمير كل إنسان ودينه وإيمانه، إذا لم يكن شرف الإنسان ودينه وقلب حياته اليومي النابض ــ الآن ــ هو رصاصة تقوم بحق الله، أو على الأقل قطرة ماء جهادًا لفلسطين ونصرة لأهلنا فيها، فما يكون إذًا أو متى!

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية